لغتنا الجميلة ومين ياخد باله منها ... ؟

د. السيد نصر الدين

بقلم / د. السيد نصر الدين السيد
في يوم الثالث والعشرين من مارس عام 2008 أقر مجلس الشعب اقتراحًا بمشروع قانون بتعديل بعض أحكام القانون رقم 14 لسنة 1982 بإصدار قانون إعادة تنظيم مجمع اللغة العربية. وأهم ماجاء فى هذا التعديل هو إلزام "دور التعليم والجهات المشرفة على الخدمات الثقافية والوزارات والهيئات العامة ووحدات الإدارة المحلية وغيرها من الجهات الخاضعة لإشراف الجهات المشار إليها بتنفيذ ما يصدره المجمع من قرارات لخدمة سلامة اللغة العربية، وتيسير تعميمها وانتشارها وتطوير وسائل تعليمها وتعلمها، وضبط نطقها الصحيح، وتوحيد ما فيها من مصطلحات، وإحلالها محل التسميات الأجنبية الشائعة في المجتمع". هذا مع إعتبار "هذا الالتزام أحد الواجبات العامة الملقاة على العاملين كل في حدود اختصاصاتهم، وينشأ ويترتب على مخالفة هذا الالتزام انعقاد المسئولية التأديبية للمخالف". وبالطبع يعتبر هذا القانون أمرا محمودا لصيانة اللغة الرسمية للدولة طبقا للمادة الثانية من دستورها. هذا بالإضافة إلى أن اللغة العربية، فى صورتها القياسية، تعتبر "اللغة الثانية" ... ! ... لحوالى 60 % من المصريين ممن تلقوا قدرا من التعليم طالت سنواته أو قصرت.

ووصف اللغة العربية بأنها لغة ثانية لاينطوى على أى قدرمن المبالغة بل هو تقرير لأمر واقع نعيشه ونعاينه. فـ "اللغة الأولى" لكل المصريين هى "لغة الأم" التى يستخدمونها فى شتى أمور حياتهم اليومية ويعبرون بها عن أفكارهم ومشاعرهم بسلاسة وتلقائية. إنها لغتنا المصرية الحديثة التى أطلقوا عليها "العامية المصرية" قاصدين بذلك تحقيرها والتهوين من شأنها وترهيب الراغبين فى دراستها دراسة علمية لتأصيلها ولبيان نشأتها وتطورها وما تتمتع به من قدرات. ولغتنا الأم هذه هى جزء لايتجزء من "الهوية المصرية" والإنتقاص من قدرها هو إنتقاص من هويتنا ذاتها. وإذا كانت لغتنا الثانية تحظى بالدعم غير المحدود من العديد من الجهات الرسمية وغيرالرسمية فإن لغتنا الأولى لاتجد من يرعاها ...!؟ والدعوة لرعاية لغتنا الأولى والحفاظ عليها وتأصيلها ليست ترف فكرى بل هو أمر لازم تفرضه علينا عدة إعتبارات سنعرض لبعضها فيما يلى.

حقوق الملكية
وأول هذه الإعتبارات هى مانتمتع به من "حقوق ملكية" للغتنا الأولى ... لغتنا الأم. فلقد نشأت "العامية المصرية" فى رحم المجتمع المصرى منذ نشأته الأولى وتطورت على أيدى أفراده فى إستجابة خلاقة لمتغيرات الواقع ومستجداته. أى أننا بإختصار "أصحابها" و"ملاكها" على عكس اللغة العربية التى يقتصر دورنا تجاهها على الحفاظ عليها أو "حفظها". وما أبعد المسافة بين حقوق "الحافظ" وحقوق "المالك". فقدرة "الحافظ" على تطوير اللغة وتكييفها لتتلاءم مع مستجدات الواقع وإيقاعاته المتسارعة محدودة للغاية وتحكمها ترسانة من المحاذير. أما قدرة "المالك" على تطوير لغته وتحديثها فهى غير محدودة فـ "من حكم فى ماله ما ظلم". فملكيتنا لعاميتنا تمنحها القدرة على التنامى والتطور والتكيف الدائمين. فهى لاتستنكف من إثراء رصيد كلماتها بكلمات من لغات أجنبية. فرأيناها على سبيل المثال تأخذ من اللغة الآرامية "سمسار" و"كشكول" و"بردعة" و"بز"، ومن العبرية "شاش" و"كاهن" و"مرقة"، ومن التركية "تنبل" و"ترزى" و"كرباج"، ومن الإيطالية "فاتورة" و"صالة" و"أوسطى". وهى لاتأنف من "تمصير" ماتراه ضروريا للتعامل تكنولوجيات العصر وعلى رأسها تكنولوجيا الكمبيوتر. فوجدناها على سبيل المثال تمصر أفعالا من اللغة الإنجليزية مثل To Save (يحفظ) و To Hang (يبقى معلّقاً أو غير منجَز) لتزيد رصيدها من الأفعال بفعلى "يسيف"، أو يحفظ المعلومات فى ذاكرة الكمبيوتر، و"يهنج"، لوصف حالته عندما "يعصلج" ويتوقف عن العمل. وهى لاتتهيب من الإقدام على تبسيط قواعدها لصالح مستخدميها فرأيناها، على سبيل المثال، تستعيض عن التسعة الأسماء العربية الموصولة (الذى، التى، اللذان، اللذين، اللتان، اللتين، الذين، اللاتى، اللائى) بكلمة واحدة هى "إللى". كما لاتستخدم لغتنا المصرية الحديثة أسماء الأشارة العربية (هذا، هذه، هذان، هذين، هاتان، هاتين، هؤلاء) بل تستخدم (ده، دي، دول) بعد الاسم فنقول "الواد ده" ولانقول "هذا الولد" كما هو الحال فى اللغة العربية.

إن ملكيتنا للغتنا الأم هى التى تجعلها أداة فعالة للتواصل مع بعضنا البعض فبواسطتها يمكنا التعبير عن مشاعرنا وأفكارنا وتبادلها مع الآخر بسلاسة وتلقائية ووضوح. لذا لم يجد أشهر دعاة القرن العشرين، الشيخ محمد متولى الشعراوى، أفضل منها لشرح بلاغة لغة القرآن الكريم وما تحتويه كلماته من معانى لعموم المصريين فكانت شعبيته الطاغية بينهم.

تاريخنا الألفى على طرف اللسان
أما ثانى هذه الإعتبارات فيتمثل فى كون اللغة المصرية الحديثة، أو عاميتنا المصرية، هى التجسيد الحى لإستمرارية ووحدة التاريخ المصرى. وما نقصده بالتاريخ المصرى فى هذا السياق هو تاريخ الشعب المصرى لاتاريخ غزاته أو حكامه من الأغراب. فلايوجد منتج ثقافى مصرى يعكس هذه الإستمرارية ويبرز هذه الوحدة كما تبرزها عاميتنا المصرية إن تتبعنا نشأتها وتطورها عبر آلاف السنين منذ نشأة الأمة المصرية وحتى يومنا هذا. فلقد شهدت تطور هذه اللغة ستة مراحل هى: مرحلة العصر القديم، مرحلة العصر الوسيط، مرحلة العصر المتأخر، المرحلة الديموطيقة، المرحلة القبطية وأخيرا المرحلة العربية. وإذا كانت لغتنا المصرية قد إستخدمت، عبر تاريخها الطويل، العديد من الخطوط بدءا من الهيروغلفية ( 4000 ق.م – 30 ب.م) ومرورا بالهيراطقية ( 2000 ق.م - 100 ب.م) والديموطقية ( 500 ق.م - 100 ب.م) وإنتهاءا بالقبطية ( 100 ب.م – 1100 ب.م)، التى إستخدمت الحروف اليونانية المدعمة بسبعة من حروف الخط الديموطيقى، فإنها فى مرحلة تطورها المعاصرة تستخدم حروف اللغة العربية ( 800 ب.م - ). وعلى الرغم من صعوبة تحديد تاريخ ظهور لغتنا المصرية الحديثة وشيوع إستخدامها إلا أنه يمكن رصدها فى كتابات إبن دانيال المتوفى سنة 1311م وإبن سودون المتوفى سنة 1457م. وما أن أهل القرن السابع عشر حتى شهدنا ظهور كتاب "دفع العسر عن كلام أهل مصر" الذى يعتبر أول قاموس لها لصاحبه يوسف المغربى المتوفى سنة 1610م.

ويمثل كلا من رصيد كلمات لغتنا المصرية الحديثة وتراكيبها اللغوية أبرز دلائل "الإستمرارية التاريخية" للأمة المصرية التى تجسدها هذه اللغة. فعلى الرغم من أن رصيد كلماتها به نسبة مرتفعة من الكلمات العربية إلا أنه يحتوى على نسبة لايستهان بها من الكلمات الموروثة من مراحل تطورها السابقة على وجه العموم ومن مرحلتها القبطية على وجه الخصوص. إذ يحبو صغيرنا ويبدأ المشى "تاتا" ... ويعطش صغيرنا الـ  "نونو"  فيطلب الـ "إمبو" ... ويجوع فيطلب الـ "مم" وعندما يشبع يقول "بح" ... ونكفى على الخبر "ماجور"... ولا تسرنا  "كلكعة" الأمور. ويأتى شهر رمضان فيغنى أطفالنا لقمره وهلاله وحوى يا وحوى "إياحا" ويرحبون بقدومه قائلين "حالو ياحالو رمضان كريم ياحالو" غير عالمين أن "حالو" هذه أصلها "خالو" التى تعنى شيخ فى كلا اللهجتين البحيرية والصعيدية للغتنا فى مرحلتها القبطية. ونغنى لمولودنا فى سبوعه "حلا آتك ... برجا لاتك" و"برجالاتك" هذه مكونة من كلمتين: كلمة "برج" وتعنى يفرشح أو يفرد، وكلمة "لاتك" وتعنى قدميك اللتان ورثناهما من اللهجة الفيومية للغتنا فى مرحلتها القبطية. وتطول القائمة  لتشمل "بتاو" و"شونه" و"مشنه" و"خٌن" و"شأشأ" و"عنتيل" و"كانى" و"مانى". وتطول القائمة وتمتد لتشمل الحوار بين الانسان والحيوان: "حا".. "عا" .. "شى" ... "هس" .. "بس" ... "هش".
 
ولا يقتصر الأمر على الكلمات بلفظها بل يمتد إلى تراكيبها اللغوية .. فنحن نقول  "راح مصر إمتى؟" بدلا من "متى ذهب إلى مصر؟" ونقول "راح مصر ليه؟" بدلا من "لماذا ذهب إلى مصر؟".  كما تسود بنية "فاعل/فعل/مفعول به" تركيب جملها وذلك مقابل تسيد بنية "فعل/فاعل/مفعول به" الذى تتميز به اللغة العربية الفصحى. فنحن نقول "فلان ضرب علان" ولانقول "ضرب فلان علانا". وهو التركيب الذى ورثته لغتنا المصرية الحديثة من مراحل تطورها السابقة. كما لا تستخدم لغتنا المصرية الحديثة الضمائر الشخصية المنفصلة فى اللغة العربية (أنا، أنتَ، أنتِ، أنتما، أنتنا، هو، هي، أنتم، انتن، نحن، هم، هن) بل تستخدم (أنا، إنتَ، إنتِ، هو، هي، إحنا، إنتوا، هما) وهى ترجمة للضمائر التى إستخدمتها لغتنا فى مرحلتها القبطية (أنوك، انتوك، انتو، انتوف، انتوس، أنون، انتودان، انتاوو). كما تتميز لغتنا المصرية الحديثة بوجود المضارع المستمر الذى ورثته عن مرحلتها القبطية والذى تفتقده اللغة العربية. فهى تستخدم حرف "ب" قبل الفعل ليعبرعن المضارع المستمر فنقول "هو بيشرب" أو "هِيا بتاكل".

الشيزوفرنيا اللغوية
ونصل أخيرا إلى الإعتبار الثالث المتعلق بالنظرة الفوقية والمتعالية التى تميز موقف "حفاظ" اللغة العربية تجاه لغتنا المصرية الحديثة وتجاه "ملاكها" من عموم المصريين. وهو الموقف الذى يأخذ أشكالا متعددة بدءا من إهمال دراسة صوتياتها وصرفها ونحوها ومرورا بتجنب إستخدامها فى المناسبات الرسمية وإنتهاءا بحرمان طلاب المرحلة قبل الجامعية من دراسة منتجاتها الأدبية. وهى المنتجات التى من أبرز أمثلتها إنتاج شعرائها الكبار بدءا من بيرم التونسى وإبن عروس وإنتهاءا بعبد الرحمن الأبنودى وأحمد فؤاد نجم ومرورا بصلاح جاهين وفؤاد قاعود. وهم بذلك يخلقون "عالمين لغويين" هما "عالم الفصحى" و"عالم العامية" ليتشتت بينهما فكر وضمير المصريين وتزداد الهوة بين "ثقافة النخبة" و"ثقافة العامة". ويؤدى هذا كله إلى إنفصام بين عالم القول (اللغة) وعالم الفعل (الواقع) فنتحول إلى "ظواهر صوتية" تستغنى عن الأفعال بالأقوال.
 (ملحوظة هامة للقراء: فضلت إستخدام لغتى الثانية، اللغة العربية الفصحى، فى كتابة هذا المقال حتى لايفسر البعض دعوتى لإحترام العامية المصرية، أو لغتنا المصرية الحديثة، ولرد إعتبارها على أنها تغطية لعجزى عن إستخدام الفصحى فى التعبير عن أفكارى... !

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع