ثاتشر... من ابنة بقّال إلى أحد أكبر صنّاع التاريخ في العالم

إيلاف

 «السيدة الحديدية» لقب أسبغه عليها «الأعداء»

عاشت في دار صغيرة فوق متجر والدها ألفريد روبرتس
بدأت حياتها المهنية فنية كيمائية
بوفاة مارغريت ثاتشر في 8 من الشهر الحالي تنطوي صفحة مهمة في التاريخ السياسي سواء داخل بريطانيا أو على المسرح الدولي. وقصة ثاتشر مثال ساطع على أن البدايات المتواضعة لا تمنع المرء من حفر اسمه في سجل الخالدين.
 
مارغريت ثاتشر هي أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في بريطانيا. وهو منصب ظلت فيه 11 عامًا متصلة من 1979 حتى 1990. 
كانت ثاتشر وزيرة للتعليم بين عامي 1970 و1974 في عهد ادوارد هيث الذي نافسته على زعامة حزب المحافظين وفازت بها عام 1975. ومضت لتفوز ايضًا بثلاثة انتخابات عامة في الأعوام 1979 و1983 و1987 على التوالي، وهذا رقم قياسي لأي رئيس وزراء بريطاني منذ مطلع القرن العشرين.
بفضل سياساتها الاقتصادية «الثورية» نُسب اليها تيار عرف باسم «الثاتشرية». وهو نهج يقلّص دور الدولة الى الحد الأقصى الممكن ويلقي بمسؤولية الرفاه على الفرد ومن ثم المجتمع. وهو في هذا الإطار يحض على الإقلال من الإنفاق الحكومي وعلى تمليك الصناعات الحكومية للقطاع الخاص والجمهور.
 
المٌخلّصة المُقسّمة في آن
لكن ثاتشر كانت أيضًا عامل انقسام في المجتمع بعدما نجحت في القضاء على نقابات العمال في أعقاب إضراب عمال مناجم الفحم عامي 1984 و1985، وهذا رغم أنها «أنقذت» الاقتصاد البريطاني بتحريره من قبضة هذه النقابات.
وخارجيًا، عززت «العلاقات البريطانية - الأميركية الخاصة» وكانت لصيقة الوشائج مع الرئيس الأميركي وقتها رونالد ريغان. وعندما «غزت» الأرجنتين جزر الفوكلاندز عام 1982، أرسلت ثاتشر قوات البحرية الملكية فاستعادتها في خطوة رفعت شعبيتها كثيرًا في بلادها.
على أن مد هذه الشعبية انحسر بشكل درامي عندما فرضت ضريبة جديدة في بدايات التسعينات باسم «ضريبة الرؤوس» التي اعتبرت قاسية وغير عادلة وأدت الى أسوأ أعمال شغب تشهدها بريطانيا في تاريخها الحديث.
 
كما أنها أدت الى انقسام حزبها بشأن تأففها من الوحدة الأوروبية الاقتصادية والنقدية. وانتهى بها الأمر الى ما لم يخطر وقتها على بال أحد، وهو أن بعض كبار رجالات الحزب من مكتوين بنار سطوتها نافسوها على الزعامة، فأجبرت على تقديم استقالتها عام 1990. ومنذ عام 1992 صارت تعرف بلقب البارونة ثاتشر واقتصر نشاطها السياسي على عضوية مجلس اللوردات و«مؤسسة ثاتشر» التي ترأسها. وحوالي العام 2000 أصيبت بالخرف وظلت حالتها الصحية تتأرجح بين السيئ والأسوأ حتى أعلنت أسرتها وفاتها بجلطة دماغية صباح الأربعاء الماضي. 
 
البدايات
ولدت مارغريت هيلدا روبرتس في 13 أكتوبر / تشرين الأول 1925 في بلدة غرانثام، مقاطعة لينكونشاير، بشرق انجلترا لأبيها ألفريد روبرتس الذي كان بقالاً وناشطًا سياسيًا محليًا. ونشأت في داره الصغيرة المتواضعة فوق متجره نفسه.
وكانت مبرّزة أكاديميًا في مدرسة كيستيفن للبنات، ودرست في ما بعد الكيمياء في جامعة أكسفورد. وبعد تخرجها عملت باحثة في مصنع للآيس كريم وساعدت فيه على ابتداع وسائل دوامه أطول فترة ممكنة، كما ساعدت في كيفية إنتاج «الآيس كريم الليّن».
وكانت بشكل موازٍ ناشطة سياسية داخل حزب المحافظين «رغم أن أباها كان لبيراليًا). وأتاح لها العمل الحزبي في مقاطعة كينت فرصة لقاء دنيس ثاتشر الذي تزوجها عام 1951. ولما كان ثاتشر رجل أعمال ثريًا، فقد أتاحت لها أمواله دراسة القانون في كلية لينكونز إن في لندن حتى أصبحت محامية في 1953، وهو العام نفسه الذي أنجبت فيه توأميها مارك وكارول.
 
صعود إلى الزعامة
في انتخابات 1959 أصبحت ثاتشر عضوًا بالبرلمان ثم وزيرة للتعليم بعد فوز المحافظين بانتخابات 1970. وعندما خسروا، بقيادة ادوارد هيث، انتخابات 1974، قررت ثاتشر أن سياسات هذا الرجل الاقتصادية والاجتماعية تفتقر الى النهج الصحيح الذي يستلزم لبريطانيا «العظمى»، فأعلنت منافسته على الزعامة.
وحدث ما لم يكن في الحسبان وهو أن ابنة البقّال هزّت أحد أعمدة السياسة البريطانية ومعه سطوة الرجال على مقاليد الأمور في البلاد، عندما هزمته بشكل غير متوقع في الاقتراع الأول. ثم حصلت على منصبه – حلمها الأكبر - بعد فوزها عليه مجددًا في الاقتراع الثاني في فبراير (شباط) 1975.
 
لقب «السيدة الحديدية»
في 19 يناير / كانون الثاني 1976 ألقت خطابًا في لندن هاجمت فيه الاتحاد السوفياتي بضراوة بالغة قائلة إنه «يسعى للهيمنة على العالم لأنه يضع البندقية قبل الخبز بينما نحن نضع الخبز قبل كل شيء آخر».
 
وردًا على ذلك أطلقت عليها صحيفة «النجم الأحمر» التابعة لوزارة الدفاع السوفياتية لقب «المرأة الحديدية» الذي كانت فخورة به، والذي التصق بها حتى داخل بريطانيا نفسها بسبب مواقفها الصارمة التي لا تتزحزح عنها. (صار سرًا مفتوحًا أن وزراءها كانوا يرتعدون أمامها ولا يخالفونها الرأي حتى في حال تأكدهم من خطئها لأن معارضتها تعني نهاية الطريق السياسي لصاحبها).
 
في سنواتها زعيمة للمعارضة كانت الحكومة العمالية تواجه مصاعب جمة في مواجهة النقابات في شتاء 1978 - 1979 (سُمّي «شتاء السخط») بحيث انها خسرت انتخابات 1979 للمحافظين وأصبحت ثاتشر، كونها زعيمة المحافظين، أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في تطور هو الأول من نوعه بطول التاريخ السياسي البريطاني، مؤكدة بذلك أنها «حديدية» فعلا.
 
رئاسة الوزراء
شكلت ثاتشر حكومتها في 4 مايو / ايار 1979 قائمة على برنامج لوقف الانزلاق الاقتصادي وتقليل دور الحكومة في مجريات الأمور. وكانت بذلك «مرآة» لسياسة الرئيس رونالد ريغان الذي انتخب عام 1980، والى حد ما لسياسة برايان ملروني الذي انتخب في الفترة نفسها رئيسًا للوزراء في كندا. وهكذا بدا أن معسكر المحافظين اكتسب اليد العليا في كبرى الدول الناطقة بالانكليزية.
 
محطات رئيسية
في 2 أبريل / نيسان 1982 نزلت القوات الأرجنتينية على جزر الفوكلاندز (المالفينا بالاسبانية) التي تعتبرها لندن أراضي بريطانية غزتها قوات أجنبية. وعلى الفور دخلت ثاتشر في حرب مع الأرجنتين انتهت باستعادتها الجزر. وكان النصر الساحق الذي أحرزته على العمال في انتخابات يونيو / حزيران 1983 نتاجًا مباشرًا، كما يقول معظم المحللين، للنصر في تلك الحرب. وفي ما بعد أضافت ثاتشر الى رصيدها الشعبي وسط الطبقات العاملة بإعلانها برنامج «الحق في الشراء» الذي أتاح لسكان المنازل المملوكة للمجالس المحلية شراءها بأسعار زهيدة، وهذا إضافة الى تملّك الأسهم في شركات الدولة التي باعتها للقطاع الخاص. 
 
ومن المعالم البارزة في عهد ثاتشر كسرها شوكة النقابات بعد إضراب عمال مناجم الفحم الذي استمر عامًا كاملاً. لكن ثاتشر كانت قد تهيّأت لذلك بمخزون ضخم من الفحم فتفادت حدوث أزمة، أضف الى ذلك أن قيادة النقابة أعلنت الإضراب من دون استفتاء العمال أنفسهم، فتحول الرأي العام الى جانب ثاتشر واضطر العمال الى العودة الى العمل من دون أي تنازلات من جانب الحكومة. ففقدت النقابات بأجمعها يدها الحديدية وصارت في ما بعد مجرد نمر من ورق.
 
وخلال الحرب الباردة، وقفت ثاتشر خلف سياسة ريغان المتعلقة بالردع النووي ضد السوفيات. فسمحت للقوات الأميركية بوضع صواريخ «كروز» في قواعد بريطانية. وهذا القرار أثار موجة هائلة من أنصار حملة نزع السلاح. كما سمحت للطائرات الأميركية بالانطلاق من قواعد بريطانية لقصف ليبيا عام 1986. على أن انقيادها وراء البيت الأبيض كان ضمن الأسباب لتي حدت بوزير دفاعها مايكل هزلتاين للاستقالة ومنافستها على زعامة الحزب في ما بعد.
 
وعام 1985 اقترعت جامعة اوكسفورد على حجب الدكتوراه الفخرية عنها احتجاجًا على التخفيضات في ميزانية التعليم. وكانت العادة هي أن تمنح الجامعة هذه الشهادة لكل رؤساء الوزراء الذين تلقوا تعليمهم فيها.
 
صناعة التاريخ مجدداً
بفوزها في انتخابات 1987 العامة، أصبحت ثاتشر أول رئيس/ رئيسة وزراء تفوز بثلاث ولايات متعاقبة منذ لورد ليفربول الذي تولى المنصب منذ 1912 حتى 1827. لكنها بدأت تفقد شعبيتها عام 1989 عندما عانى الاقتصاد من أسعار الفائدة العالية. وفي نوفمبر / تشرين الثاني من ذلك العام أجبرت على المنافسة في انتخابات زعامة الحزب لكنها فازت بها.
 
وفي 31 مارس / اذار 1990 تحولت مظاهرة ضد ضريبة الرؤوس في لندن الى أعمال شغب دامية ورفض قطاع كبير من الناس دفعها. ومن جهتها رفضت ثاتشر إلغاءها فكانت عاملاً مهمًا في سقوطها اللاحق. ولكن كان من الخطوات الكبرى التي أنجزتها قبل رحيلها إقناع الرئيس جورج بوش الأب بتحرير الكويت من القوات العراقية قائلة له لما رأت تردده: «هذا ليس وقت التأرجح والترنح».
 
السقوط
بحلول 1990 تضافرت عدة عوامل لإضعاف المرأة الحديدية، منها ضريبة الرؤوس، وسياسة حكومتها الاقتصادية، ورفضها التكامل الاقتصادي مع أوروبا، والانطباع العام بأنها متسلطة ومتعجرفة.
وأسرعت بالدعوة لانتخابات على زعامة الحزب استقالة وزير المالية جيفري هاو ردا على «إهانتها المستمرة له في اجتماعات مجلس الوزراء» ودعوته علنًا لإطاحتها. وهو ما حدا بوزير الدفاع السابق مايكل هزلتاين لمنافستها. وفي الاقتراع الأول فشلت ثاتشر في الحصول على أصوات كافية لتفادي اقتراع ثانٍ.
وعندما استشارت أعضاء حكومتها وجدت أن معظمهم يعتقد أنها ستخسر الجولة الثانية فأعلنت استقالتها في تمام الساعة التاسعة والنصف صباح 22 نوفمبر 1990، ولاحقًا غادرت 10 داوننغ ستريت وعيناها مغرورقتان بالدموع. وفي ما بعد دعمت جون ميجر لخلافتها (وهو ما حدث) وتخلت عن مقعدها البرلماني في 1992.
 
من أقوالها
* «إذا أردت قولاً فاسأل رجلاً، وإذا أردت عملاً فاسأل امرأة».
* «لا يوجد شيء اسمه مجتمع. هناك رجال أفراد ونساء فرادى وعائلات».
* «أنا لم احتضنه، بل قصفته بالقنابل» (قالتها بعد مشاهدتها صور توني بلير وهو يحتضن العقيد القذافي). 
* «للرجل أن يتسلق جيل ايفريست. لكنه لدى بلوغه القمة يرفع علم بلاده»
* «صرنا جدة». (قالتها وهي تعلن مولد حفيدتها في 1989 وأثارت بها موجة من السخرية لاستخدامها صيغة التفخيم التي لا يسمح بها العرف في اللغة الانجليزية الا للملوك).
* «قطع النقود لا تسقط من السماء ولهذا يتعيّن على المرء الكدح من أجلها على هذه الأرض»
* «هزيمة»؟ ما معنى هذه الكلمة؟»

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع