الأقباط في عالم متغير(2)

كمال غبريال

بقلم / كمال غبريال
هذا هو المقال الرابع في السلسلة التي بدأناها في موقعنا الأقباط متحدون، والتي تهدف إلى مخاطبة مسيحيي مصر بالأساس، ومعهم الإخوة من أبناء الوطن من جميع الأديان، المهتمين بالشأن القبطي من منظور وطني، أملاً في أن نجد معاً طريقاً موحداً، يسير فيه كل أبناء مصر نحو مستقبل أفضل لنا ولأولادنا وأحفادنا جميعاً، وهو المستقبل الذي لن يتحقق بمجرد التمنيات، ولا بأن يأخذ طرف دور المطالب بما يعتبره حقوقاً مهدرة، فيما يأخذ الطرف الثاني دور المعطي، الذي قد يمنح وقد يمنع، فما لابد لنا أن نهدف إليه، هو تأسيس وطن حديث، يتوافق مع مفهوم الوطن في الألفية الثالثة، ليس فقط لأن العلاقات التي تسود مثل هذا الوطن، هي العلاقات المثلى، التي يتحقق في ظلها لأفراده ومكوناته، ومن ثم للمجموع التوفيق والنجاح في رحلة التقدم والحداثة والرفاهية، بل أيضاً لأن الحياة وفق نوعية العلاقات الوطنية هذه، هي الكفيلة بتوافق بلدنا ومجتمعنا مع سائر شعوب العالم.
فالنجاح الاقتصادي على الأقل اليوم، لا يمكن أن يتحقق إلا بالشراكة مع العالم، مع الأخذ في الاعتبار أن الشراكة الاقتصادية مرتبطة عضوياً بسائر مجالات الحياة، وسائر العلاقات التي تنظم حياة وتعاملات الأفراد والجماعات، فالنظام السياسي والقانوني والعلاقات الاجتماعية ونظم التعليم، كلها عناصر مؤثرة في مدى توافق ظروف أي شعب مع مسيرة شعوب العالم، التي صارت تسير الآن معاً، كما لو داخل قطار واحد، إذا تعثرت إحدى عرباته، تعثر القطار كله. . أما من يفشل في توفيق أوضاعه مع النظام العالمي، فإن مثل هذا الشعب يفصل عربته، وتفصله باقي الشعوب عن قطار الإنسانية، ليمضي القطار بدونه، ولا يتبقى له إلا الفشل، أو على أحسن الفروض إعانات وإحسانات المحسنين!!

وإذا كان صحيحاً أن النجاح والرفاهية اليوم، لا يمكن أن تتحقق لشعب، بمعزل عن باقي الشعوب، لأن النجاح يتحقق بناء على العلاقات التكاملية والمتبادلة بين الجميع، فبالأولى الأمر داخل المجتمع الواحد، وبين أفراد ومكونات الشعب الواحد. . فلا يمكن أن تحقق أغلبية عرقية أو دينية النجاح والرفاهية لنفسها، في الوقت الذي تكون فيه أقلية أو أقليات من شعبها مهمشة أو تتعرض للتمييز والاضطهاد. .
على الجانب الآخر تخطئ الأقلية خطأ قاتلاً، في حق نفسها أولاً، وفي حق الوطن
ثانياً إذا تصورت أنها يمكن لها أن تتقي ما يواجهها من مصاعب تمييز أو اضطهاد في الساحة العامة، بأن تنسحب متقوقعة حول نفسها، وأن تكتفي بالحد الأدنى من المشاركة العامة، والذي تقتضيه أنشطة كسب الرزق، وأن تدير ظهرها لما عدا ذلك، من مشاركة سياسية واجتماعية، بل ورياضية وفنية وثقافية ونقابية.
ونحن نقول هذا بثقة معتمدين على سببين رئيسيين، الأول هو ما سبق وأوضحناه، من أن المجتمع المتوافق، والذي تتأسس علاقاته على التوافق والتكامل بين جميع مكوناته، هو الوطن القادر على تحقيق التقدم في عصرنا الراهن، وهو القادر كذلك على توظيف قدرات شعبه أفضل توظيف. . السبب الثاني هو أن المجموعة التي تعزل ذاتها، أو تعزلها الأغلبية –سيان- تفقد تأثيرها في نواحي حياة وطنها التي انعزلت عنها، وبذلك تفاقم أزمتها وأزمة الوطن ككل معها.

لن يفيد الأقلية هنا أن تهرب من عالم الواقع الذي تواجه فيه صعوبات، أو حتى تجده وكأنه مسدود في وجهها. . لا يفيدها أن تتبنى فكراً وخطاباً يغادر الأرض إلى السماء، فتتصور أنها تستطيع أن تدير ظهرها إلى العالم الذي تواجه فيه بالكراهية والاستئصال، لتلتحق بعالم سماوي تملؤه الملائكة والقديسون، لأنها تكون في هذه الحالة أشبه بسجين خلف قضبان، يلجأ إلى تعاطي الخمور أو المخدرات، فيتصور له أنه قد انتقل إلى عالم سحري جميل، وأنه صار حراً طليقاً، يتنفس هواء نقياً، ويمرح بين المروج الخضراء. .
نعم قد تعينه تلك التصورات والأوهام على تحمل ظروفه البائسة، لكنها لا يمكن بالطبع أن تغير من حالته ووضعه، كما من البديهي أن لا نتوقع أن تساهم مثل تلك الأوهام والأفكار، على خلق مستقبل أفضل للأجيال التالية، وإنما سوف تضاعف أزمتها بالتأكيد، ليكون الحال كما لو رب أسرة يعاني أفراد أسرته الحاجة لمتطلبات الحياة، وبدلاً من السعي لتغيير واقعهم، يذهب هو في غيبوبة، تصور له أنه قد صار مع أفراد أسرته في عداد الملائكة وفي صحبتهم!!
كنا مع المقالات السابقة في معرض استعراض المراحل الرئيسية التي مر بها الأقباط عبر تاريخهم، الذي بدأ من أوائل القرن الأول الميلادي.
ووصلنا إلى بداية القرن التاسع عشر، ورأينا كيف كانت تلك الفترة عبارة عن حلقات من الكرب والتضييق على المصريين بوجه عام، وعلى الأقباط بوجه خاص، ونستطيع أن نقول بوجه عام، أن التاريخ المصري يقول لنا، أنه في الفترات التي كانت تتحسن فيها أحوال الشعب المصري عموماً، كانت أحوال الأقباط تتحسن أيضاً، لكن بدرجة أقل، وحين كانت أحوال الشعب المصري بوجه عام تتدهور، كانت أحوال الأقباط تتدهور أيضاً، لكن بدرجة أكبر.

كان لابد من المقدمة السابقة، التي استهللنا بها هذا المقال، والتي قد تبدو طويلة، وركزت على الارتباط في الرفاهية والبؤس بين أفراد ومكونات الشعب الواحد، كذا الارتباط بين شعوب العالم كله، لأننا مقبلون في رحلتنا عبر التاريخ، على مرحلة أخرى من تاريخ الوطن وتاريخ البشرية. .
نزعم أن النهضة المصرية التي بدأها محمد علي في بداية القرن التاسع عشر، كانت إيذانا ببدء تحول مصر لتسير في اتجاه الدولة القومية الحديثة، وفقاً للمفاهيم التي كانت قد ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر. .
كان هذا يعني مغادرة نظم وأفكار وعقلية القبيلة والعائلة والطائفة والانتماء العنصري، سواء الانتماء العرقي أو الديني، إلى الانتماء الوطني، وفيه لم تعد مصالح الفرد مرتبطة بجماعة معينة ينتمي إليها، ولم تعد أي جماعة مهما بلغ حجمها، تنحصر مصالحها في داخلها، بمنأى عن باقي الجماعات، وإنما صارت الأمور في نطاق الدولة القومية، تنمو باتجاه تشابك وارتباط مصالح الكل مع الكل، لكن الطريق الذي كان على مصر أن تسير فيه، لم يكن سهلاً ولا ممهداً، بل حوى من العقبات ما جعل المسيرة تمضي بطيئة، بل وتتعرض لانكسارت وارتدادات عديدة، لكن عصور الاستهداف الرسمي والعلني للأقباط، كانت على أي حال قد أخذت في الأفول، لتبدأ رحلة معاكسة مريرة وطويلة، فما أسهل السقوط في كل وقت، لكن رحلة الصعود دائماً صعبة، وغالباً ما تكثر فيها العثرات، وهذا ما سوف نرحل خلاله في مقارباتنا القادمة.

kghobrial@yahoo.com

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع