بقلم: اسامه انور عكاشة
أعرف جيدا كل ما يقال عن الكوب نصف المليء أو نصف الممتلئ وأحفظ عن ظهر قلب قائمة الأوصاف والنعوت التي توجه كالسهام النارية إلي صدر كل من يرفع عقيرته بالنذير أو يضيء الأنوار الحمراء محذرا ومنبها أو متحدثا عما آل إليه الحال حتي صار التفكير في الكتابة عن طوفان الخطر الذي يحيط بالأمة المصرية نوعا من الاجتراء علي مقام مصر والزراية بها أو علي الأقل بعضا من المازوخية وجلد الذات وربما في أضعف الإيمان أصبح من قبيل التشويش علي الإنجازات وإنكار الايجابيات سيرا في ركاب المغرضين والحاقدين وذوي النوايا السيئة.. إلي آخر الاتهامات التي قد تصل أحيانا الي درجة الاتهام بالعمالة وتخوين الآخر ولكني رغم هذا أري أن إطلاق صفارات الإنذار تنبيها إلي الواقع المتردي والانهيار المتربص علي ناصية الزمن الآتي يعد عملا يرقي إلي مستوي أداء الواجب الوطني!
وقياسا علي هذه المقدمة أريد أن أكتب اليوم عن واحد من ملامح الأزمة التي تعتصر حاضرنا في مصر وتقرع جرس الإنذار إعلانا عن خطر يطل ويقترب وأقصد بالتحديد حالة التسيب والفوضي واختلاط كل شيء بكل شيء واختفاء المعايير القيمية التي تضبط إيقاع المجتمع بأسره في حركته الدائبة.. حركة تبدو لأعيننا جميعا الآن وكأنها نكوص سريع الي الخلف أو هي علي الأقل دوران في حلقة مفرغة لابد أن تؤدي في النهاية إلي سقوط الجميع في حالة إغماء أو غيبوبة عميقة لا يعلم إلا الله مداها أو مدتها. ولننظر إلي ما ينتجه هذا البلد الآن من ثقافة وعلوم وفنون.. أي إلي المنتج المعبر عن حالة أي أمة من الأمم في حيز معين من الزمن سنجد أن المنتج المصري في العقود الأربعة الخالية بما فيه من هزال ثقافي عام وفقر مدقع في حصيلة العلم »ومن أهم بنودها حالة التعليم المزرية« وكذلك حالة التشوه بالغ القبح في الإنتاج الفني الذي يتمثل في الفنون ذات التأثير المباشر في تكوين وجدان المواطن وتشكيل رؤيته للزمان والمكان كما هو الحال في السينما والمسرح وفنون الغناء والموسيقي والدراما. واسمحوا لي أن أتجاوز مؤقتا عن أحوال العلم والثقافة العامة فحديثها يطول ويحتاج إلي مساحات قد لا تكون متاحة في هذا الوقت وأركز بشكل أساسي علي الفنون ذات التأثير المباشر كما سبق وأن ذكرت.
بالنسبة للمسرح فأري ويري معي أصحاب الاهتمام الحقيقي بالدور التأسيسي والحيوي الذي يلعبه المسرح في حياة كل شعب أن المسرح في مصر يوشك أن يدخل في مرحلة الاحتضار واعفوني من إيراد مقارنات معلومة ومسلم بها من الجميع بين ما كان عليه المسرح في زمن ازدهاره في ستينيات القرن الماضي وبين ما أصبح عليه الآن وأعفي نفسه من سماع صيحات الاستهجان المعهودة تلقي اتهاماتها جزافا وأخفها أننا من دراويش فترة بعينها مازلنا أسري داخلها ومازلنا نتطوح دروشة في حضرتها ولكن حتي هؤلاء لن يستطيعوا أن ينكروا حال المسرح اليوم وقد تحول إلي عروض متناثرة غير منتظمة انفرط من خلالها عقد »الحالة المسرحية« وانعدمت إشارات الوجود المسرحي في الحياة المصرية وحتي الفوارق التي كانت تنظم التقاليد المسرحية لم تعد موجودة فلا بقي المسرح القومي مسرحا للروائع والأعمال المحترمة الكبيرة بل أصبح مباحا لتخرج باسمه علي خشباته عروض الكباريه المسرحي براقصاته ومهرجيه ورفع بدوره لافتة »التسويق والترويج السلعي للفن« نفس اللافتة التي رفعتها كل شركات الإنتاج الدرامي وشاركها منافسا تليفزيون الدولة الذي اندفع بجلالة قدره يتاجر ويبيع شاشاته للإعلان ضاربا بواجبه الإعلامي عرض الحائط.
أما السينما فهي السينما كما نراها منذ ما يقرب من الثلاثة عقود ومن سينما المقاولات والمخدرات إلي سينما الكوميديا و»الإفيهات« يا قلبي لا تحزن وإذا كانت هناك أفلام تعد علي أصابع اليدين واستطاعت أن تفلت من تلك الحلقة الجهنمية فقد تم ذلك استثناء من القاعدة والمشكلة الأساسية في السينما أن الحدود والفواصل بين سينما الموضوع وسينما صفحة الحوادث قد تلاشت وتغيرت المعايير أو بمعني أصح اختفت معايير الحكم علي المستوي والقيمة ومازال القانون الوحيد الذي يحكم مناخ السينما في مصر هو البقاء للعملة الرديئة في السوق والمتهم الأول أصبح الذوق الشعبي والجماهيري فالناس تدفع في أفلام التشوهات والعشوائيات ملايين تطفو بها علي قمة السوق التجاري للسينما المصرية بينما تتبدد جهود السينمائيين الجادين والفنانين الحقيقيين هباء كالدخان وتختفي من الساحة أعمال من بقي من الكبار القادرين علي إبداع سينمائي حقيقي »نسأل عن داود عبدالسيد وعلي بدرخان ويسري نصرالله وخان وبشارة وأسماء البكري« أيضا تلاشت هنا الحدود بين الجيد والرديء والفن واللافن وبتنا في هذا الحال نذرف الدمع ندما ونستمطر الرحمات علي الأيام التي كانت فيها الدولة ممثلة في وزارة الثقافة ملتزمة بواجباتها تجاه الإنتاج السينمائي والمسرحي باعتبارها جزءا من الخدمة الثقافية التي تقدمها الدولة للمواطن وأنا لا أنادي بتأميم السينما مرة أخري فقد تغيرت الظروف وجرت مياه كثيرة من تحت الجسور وأصبحنا مطالبين بأن نجد حلولا في إطار الأمر الواقع مهما كان مريرا. والأمر يبدو أكثر فداحة ومأساوية بالنسبة لفنون الغناء والموسيقي وقد نقول ما قالته أم كلثوم في عصر الغناء الذهبي »عايزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان« لن نستطيع مناشدة الزمن أن يرجع فهو نوع من العبث لا يتحمله الوضع الحزين ولكننا فقط نشير إلي حجم الكارثة من خلال مراقبة ما يحدث في ساحة الغناء اليوم حين وصل الأمر بمطرب يتقاسم قمة الشهرة مع مطرب آخر ويتنازعان الألقاب والجماهيرية وصل الي حد التغني بأبشع بذاءات القول متخطيا كل ما كنا نسمعه عن تردي غناء الراقصات والساقطات في كباريهات روض الفرج وعماد الدين في عهد ما بين الحربين، ورحم الله زمنا كنا نرتجف فيه اشمئزازا لكلمات أغنية تقول: »ارخي الستارة اللي في ريحنا أحسن عزولنا يجرحنا« أو أخري تقول »شفتي بتاكلني أنما في عرضك خليها تسلم علي خدك« والآن نسمع من يتغني بالصدور والأرداف التي تعجبه أكثر شيء فيمن يحب وفي موضع آخر يقول نفس المغني »دعها تأكل حضرتك«.. طبعا تحويلها من العامية إلي الفصحي كان من صنع العبد لله والأمثلة كثيرة وعديدة وعلي كل لون وفي كلمات الجميع حتي أصبحت تلك هي القاعدة وندر الاستثناء. دعونا بالمناسبة نحيي الفنانين الحقيقيين في منفاهم الذي أبعدهم لحسن الحظ عن المباءة.. دعونا نحني الرؤوس أمام فيروز التي صمتت وابتعدت ونشد علي يد من ظل يغني بجد محترما فنه وشعبه.
نقلا عن الوفد
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=7598&I=205