كمال غبريال
بقلم: كمال غبريال
ربما لا نجد مفهوماً متفقاً عليه ومختلفاً حوله في نفس الوقت بين الناس مثل مفهوم "الحرية". . فللكلمة وقع طيب عند الجميع للوهة الأولى فور النطق بها، لكن بعد لحظات من الحديث عنها بين طرفين، سرعان ما يحتدم النقاش وتتفرق السبل، لتوضع بعد كلمة "الحرية" ألف "لكن" و"لكن". . هذا الخلاف والاختلاف حول الحرية، لا يرجع فقط للاختلاف حول مفهومها وحدودها وضوابطها، لكنه أيضاً وبالأساس خلاف يرجع للطبيعة الذاتية للمختلفين أنفسهم. . إلى بيئاتهم المادية والثقافية، وإلى طبيعتهم البيولوجية الشخصية، وإن كنا نفضل النأي عن تناول الاختلافات البيولوجية بين البشر، وتأثيرها على موقفهم من الحرية، نظراً لما يحف بذلك من مزالق لا نحبذ الخوض فيها.
كلمة "الحرية" عند الكثيرين ممن لم يختبروها في حياتهم كلمة مرعبة، فهي تستدعي أول ما تستدعي في أذهانهم المسئولية عن الذات. . مسئولية اتخاذ القرارات، وما يتبعها من تحمل مسئولية ما يترتب على تلك القرارات عملياً. . نعرف في مجتمعنا أن عبارة "أنت حر" تستخدم للتهديد، فمن يرفض الاستماع إلى النصيحة، سيكون مصيره الطرد إلى عراء وفضاء الحرية، وهذا بحق لمصير مرعب، لمن لم يتعود على أن يكون سيد قراره ومصيره. . هذا أمر طبيعي، فالحرية لكي تتحقق للإنسان، لابد أن يمتلك الإمكانيات العقلية والنفسية، بالإضافة بالطبع للإمكانيات المادية، التي تمكنه بالفعل من ممارسة حريته، وتكون لهذه الممارسة مردوداً إيجابياً على حياته، كي لا تكون الحرية عبئاً عليه. . ففي القوانين القديمة الخاصة بالعبيد، كان هناك بند ينص على عدم عتق العبد إلا بموافقته، ويدلنا هذا على أن هؤلاء العبيد كان منهم من يفضل أن يكون مملوكاً، يتحمل مسئوليته مالكه، على أن يكون حراً متحملاً مسئولية نفسه.
الحرية ليست مطلوبة لذاتها، وإلا لكان يكفينا لتعريفها أن نقول أنها "تمكن الفرد من اتخاذ قراراته بنفسه، دون ضغوط خارجية عليه". . فمثل هذا التعريف وإن كان يندرج ضمن مواصفات الحرية، إلا أنه توصيف غير كاف، فمن الممكن أن يختار الإنسان القيود بمحض إرادته، وهذا بالطبع واحد من ممارسات الحرية، لكننا لا نستطيع أن نصف هذا الإنسان المكبل بالقيود التي اختارها عن طيب خاطر بأنه إنسان حر. . فأن تختار القيود التي تكبلك بنفسك، لا يعني هذا أنك صرت حراً. . أن تنصاع بإرادتك الذاتية لأيديولوجيا أو أفكار ومعتقدات، تحدد لك ماذا تأكل وماذا لا تأكل، ومواعيد هذا الأكل مواقيته، وتحدد لك ماذا تلبس أنت وزوجتك وبناتك، وماذا تتلو قبل أي عمل تعمله، أو أي جهة تولي وجهك تجاهها حتى وإن كنت المرحاض. . تعتقلك أو تعتقل أنت نفسك بنفسك داخل سجن له باب واحد للدخول، ولن تخرج منه إلا لو كنت جثة هامدة، أو مفصولة رأسك عن جسدك. . لا يمكن بأي حال توصيف مثل ذلك الوضع بأنه حرية، لمجرد أن لا أحد قد أجبرك عليه. . فقد يعتقل الإنسان نفسه بنفسه، فيتحول بإرادته الحرة إلى عبد لبشر، لا يتحرك خطوة إلا بإذن وإرشاد منهم. . يسجد لهم، ويتلهف على قبلة أو لمسة من أياديهم المقدسة، بل ويتمسح برفاتهم بعد مماتهم.
العبودية قد تُفرض على الإنسان من جهات خارجية مهيمنة وعاتية، لكن أخطر أنواع العبودية هي ما قد يفرضها الإنسان على نفسه، أو ينزلق إليها، وفق ما تم تنشئته عليه، أو لضعف شخصيته وهزال قدراته. . هنا تكون العبودية الحقيقية. . فهناك قديسون وثوار أحرار تم اعتقالهم لسنوات طويلة خلف قضبان السجون. . تم سلب حريتهم الخارجية، لكن حريتهم الداخلية بقيت متوهجة متألقة. . لدينا نموذج نلسون مانديلا، المناضل من أجل تحرير قومه السود في جنوب أفريقيا في عهدها العنصري، وظل لمدة 36 عاماً خلف قضبان سجنه، لكنه ظل خلالها هو ذات الثائر الحر القوي، ليخرج من خلف القضبان إلى منصب رئيس جمهورية بلاده!!
نقول أن قيمة الحرية الحقيقية ليست في الحرية ذاتها، فالحرية مطلوبة لأنها البئية أو الحالة التي تتفتح فيها ملكات الإنسان، وتنمو وتتجسد قدراته ومواهبه. . الحرية بالنسبة للإنسان الحقيقي كالماء بالنسبة للأسماك، فيها يحيا، ويمارس وجوده الطبيعي كإنسان، أما وجود الإنسان تحت نير العبودية بكافة أشكالها وألوانها، فهو وجود زائف، يتحول فيه الإنسان إلى كائن ضعيف وخامل ومرتعب، يتسول وجوده الفيزيقي من تحت أقدام أصحاب السيادة والقداسة والسطوة.
لسنا نردد عبارات إنشائية براقة الشكل خاوية المضمون، فنظرة عابرة إلى حال شعوبنا، المستعبدة بكافة صنوف العبودية، من سياسية ودينية واجتماعية، لمقارنتها بحال شعوب الغرب الحرة والمتحررة، نجد أننا عاجزون حتى عن جمع قمامتنا وتصريف مياه الصرف دون أن تغرقنا، أو تختلط بمياه الشرب، في حين أن الشعوب الحرة قد داست بأقدامها على سطح القمر الذي يتغنى به شعراؤنا. . هذه الشعوب الحرة تمد إلينا أياديها لتساعدنا على التحرر من كافة أغلالها، لنلتحق بمسيرة الأحرار والحضارة، لكننا نحجم حتى الآن عن الاستجابة لنداء الحرية، نفعل ذلك عجزاً وضعفاً، أو جهلاً واستسلامنا لجلادينا وسجانينا، الممسكين بالسيوف، أو المستترين خلف النصوص المقدسة، ينتحلون قداستها لذواتهم المتضخمة بفضل هواننا وصغارنا وتفاهة شأننا، وهواننا على أنفسنا، قبل أن نهون في أعين مستعبدينا.
لا نعتقد أن الأسياد أو السادة هم من يستعبدون العبيد، فالصحيح هو أن العبيد هم يبحثون عمن يتسيد عليهم، فطبيعتهم الخانعة تفرض عليهم أن يهجروا الحرية البغيضة والمرعبة، ليرتاحوا في ظلال وأمان العبودية، التي تضمن لهم بوعودها جنات وارفة، وتنزل عن كاهلهم هموم حاضرهم ومستقبلهم. . وهكذا ينطرحون سعداء في مستنقع العبودية، يستصرخون سيدهم كل أوان أن يشملهم بحنانه ورعايته المقدسة القادرة.
على ذات النهج أيضاً لا يكون النصابون هم من يستغفلون المغفلين ويسلبونهم ما يملكون، فغفلة المغفلين هي التي توجد من يقوم بدور النصاب، ليتزاحم على أبوابه المغفلون.
لا تكفي بعض المواعظ أو الكتابات التنويرية، للانتقال بشعب من حالة الاستنامة في ظل العبودية، إلى الفضاء الرحب للحرية. . فمثل هذا الشعب يحتاج إلى التأهيل وليس فقط للتنوير، فالحرية ليست حالة ثقافية أو عقلية وحسب، لكنها أيضاً وبالأساس مرتبطة بقدرات الإنسان ومهاراته، التي تكسبه الإحساس بالشجاعة والقدرة على الوقوف على قدميه حراً، مستغنياً عن كل دعم أو عون خارجي، سواء كان هذا الدعم مادياً حقيقياً، أم دعماً وهمياً خرافياً، لا يوفر غير الاطمئنان الزائف، إلى حاضر بائس ومستقبل مجهول.
يحتاج المجتمع للانتقال من حالة العبودية إلى الحرية أن يغير نوعية علاقاته في كافة مناحي الحياة، لتصير علاقات ديموقراطية، تقوم على الحوار وعلى المناهج العلمية في البحث عن حلول للإشكاليات، وليس توسل هذه الحلول لدى السيد الحاكم الأوحد، أو لدى أصحاب الفضيلة والقداسة. . علاقات تتيح لما نسميه بالأغلبية الصامته أن تتكلم، وأن يعبر كل فرد عن نفسه، عن آماله وطموحه ووجهة نظره، دون خوف أو تخوف أو تقية. . أن يتعلم الفرد أن يعبر عما بداخله حقيقة، وليس عما يريد السيد أو المجتمع له أن يقول ويردد كالببغاء. . أن نعيش جميعاً بوجه واحد، وليس عدة أوجه لكل منها مجاله. . فبهذا فقط يمكن أن نجفف مستنقع النفاق الذي نخوص طوال عشرات القرون في أوحالة.
هل سيأتي يوم يمكن أن نقول فيه باطمئنان أنا كشعب صرنا نعشق الحرية؟
http://www.copts-united.com/article.php?A=8046&I=217