حينما لا تصبح العمامة كالنعامة!

نذير الماجد

بقلم /  نذير الماجد
كنت أتوقع منذ البداية أن تداعيات أحداث المدينة لن تطول كثيراً، وما نجم عنها من تصعيد وتداعيات ومطالبات مشروعة تتردد أصدائها في السر والعلن ستتبخر مع أول ابتسامة أو ترضية توجه للضحية وكأن شيئاً لم يكن، وستفتر عاجلاً حدة المناوشات بين المتخاصمين.
كنت أتوقع أن النار مهما تعالت ألسنتها ستنطفئ وستخبو أو على الأقل ستختبئ خلف رماد الترضيات المسكنة والتي تعمل على بقاء حالة اللاحرب واللاسلم، لكن المفاجئ تماماً على الأقل بالنسبة لي هو ظهور صوت ناشز بين أبواق النعامات بدأ يتمرد على حالة السبات الذي يسعى البعض لتأبيده كعلامة فارقة لهذا المجتمع الواقع بين كماشة التحفيز المذهبي والجبن في اللحظات الحاسمة.
هذا الصوت كان يدرك تماماً ضرورة عدم تمرير واقعة المدينة بشكل مجاني أو معالجتها انفعالياً كصرخة مدوية يعقبها صمت مطبق، ولأننا انفعاليون أكثر مما ينبغي أصبح هذا الصوت يتيما شاذاً ليس له أي صدى سوى في حناجر المتعبين المنهكين الذي يشاغبون وعلى جلودهم وشم الزنزانة.

لقد انبثق هذا الصوت بعدما هدأت سكرة الإنفعال لهذا يراد له أن يصمت وهو الصوت الذي صدح به رجل له عمامة لا تختلف كثيراً عن بقية العمامات، لكنه رفض أن يدس رأسه في التراب حينما حانت ساعة الإمتحان، فالملاحظ أن أغلبية حشود المعممين لا يذخرون جهداً من أجل التعبئة المذهبية المستمرة على مدار السنة، تحفيز مستمر ومتصاعد في كل المناسبات الوعظية التي تشاع فيها كل أدبيات المثلنة للذات والشيطنة للآخر.
في هذه المناسبات يتخذ الخطاب الوعظي لهكذا عمائم لغة صدامية عالية تستهدف التوتير المتزايد وتفاقم الشحن العاطفي الموغل في الديماغوجية. من هذه المنابر تتطاير كل المفاهيم الإقصائية التي تبلورت في سياق ثقافي حاضن للتوجهات الفكرية التي تظن أن بوسعها احتكار الحقيقة.

لكن أغلب من يرتقي هذه المنابر المشرعة أغلب أيام السنة هم من تلك العمامات التي تهرب ساعة الذروة إلى أحضان العسل، لتترك صغار الناس يصارعون أقدارهم، فهؤلاء في نظر هذه العمائم هم وقود النار التي يجب أن تظل مشتعلة، فالخطيب الذي يملك فصاحة البيان وشجاعة منقطعة النظير في ترسيخ مبادئ العقيدة والولاء للطائفة الحقة يتحول بين عشية أو ضحاها إلى مسالم وديع بل أحيانا يبدو كما لو أنه غاية في العقلانية، فيفاجئنا بخطاب عقلاني لا يمت بصلة إلى تلك الصرخات المجلجلة والمشحونة بترسانة عاطفية وإنفعالية كان يرددها بالأمس القريب.
إن الشجاعة أمام الجمهور تتحول إلى كياسة وفطنة وهدوء أمام السلطة، هذه هي الحقيقة المغيبة، فهم يخدعون الناس عندما يقدمون أنفسهم على أنهم حماة للدين والمذهب لكنهم لا يحمون إلا مصالحهم وأحضان العسل تحت خمائل الحرير! وطبيعي أن من يدفع الثمن هو الإنسان المطحون الذي ليس له أي قيمة في منظومتهم القيمية المهترئة وسلوكهم المبتذل.

ما أكثرهم الخطباء الذين يصدعون الرؤوس بخطاباتهم الشقشقية والنارية التي سرعان ما تتحول في أحضان العسل إلى مجرد تسلية أو تزجية للوقت، لكن ومن حسن الحظ أن صوتاً واعداً لازال لديه المناعة تجاه هذا الوباء الشيزوفريني المنتشر بين بعض العمائم، هذا الصوت المنسجم والذي يتمتع بوحدة موضوعية في الوعي والسلوك صدح به مؤخراً أحد رجال الدين هو "الشيخ نمر النمر"، فكان أن تفرد ودفع ضريبة التفرد والشذوذ.
ورغم إمكانية تسجيل تحفظ على مضمون الخطاب من ناحية ترسيخ المقولات المعززة للشحن المذهبي، ورغم الإختلاف في تصور الأزمة والإشكالية بين خطاب موغل في الإنشداد إلى الجماعة وصبغ كل الحقوق بصبغة طائفية ومذهبية والتعامي عن كل التحديات التي يزخر بها الواقع السياسي، وبين خطاب آخر يجد الأزمة ماثلة في غياب مفهوم الدولة والمواطنة ومؤسسات المجتمع المدني وكل المفاهيم التي بطبيعتها تتجاوز الذهنية الطائفية، إلا أنني ورغم كل ذلك لا يمكنني إلا أن أقف إجلالاً أمام هذه العمامة التي تمكنت من تحقيق الإنسجام بين الفكر والسلوك، بين الشحن والتعبئة المذهبية والتي تتسم بها كل العمائم وبين الإصرار على متابعة الطريق حتى النهاية وتجنب الإصغاء لسلوك التثبيط الذي يمارسه "بعض" ذوي العمائم أنفسهم!

ما أخاله من الشيخ أنه يدرك تماماً وعورة الطريق الذي يسلك، كما أنه يعي تماماً فداحة الأزمة التي تمر بالبلاد، وإني أرى بكل صراحة أن في حديثه الصاخب طوق نجاة أو بذور لما يمكن أن يؤسس عليها أي مشروع وطني لتجاوز القطيعة وردم الهوة بين المتخاصمين في الوطن الواحد، لهذا يحتاج إلى تفهم بل ومساندة مقترنة بمحاولة إنضاج لمضمون الخطاب الذي يتبناه الشيخ، على أمل أن يكون هنالك توجه لتبني تلك المطالب التي تسعى إلى تحقيق حاجات أساسية يفتقدها إنسان هذا الوطن، وهي ليست بالضرورة على تماس واضح بتلك الهواجس الطائفية، ما يحتاجه المواطن ليس بناء أضرحة أو تعمير مساجد أو حسينيات تخلو من المرتادين إذ لم يعد لها أي بريق أو جاذبية عند من يفتقد أدنى الحقوق والحاجات الأساسية، فليس للمرء أن يكون مسكوناً بالهواجس المذهبية مادامت كرامته تُهدر في اليوم عشرات المرات، ولا يمكن له أن يشتغل بالتطلعات الدينية مادامت معدته تشكو الخواء، ومادامت إنسانيته مستباحة وحقوقه مستلبة.
هل يمكن أن تفعل الحسينية شيئاً في ظل غياب كلي للعدالة والمساواة وكل الحقوق التي ناضلت كل الشرائع وكل الأديان من أجلها؟ إن الحسينية التي تشيد على أنقاض من الإستبداد وغياب كل الحريات ليست سوى استحمارا وتخديرا للعقول.

 وحده مطلب الحرية هو الذي بإمكانه أن يتيح بناء حسينية جميلة ومسجداً نقياً طاهراً من كل أدران النفاق والتصنع والإنتهازية، ووحدها المطالبة بإعادة تأسيس مفهوم حديث للأطر الإجتماعية التي تتيح توزيعاً عادلاً للثروة واعترافاً متماثلاً بكل ألوان الطيف الفكري والمذهبي في المجتمع. وكل تغيير لا يراعي هذه الحيثيات سيكون محكوماً بالفشل، لأن كل خطاب سياسي مطلبي لا يدمج في بنيته هذه المطالب على مستوى الفكر والممارسة لا يمكن أن يحظى بالشرعية ولا بالتجاوب من شرائح خارج حدود الجماعة أو الطائفة، وبذلك سيظل مجتزئاً غير قادر على التمدد.
ورغم هذه المؤاخذات إلا أن الشيخ يستحق التقدير والإحترام لاشتراكه في نشاط جعله ذوي العمامات المطعمة بالحرير حكراً على العوام الذي يحترقون في لظى حرائقهم، تلك الحرائق التي يساهمون في إشعالها وإبقائها ملتهبة طوال العام، لا يحترق فيها سوى أولائك البؤساء الذين ينصتون كل عام لتلك العمائم المنهزمة التي يلجأ أصحابها لخطاب الأسود فوق المنابر فيما هم كالنعامات ساعة الجد، فما إن تتصاعد ألسنة اللهب ويستوجب الأمر أقل مجابهة حتى تراهم يدسون رؤوسهم في التراب!

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع