«الوهابية» المصرية و «الانفتاح» السعودى

بقلم: ياسر عبدالعزيز

فى نهاية شهر مارس الماضى، قام وزير الصحة الدكتور حاتم الجبلى بزيارة مفاجئة لعدد من المرافق الصحية فى بعض محافظات الدلتا، حيث تعرض لـ «أغرب موقف» واجهه منذ تولى الوزارة على حد قوله. فقد وجد الجبلى وحدة صحية بإحدى قرى المحلة الكبرى مغلقة تماماً، ولا يوجد بها أى مظهر من مظاهر الحياة، وحين اتصل مواطنون بمدير الوحدة لاستدعائه، جاء مسرعاً، حيث برر للوزير غيابه بقوله: «كنت باصلى».
وفى إطار الجولة ذاتها، عرج الجبلى على مستشفى طوخ المركزى، حيث سعى إلى مصافحة إحدى الطبيبات، غير أنها أبدت تردداً فى مصافحته، اتقاء للفتنة على الأرجح، لكنه أمسك بيدها، قائلاً: «أنا مسكتها بالعافية علشان أسلم عليكى.. ومتخافيش أنا إيدى مش نجسة».
فى شهر رمضان الذى ودعنا للتو، هيمنت المخاوف من أنفلونزا الخنازير على أجهزة الدولة وشغلت المواطنين، وفى الوقت ذاته كانت الحكومة عاجزة تماماً عن حل مشكلة تراكم القمامة فى أحياء الجيزة والقاهرة، وأصداء فضيحة رى المزروعات بمياه المجارى تملأ الآفاق، والأسعار ترتفع بوتيرة لا يدانيها سوى استفحال الفساد، والشارع يعانى انفلاتاً وانسداداً مرورياً خانقاً، لكن أجهزة الشرطة فى أكثر من محافظة سخرت جهداً ووقتاً كبيرين لتوقيف «المجاهرين بالإفطار» فى نهار الشهر الكريم.

قبل أيام نقلت «المصرى اليوم» عن إمام مسجد فى محافظة الشرقية قوله للمصلين إن «اختلاف العلماء فتنة، واللى ما لوش لحية يبقى ست». ويبدو أن الرجل لم يعجبه نشر هذا الكلام، لكنه لم يسع إلى نفيه أو الدفاع عن موقفه عبر الطرق المشروعة، بل قام، بمساعدة أعوانه، بضرب محرر الجريدة وتهديده، كما نُشر فى عدد أمس الأول الجمعة.
كثيرة هى المظاهر التى توضح بما لا يدع مجالاً للشك أن المجتمع المصرى يندفع بقوة نحو تبنى أساليب مغرقة فى التدين الشكلى بعيداً عن التمسك بجوهر الدين وتعاليمه الأساسية، وقد اجتهد باحثون وعلماء وكُتّاب كثيرون فى توضيح هذه الأساليب وتفنيدها وإبراز مخاطرها الشديدة وتداعياتها السلبية على صورة الدين السمح ومستقبل الدولة وقيم الجماعة الوطنية ومصالح الأجيال المقبلة وقدرتها على مواكبة التحديات المتوقعة ببناء قيمى متماسك وتدين فعلى أصيل يتجنب الرياء والمغالاة و»الدروشة».
وكثيرون أيضاً يحلو لهم ربط الاندفاع المصرى نحو مظاهر التدين الشكلى بعيداً عن تبنى قيم الإسلام الحقيقية الرامية إلى إحلال العدل والنزاهة والحض على العمل والإتقان وتجنب المعاصى فعلاً لا قولاً واقتناعاً لا رياء، بما يسمونه «الوهابية» السعودية، والتى استفحل خطرها عبر وسائل الإعلام المروجة لها وبعض العاملين فى مجال الدعوة من أتباعها، فضلاً عن التأثير المباشر على ملايين المصريين الذين دفعتهم الظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة فى مصر إلى العمل والإقامة فى دول الخليج العربية.

ولأسباب، بعضها مفهوم، تم بناء مقولة مفادها أن «ثمة صراعاً دائراً على عقل المجتمع المصرى وقلبه بين انفتاحه الثقافى والدينى والفكرى المعهود من جهة، والانغلاق والتزمت والتعويل على التدين الشكلى كما يظهر فى الفكر الوهابى السعودى من جهة أخرى»، ولقد تم ترديد هذه المقولة، وأُعيد إنتاجها آلاف المرات، بحيث صارت بمنزلة حقيقة، تورد ويتم البناء عليها من دون تدقيق أو مراجعة.
قبل أيام كانت ابنتى التى تدرس بالمرحلة الابتدائية بإحدى مدارس اللغات بالقاهرة تشكو لى من تضاؤل عدد الفتيات فى فصلها سنة بعد سنة، حتى باتت نسبتهن واحدة مقابل كل خمسة أولاد، وتسأل إن كان بإمكانها الانتقال من فصلها المشترك إلى فصل آخر يضم الفتيات وحدهن، قبل أن تجد نفسها الطالبة الوحيدة داخل الفصل.
تحدثت إلى أحد رجال التعليم لأستوضح الأمر، فأكد أن «النسبة التى يتراجع بها الإقبال على الفصول المشتركة فى المرحلة الابتدائية تشى بأن الفصل التام بين الجنسين فى تلك المرحلة سيتحقق طوعاً فى غضون سنوات قليلة، لأن أسراً كثيرة باتت تفضل ارتداء فتياتهن فى المرحلة الابتدائية الحجاب والابتعاد عن الفصول المشتركة».

فى غضون انشغالى بتلك المشكلة ومحاولة العمل على حلها، كانت الأخبار تتوالى عن افتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا بالسعودية، بتكلفة بلغت عشرة مليارات ريال، لتكون أول منشأة علمية من نوعها تسمح بالاختلاط فى المملكة، فى بادرة يمكن أن تشهد توسعاً فى المستقبل.
وعلى الفور تذكرت أننى أجريت أول دورة تدريبية مختلطة فى مجال الصحافة بالسعودية فى يوليو من العام ٢٠٠٧، حيث كان هذا حدثاً فريداً يبعث على استشراف المخاطر والآمال فى آن، لكن نجاح تلك الدورة أدى إلى قيامى بتنفيذ أكثر من ست دورات مشابهة أخرى على مدى العامين ٢٠٠٨ و٢٠٠٩.
لا يمكن لأى منصف أن يتجاهل التأثير السلبى لما يسمى بـ «الأفكار السلفية والوهابية المتشددة»، التى أتى إلينا بعضها من السعودية وبعض دول الخليج على مقاربتنا للدين وللحياة الاجتماعية والعامة، لكن، فى الوقت ذاته، لا يمكن لأى عاقل أن يتجاهل أن نخباً فى السعودية ودول الخليج تسعى إلى الخروج من أسر تلك الأفكار المعوقة والسلبية نحو الانفتاح والإيجابية ونبذ المظهرية والشكلية والرياء الدينى، فيما نركض نحن مسرعين فى الاتجاه المعاكس.

نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع