إيلاف - محمد الحمامصي
طرحت خسارة وزير الثقافة المصري فاروق حسني في الحصول على منصب مدير اليونيسكو سؤالا حول الدور الثقافي المصري ومدى حضوره وفعاليته عربيا ودوليا، وما الذي يمكن فعله لتنشيطه، خاصة وأن هذا الدور مسؤولية وزارة الثقافة قبل أن يكون مسؤولية الكتاب والمثقفين والمبدعين، إلا أن مؤشرات الداخل المصري تؤكد أن هناك تراجعا كبيرا في فعالية دور هذه الوزارة تجاه كتابها ومثقفيها ومبدعيها. ايلاف استطلعت رأي عدد من الكتاب للتعرف الى وجهات نظرهم.
يقول الناقد الكبير د.رمضان بسطاويسي: إنه من الضروري قبل إبداء الرأي في هذا الموضوع تحديد مفهوم الدور الثقافي لبلد ما، وما مؤشراته التي يمكن قياسها، ووفقا لذلك يتم الحكم على ما إذا كان هذا الدور قد زاد أو تراجع، كما أن أي دور له بيئته الموضوعية والاجتماعية وأنه ينشأ في إطار ظروف معينة، وأنه إذا ما تغيرت تلك الظروف فإنه يترتب على ذلك أن يتغير هذا الدور أو يتطور دون أن يعني هذا بالضرورة تراجعا أو انتقاصا له. واضاف ان الدور الريادي لأي بلد في مجال الثقافة لا يكون بالإدعاء، اذ ما زال أمام مصر تحديات لتأكيد دورها الثقافي وبعث الحيوية فيه لعل أبرزها تحدي محو الأمية ونشر التعليم ورفع جودته، وإدراك أن الثقافة ليست عملا نخبويا يتم في صالات وغرف مغلقة، بل هو نشاط يتعامل مع الملايين، يعبر عنهم ويتجاوب معهم، وأن تشجيع المبدعين الجدد خارج العاصمة هو ضمانة التجديد الثقافي، فمعين شعب مصر لا ينضب، من جانب هذا البلد بل بالقبول والتسليم به من الآخرين وأن يراجع المبدع المصري ما يكتبه ويرى ما إذا كان يعبر عن تجربته أم لا.
وأمام الثقافة المصرية تقديم نموذج ورسالة، وهي رسالة إقامة مجتمع حديث يقوم على الديمقراطية والعدل الاجتماعي؛ الديمقراطية التي تنهض على مفهوم المواطنة التي تضمن المساواة بين جميع المواطنين، ويكون أساسا للعلاقة بين الحاكم والمحكوم والعدل الاجتماعي الذي يضمن تكافؤ الفرص، وأن يكون لكل مواطن نصيبه في ثروة بلده وعائد التنمية فيه.
ويضيف ان الحالة الثقافية في مصر شهدت في السنوات الأخيرة صحوة قوية تتجلى ليس فقط في أعداد الكتب المنشورة وتكاثر المكتبات، ولكن أيضا في ازدياد أعداد الجماعات الثقافية المستقلة ومنتديات الكتب والمدونات.
ثقافة مصر
الشاعر جمال القصاص يقول باختصار شديد ، يجب أن تعود أوضاع الثقافة المصرية للمثقفين أنفسهم، كتابا وشعراء ونقادا وفنانين، وأن يقتصر عمل المؤسسة الثقافية الرسمية على تسهيل هذه المهمة وتوفير الإمكانات المادية والمعنوية للدفع بها دوما نحو الأفضل والأرقى والأخصب.
وبديهيا لن يتجسد هذا الطموح إلا بتحول المثقفين أنفسهم من ورقة هشة تابعة للسلطة، تغسل بها مواقفها السياسية والثقافية المتردية، إلى المشاركة الفعلية في صناعة القرار الثقافي على شتى مستويات تجليه ومشاربه، وأن تتحول الثقافة من عمل فردي إلى صناعة ثقيلة ومحترمة، يشارك فيها الجميع، في إطار من الرضى والتوافق، والتجريب الخلاق.
فعلى مدى أكثر من عشرين عاما والثقافة المصرية تراوح مكانها، وفي فلك منزلتين سقيمتين، تبحث في الأولى عن كيفية تدجين المثقفين، واستئناسهم كحيوانات منزلية أليفة في حظيرة السلطة. وفي المنزلة الثانية تتركهم، بل تدفعهم أحيانا للوقوف عرايا على حافة الهاوية، إذا ما اضطربت الأمور وتعارضت المصالح والأغراض، ولا مانع حينئذ من المصادرة وتكميم الأفواه، والزج في السجون.
لقد أصبحت الثقافة المصرية، في ظل فوضى الكرنفالات والمهرجانات الزائفة، ثقافة رخوة، هشة، سرعان ما يرتد صداها إلى صدرها، ولا يراكم في النهاية سوى الغبار والفساد، حتى أصبح من قبيل العبث أن تبحث عن مجلة أدبية وثقافية رفيعة، تحتضن الإبداع المصري، وتنهض به نقديا وجماليا. ويزداد العبث قتامة حين تفتش عن ملامح لحوار جاد ينطلق من رؤى فكرية، وأسس علمية صحيحة ومتطورة تسائل وتناقش بنزاهة وموضوعية، ما يفرزه الواقع الثقافي من قضايا وأفكار على شتى المستويات.
ناهيك عن أن المثقفين المصريين يفتقرون إلى نقابة أو منتدى خاص يحتضنهم ويحتويهم، ويشعرهم بالونس والأمان، بعيدا عن أجواء المقاهي التي تروج فيها ثقافة النميمة والتسلية، وتكرس للشللية، وصناعة الوهم، وبعيدا أيضا عن هذا الكائن الذي لا يغني ولا يسمن من جوع، المسمى بـ " اتحاد الكتاب".
وعلى ذلك أتصور أن ألف باء إصلاح الثقافة المصرية يبدأ بالدعوة لمؤتمر عام، يعقد بشكل سنوي، يشارك فيه كل أطياف الفعل الثقافي، ويخرج بعد المناقشات والمداولات الحرة بروشتة للعلاج، وتصورات موضوعية لمستقبل هذه الثقافة، وأن تشكل لجنة خاصة من داخل المؤتمر تتولى متابعة هذه التصورات، وترفع بشأنها تقريرا مفصلا إلى المؤتمر في السنة اللاحقة.
المعهد المصري في مدريد
بدوره يرى المترجم والشاعر د.طلعت شاهين ان دور مصر الثقافي تراجع كثيرا خلال السنوات الثلاثين الأخيرة حتى تلاشى تماما من مناطق كانت مصر فيها رائدة للثقافة العربية بشكل عام، بل ومنارة تشع على من حولها بالثقافة العربية بلا استثناء، وكل هذا حدث بفضل السياسة العقيمة التي تمارسها حكومات مصر المتعاقبة ووزارة الثقافة التي حولت مراكزنا الثقافية في الخارج إلى مجرد مكاتب للإشراف على المبعوثين المصريين الذين يحصلون على منح للدراسات العليا في الخارج، ويمكن أن نرى هذا في تراجع دور الأكاديمية المصرية في روما التي أصبحت مجرد مكتب لاستقبال ووداع للمحظوظين من الفنانين المقربين من وزارة الثقافة وكبار موظفيها.
وتحول أهم مركز ثقافي مصري في الخارج وهو "المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد" الذي افتتحه الراحل العظيم الدكتور طه حسين عام 1950 من مركز إشعاع ثقافي وسياسي إلى مجرد مكتب لإدارة شؤون الطلاب المصريين المبعوثين، حتى هذه المهمة تقلصت بتقلص عدد المبعوثين إلى أسبانيا في ظل سياسة التقشف في الخارج والتبذير المهرجاني في الداخل، فقد تم تسريح العاملين فيه وأغلقت المكتبة التي تضم عشرات الآلاف من الكتب المتخصصة والمخطوطات النفسية في الدراسات الأندلسية والتي كانت تخدم كل المستشرقين الغربيين العاملين في هذا الحقل، وتم تكهين مطبعتها فتوقف النشر الذي كان يشمل الدراسات الخاصة بالأندلسيات والدراسات والترجمات الأدبية المعاصرة، وتوقف طبع حولية المعهد التي كانت متنفسا ونافذة للتعرف إلى ثقافتنا الماضية والحاضرة.
وتم إظلام المبنى الذي خرجت منه تظاهرات الاحتجاج المناهضة للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وكان مقرا للجنة مناصرة الشعوب العربية بعد نكسة 1967.
ووصل هذا المركز الثقافي الكبير إلى هذا المصير في ظل سياسة منظمة لتحجيمه والقضاء على دوره الريادي عبر سنوات طويلة بدأت بتقليص ميزانيات الأنشطة الثقافية، وخفض عدد العاملين وانتهت إلى إغلاق قاعة الدكتور طه حسين في وجه الأنشطة الثقافية وتكهين المطبعة وطرد العاملين فيها وإغلاق المكتبة بتسريح ما تبقى من عاملين تحت شعار "التقشف"، مع أن جميع موظفي المعهد كانوا من العاملين المتعاقد معهم محليا ورواتبهم جميعا لا تصل إلى حجم ما يحصل عليه مدير المعهد الذي ينتدب عادة من وزارة التعليم العالي.
عجيج بلا طحين
ويقول الكاتب الروائي السيد نجم انه يلاحظ المتابع للحياة الثقافية في مصر، وبالتالي دورها الثقافي، أنها أشبه بمقولة المثل الشعبي "عجيج بلا طحين". فغلبة المهرجانات على الأرض المصرية هي السمة العامة، تلك المهرجانات التي لا تتبنى قضية قومية أو ثقافية، فأصبحت وبحق مهرجانات وحسب!
تجمع أناس هم أنفسهم من يحضرون كل مهرجان، وإن قيل إننا غير مسؤولين عن اختيار الضيوف، يصبح الرد الواجب هو تعمد الهيئات والمؤسسات الثقافية استضافة الأسماء والشخصيات التي لا تجد العزوة والسطوة عند المسؤولين في أي دولة عربية، وبالطبع هذا لا يعتبر تدخلا في الشؤون الداخلية لأي بلد!
إن التوجه المنهجي لأي مهرجان يجعل من أمر النظرة إلى الأجيال الجديدة ضرورية، فهم فنانو وأدباء المستقبل، لكن هذا لا يحدث، فالمهرجانات تنقضي وتمضي، في انتظار أخرى، دون أن تضيف جديدا، ولا تحقق دورا فاعلا للثقافة عموما.
ويضيف ان الصناعة الثقيلة للثقافة تبدأ بالموسوعات في الثقافة العامة والأدبية، توفيرها ونشرها، والآن أصبح توافر الاسطوانات الممغنطة إمكانية هائلة ومتاحة ماليا وعمليا، وبالتالي تباع بأسعار تناسب الجميع.
أما المجال الآخر لصناعة ثقيلة للثقافة فهو تبني "الطفل"، في كل المجالات، وفي شتى وسائل تثقيفه، من اللعبة المنتقاة التي تنمي مدارك الطفل، إلى السينما والمسرح والكتاب. مع بعض الإجراءات التي من شأنها تشجيع الطفل على ارتياد الأماكن الثقافية، مثل مجانية دخول المتاحف، والعروض الفنية المختلفة، وغيرها من الإجراءات التي تمهد لخلق جيل مستنير.
ثم يأتي دور الوزارة بتبني مشروعات الأعمال المتميزة وذات التكلفة المرتفعة، سواء في مجال المسرح أو السينما، كتوفير رعاية الوزارة للفرق المسرحية، بلا أي وصاية، مع إتاحة الأسعار المناسبة لتذكرة الدخول، أمر مهم، وهو ما لا يتعارض مع ترك القطاع الخاص يعمل بقوانين السوق حسبما يعمل،..
وقبل هذا كله، ومن بعده، يصبح توفير جهاز الكمبيوتر واللاب توب، هو الهدية والجائزة والمنحة في كل المناسبات التي تتبناها الوزارة.
أخيرا هل من الصعب أن نقول بضرورة تبني الوزارة لكل ما يعجز عنه القطاع الخاص، سواء بتوفير احتياجات الطفل الثقافية، وتبني العمل الفني المثال والنموذج، ومع ذلك يبقى إصدار دورية ثقافية يلتف حولها الخاصة، وأخرى يلتف حولها العامة مطلبا ملحا. فعلى الرغم من شيوع استخدام الإنترنت (خصوصا مع الشباب) ما زال للمطبوع الورقي جاذبيته ودوره، وكم هو حلم جميل، أن تتبنى الوزارة دعوة إلغاء كل الحواجز التي تمنع دخول وخروج العناصر الثقافية بكل أشكالها، سواء كانت جمركية أو إجرائية، لعلها بذلك تصبح قدوة لبقية الدول العربية مجتمعة!
http://www.copts-united.com/article.php?A=8155&I=219