العربية نت-دبي - فراج إسماعيل
أظهرت التعيينات الأخيرة في الصحف الحكومية المصرية المسماة بالقومية، الأزمة التي تعيشها صناعة الصحافة، والمتمثلة في تقلص عدد القراء إلى مليون و200 ألف فقط في دولة يزيد سكانها على 85 مليون نسمة، أكثر من 60% منهم شباب.
فرغم استئثار لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم بمعظم التعيينات في منصب رئيس التحرير، إلا أن اختيار صحافيين اثنين معروفين بنقدهما اللاذع للحكومة، وبمعارضتهما لسياساتها، وهما حمدي رزق لمجلة المصور، وأنور الهواري للأهرام الاقتصادي، يشير بقوة إلى أن هناك جناحاً في الحزب الوطني المهيمن على الصحف القومية يعارض سياسة تدجينها، والسيطرة على رئاسات تحريرها بالكيفية التي حدثت في السنوات الأخيرة، ما أدى إلى تراجع مبيعاتها إلى الحد الذي جعل "الأهرام"، وهي أكبر وأقدم الصحف اليومية في العالم العربي، تتنافس مع "المصري اليوم" المستقلة على الحجم الأكبر من كعكة القراء، رغم فارق الامكانيات البشرية والمادية والتاريخية والمؤسساتية بين الاثنين.
مقالات حمدي رزق اللاذعة المعارضة لسياسات الحكومة والحزب الحاكم، والتي ينشرها في "المصري اليوم" في زاويته "فصل الخطاب" لم تمنع المجلس الأعلى للصحافة، الذي يرأسه صفوت الشريف الأمين العام للحزب الوطني، من اختياره رئيساً لتحرير مجلة "المصور" العريقة.
تماماً مثل مفاجأة اختيار أنور الهواري رئيس التحرير السابق لكل من "المصري اليوم" و"الوفد"، لسان حال أكبر الأحزاب المعارضة، لانتقاداته الشديدة للنظام في كتاباته، وكان عموده اليومي بالصفحة الأخيرة لـ"المصري اليوم" شاهداً على ذلك، فقد تميز بلهجته العالية وخوضه في خطوط حمراء لم يجرؤ غيره عليها.
الهواري الذي قدم استقالته من "المصري اليوم" بسبب نشر أصحابها إعلان خمر في يوم وقفة عرفات قبل عدة سنوات، خلف وراءه نوعاً جديداً من الصحافة اليومية في مصر، لا تتبع الحكومة ولا تعارضها بأسلوب تحريضي وإنما تنحاز للمهنية والموضوعية وإشباع حق القارئ في الخبر والحقيقة دون أي اعتبار آخر.
لا يمنع ذلك من أن رجال لجنة السياسات بالحزب الحاكم والتي يرأسها جمال مبارك نالوا الجانب الأكبر في تلك التغييرات، فالأهرام المسائي، ثاني أكبر الصحف التي تصدر عن مؤسسة الأهرام، ذهب إلى الصحافي طارق حسن، بينما ذهبت مجلة "أكتوبر" إلى مجدي الدقاق الذي اشتهر من خلاله مداخلاته في الفضائيات العربية الإخبارية معبراً عن وجهة نظر الحكومة في شتى القضايا، ورفعت رشاد لمجلة "آخر ساعة".
كما شملت التعيينات محمد النور لمجلة "صباح الخير" وهو أول رئيس تحرير مسلم لهذه الصحيفة منذ فترة طويلة، وعصام عبدالمنعم لمجلة "الأهرام الرياضي"، وعادل عبدالصمد لمجلة "الهلال".
بالإضافة إلى استمرار رؤساء التحرير الآخرين دون تغيير، وأكثرهم من المحسوبين على الحزب الحاكم.
مليون و200 ألف قارئ
تدني أعداد قراء الصحف الورقية معضلة كبيرة يواجهها رؤساء التحرير الجدد والقدامى، فهذه التغييرات توحي بأن المجلس الأعلى للصحافة لن يترك صحيفة خاسرة مدة طويلة دون تدخل، وأن الدعم الحكومي الذي يشمل توجيه الحصة الأكبر من الاعلانات إلى صحفها المسماة بالقومية، لن يستمر إلى ما لا نهاية.
في السبعينات والثمانينات كانت "أخبار اليوم" تنشر شهادة رسمية عن توزيعها الذي تجاوز أحياناً في تلك الفترة الزمنية حاجز المليون ونصف المليون نسخة. الآن تقلص عدد كل قراء الصحف إلى مليون و200 ألف نسخة، في مقابل زيادة في عدد الصحف اليومية خصوصاً المستقلة، وفي مقدمتها (المصري اليوم والدستور والشروق) التي صدرت حديثاً بميزانية ضخمة، فيما يخطط ناشر الصحف الأبرز هشام قاسم لإصدار صحيفة جديدة.
البعض يعزو هذا الانخفاض الشديد إلى ظهور الإعلام الجديد ممثلاً في الفضائيات والصحافة والمواقع الالكترونية الأسرع في بث ونشر الأحداث لحظة وقوعها، والأقل تكلفة على الناس، ولأن الحجم الأكبر من القراء ينتمي لجيل الشباب الأكثر ارتباطاً بالانترنت، وأيضاً لانخفاض تكلفة الاشتراك فيه، فسعر "الوصلة" لا يزيد على 20 جنيهاً شهرياً، يتمكن خلالها من مطالعة جميع الصحف على مواقعها لحظة صدورها، دون حاجة مثلاً لأن ينتظر القروي في صعيد مصر وصولها في المساء إلى أقرب مدينة له.
خفايا الصحافة المصرية
لهذا السبب استطاعت مدونة باسم "الوسط الصحافي العربي" يحررها الصحافي الشاب أشرف شحاته، لفت أنظار الباحثين عن خفايا الصحافة المصرية، وتمكّن من اجتذاب اهتمامات كبار مموليها ليتحدثوا إليه في مدونته مثل صلاح دياب ناشر "المصري اليوم"، وهشام قاسم الذي ساهم في تأسيسها وكان عضواً منتدباً فيها.
دياب خصّ المدونة بأرقام توزيع الصحف اليومية والتي حصل عليها من مؤسسة الأهرام بصفتها الموزع، ما أثار ضجة هائلة في الوسط الصحافي المصري وكانت كالتالي: "الأهرام" وصلت مبيعاتها اليومية إلى 355 ألفاً من حجم الكمية المعروضة للتوزيع، والمرتجع 15 ألفاً، و"الأخبار": 315 ألفاً والمرتجع 25 ألفاً، "المصري اليوم": 163 ألفاً والمرتجع 13 ألفاً، و"الجمهورية" 122 ألفاً والمرتجع 45 ألفاً، و"الشروق" 33 ألفاً والمرتجع 47 ألفاً، و"الدستور" 53 ألفاً والمرتجع 22 ألفاً، و"الوفد" 15200 والمرتجع 24800، و"روز اليوسف" 1450 والمرتجع 18550.
وتصدرت "الدستور" الصحف الأسبوعية بمبيعات 78 ألفاً ومرتجع 27736، و"صوت الأمة" التي تصدر عن المؤسسة نفسها 37634 ومرتجع 17879، و"الفجر" 39 ألفاً والمرتجع 15572، و"الفرسان" (رياضية) 15200، والمرتجع 9538، وروز اليوسف 10450 والمرتجع 10801.
بعد نشر هذا التقرير، طالبت جريدة "الدستور" في 18-2-2009 بالتحقيق في تلك الأرقام، فكتب مدير تحريرها خالد السرجاني متسائلاً عن كيفية وصول الأرقام إلى مالك "المصري اليوم"، والتي وصفها بأنها أرقام غير دقيقة، على الأخص في ما يتعلق بـ"الدستور".
صحافة تراوح مكانها
مهما كان من أمر فإن نفي صحيفة أو أخرى لأرقام توزيع معينة لا ينفي أن عدد القراء المتاح صغير للغاية، وهذا في رأي الخبراء ناتج عن مراوحة الصحافة المصرية لمكانها طوال عقود دون أي تجديد يذكر.
وقد تنبأ بذلك في وقت مبكر محسن محمد رئيس مجلس إدارة جريدة "الجمهورية" الأسبق عندما جاء به الرئيس الراحل أنور السادات إلى منصبه، في وقت كانت صحيفته تتذيل الصحف الثلاث اليومية الشهيرة، الأهرام والأخبار والجمهورية.
حينها قال محمد إن انتهاء الحروب المصرية الاسرائيلية يجعل من المهم البحث عن مصادر أخرى لاجتذاب القراء، ومن ثم جعل العنوان الرئيسي لـ"الجمهورية" رياضياً أو اجتماعياً أو معيشياً يتعلق بهموم الناس، وخصص الصفحة الأخيرة للرياضة بالكامل، وركز اهتمام الصحيفة على أخبار المساكن والاقتصاد والوظائف والفن وأخبار الاذاعة والتلفزيون والأقاليم المصرية والزراعة والتعليم، بالاضافة إلى باب صغير وضعه في الصفحة الأولى باسم "اليوم عيد ميلادهم".
وواجه محمد انتقادات كبيرة بسبب ذلك التحول الجذري في صحيفة قومية كانت مع غيرها تهتم بالسياسة وأخبار الرئيس ورحلاته ولقاءاته، لكن في خلال شهور قليلة ارتفع توزيعه من اليومي إلى ما يزيد على 800 ألف نسخة ومن الاسبوعي إلى أكثر من مليون نسخة.
وقتها قال الرئيس السادات في حوار صحافي "إن محسن محمد هو رئيس التحرير الوحيد في مصر الذي لا يتصل به ولا يجري معه حديثاً للنشر في جريدته".
الاعتماد على كُتاب كبار
بينما ظلت كل من الأهرام والأخبار دون تجديد في شكلها التحريري ومضمونها لكنها حافظت على أرقامها العالية، معتمدة في ذلك الزمن على أقلام كبار كتابها مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومصطفى محمود وأحمد بهاء الدين في "الأهرام"، وعلي ومصطفى أمين وموسى صبري وإحسان عبدالقدوس في (الأخبار وأخبار اليوم)، لكن رحيلهم جميعاً جعلها تفقد قراءها بالتدريج.
ولم تتأثر شريحة هذه الصحف في ذلك الوقت بصدور صحف معارضة حققت أرقاماً عالية في مقدمتها "الوفد" برئاسة تحرير الراحل مصطفى شردي الذي وصل بتوزيعها إلى أكثر من مليون نسخة، و"الأحرار" في بدايتها الأولى برئاسة صلاح قبضايا، و"الأهالي والشعب".
المشكلة الآن أصعب من حلها بالتصور الذي وصل إليه في الماضي محسن محمد، لأن الصحافة والمواقع الالكترونية بما تملكه من خصائص التفاعلية والجمع بين الاعلام المقروء والمرئي، تشكل خطراً حقيقياً على الصحافة المطبوعة في مصر، لدرجة أن أحد رؤساء التحرير الذين جرى تعيينهم أخيراً قال في أول اجتماع تحرير جمعه بزملائه إنه رئيس التحرير الأخير للصحيفة.
http://www.copts-united.com/article.php?A=895&I=25