بقلم : على سالم
ابتداء، أسجل اعتراضي بأقوى الكلمات، على استخدام كلمة تطهير في العمل السياسي بوجه عام؛ إذ هي كلمة سيئة السمعة، تاريخيا، ومدانة ومرفوضة، ولم تعد تستخدم إلا في قسم الحوادث بالمستشفيات العامة لتطهير جروح المصابين. وباستخدام هذه الكلمة هتافا وشعارا لمظاهرة، وعندما يكون موضوعها هو قضاء مصر وقضاتها، فإن الجهة صاحبة المظاهرة والهتاف والشعار تعلن عن جهل يصعب وصفه بأحداث التاريخ القديم والوسيط والمعاصر، كما تعلن عن عجزها الفاضح عن الاستفادة من دروسه.
بدأت الحكاية بتصريح للشيخ عاكف مرشد جماعة الإخوان السابق يعلن فيه أن هناك نحو 3500 قاض سيتم تفويرهم، أي التخلص منهم. كلمة تفوير كانت تستخدم في العامية المصرية بمعنى الطرد من العمل. إنها تعني كلمة «إنهاء» أي «التفنيش» المستخدمة في المنطقة العربية. مجرد استخدام كلمة تفوير يشكل إهانة واضحة للقضاء والقضاة، كان من السهل عليه استخدام تعبير «الاستغناء عن خدمات» غير أنه لم يفعل، وفي التفاصيل كان المطلوب هو إنهاء خدمة القضاة الذين تخطوا الستين من أعمارهم، وهو ما يتطلب إصدار قانون جديد من مجلس الشورى الذي تشير عليه الحكومة أو الجماعة بما يجب أن يفعله.
الهدف من القانون الجديد هو التخلص دفعة واحدة من هذا العدد الكبير من القضاة، ثم الاستفادة من خلو أماكنهم بتعيين من يرونه مفيدا أكثر للحكومة. ثارت كل الأحزاب عقب هذا التصريح الذي لم ينفه أو يستنكره أحد في الحكومة، ولكن والحق يقال سارعت الحكومة بإصدار عدة تصريحات تقول فيها إنها تحترم القضاة والقضاء، غير أن المصريين جميعا كانوا على يقين أنه من الممكن أن تفصل شخصا ما من عمله وأن تحترمه في الوقت نفسه، أي إن الاحترام لا يتعارض مع التفوير. حتى هؤلاء الذين يقطعون عليك الطريق ويستولون على سيارتك وأموالك، هم بالتأكيد يكنون لك قدرا كبيرا من الاحترام غير أنهم للأسف في حاجة ماسة للاعتداء عليك. شعر القضاة كما شعرت كل الجماعات والأحزاب السياسية بالغضب وقرر القضاة الاجتماع بدعوة من نادي القضاة وذلك ردا على الحكومة التي سيرت في الشارع مليونية تطهير القضاء، وفي الاجتماع عرض المستشار الزند رئيس النادي مشاهد بالفيديو لحصار سابق لدار القضاء. المشاهد كانت تحفل بشتائم مروعة.
هكذا نزل إلى الشارع عشرات الألوف من القاهريين والقادمين من الأقاليم تلبية لدعوة الحكومة، وكان من المستحيل على أحزاب المعارضة وبقية الجماعات السياسية مواجهة هذه الجحافل. لذلك اكتفوا باجتماع يحضره مندوبون عنهم في دار جمعية الشبان المسلمين، أعيد تذكيرك بأن الدار التي اجتمعوا فيها تسمى جمعية الشبان المسلمين وليس الشبان الذين لا دين لهم. اجتمعوا لممارسة الفن الوحيد الذي نجيده وهو الكلام. في ذلك الوقت كانت الجبهة الأخرى التي تطالب بتطهير القضاء، كانت محتشدة في ميدان التحرير، وظهر بينهم صارخ يصرخ: ياللا على جمعية الشبان المسلمين.. الأعداء هناك.
هكذا اندفع عشرات ألوف البشر لمحاصرة دار الشبان المسلمين، غير أن الشرطة تمكنت من حماية الموجودين بداخلها من الفتك بهم. الجديد في الأمر هذه المرة هو الإنعام على هذه الجحافل بلقب (المجهولين) والعناصر المجهولة، كل العناصر التي قامت بالاحتشاد والتظاهر من قبل كانت معروفة ما عدا هذه المرة التي أصدرت فيها الحكومة الأوامر لعناصرها المجهولة بالنزول إلى الشارع لإهانة القضاء تمهيدا لتفوير القضاة المراد تفويرهم.
حوصرت دار الشبان المسلمين وحوصرت القيادات الحزبية بداخلها، وفي حالات الحصار يشعر الإنسان بالاختناق والخوف مما قد يحدث له، لذلك يفكر في الخروج من المكان بأي طريقة ومهما كانت خسائره. لا بد أن الكاتب الصحافي الأستاذ نبيل زكي اليساري المرموق قرر الخروج من الدار، لا خوف عليه من الجماهير، هذه هي الجماهير التي أنفق عمره ومداد قلمه في الدفاع عنها، أي كاتب يساري وخاصة عندما يكون صاحب سجل نضالي ناصع البياض سيفكر على هذا النحو، لست أخشى الجماهير لأنها واعية وتعرف من هم هؤلاء الكتاب الذين دافعوا عنها في مواجهة كل أنواع الاستبداد. وخرج الرجل من الدار، وبعد لحظات صاح صائح طبقا لأقوال نبيل المنشورة: نبيل زكي الكاتب اليساري أهو..
وبدأ حفل الضرب، انهالوا على الرجل ضربا، واستطاع ضابط مباحث قسم الدقي الإفلات به منهم، غير أنهم تمكنوا من استعادته مرة أخرى بخدعة أصبحت معروفة الآن في حفلات الضرب في المظاهرات السلمية؛ يقترب منك أحد الناس غاضبا ورافضا ما حدث لك ويعرض عليك أن يساعدك في الابتعاد من طرق يعرفها، ولأنك غريق يستنجد بقشة فستمشي معه لتجد نفسك مرة أخرى وسط الجماهير المستمتعة بضربك وتدمير سيارتك.
لعشرات السنين كانت كلمة (الجماهير) هي نقطة خلافي الوحيد مع زملائي في اليسار بأطيافه، كنت أرى دائما أن الجماهير في حالة الاحتشاد العاطفي الغاضب في الشارع أكثر إخلاصا واستجابة وحبا لمن يدعوهم إلى الفتك بالآخرين.
لماذا لم تتمكن الشرطة من فك الحصار حول جمعية الشبان المسلمين؟ كانت وجهة نظرهم هي: نحن قادرون فقط بأعدادنا القليلة نسبيا على حماية المحاصرين، أما عندما نخرج بهم فسنفشل حتما في حمايتهم في مواجهة عشرات ألوف البشر.. ربما يتم تمزيقهم بين أيدينا، لذلك لا بد من مرور الوقت الكافي لانصراف عدد كبير منهم وتغير الموقف على الأرض. المشهد يذكرني هنا بعصر المماليك، كل البيوت كانت لها سراديب (أنفاق) تحت الأرض، عندما يحدث حصار لأهل البيت وتتأخر عنهم نجدة الأصدقاء، كانوا ينزلون إلى هذه السراديب الطويلة التي تخرج بهم إلى مكان آمن. أعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة لحماية الشخصيات العامة عندما يتعرضون للحصار. مشاكلنا في حاجة إلى استخدام الخيال، على أساتذة هندسة البناء، استخدام كود جديد هو كود السراديب، تماما ككود الزلازل.
هناك في أجهزة الشرطة الأميركية على الأقل شخص يسمى الــ(profiler) إنه راسم الملامح، هو يقوم بدراسة مسرح الجريمة ثم يرسم بما له من خبرة ملامح الفاعل. من هو ذلك الشخص الذي يهين القضاة علنا؟
بالتأكيد هو شخص عانى من الشرطة ورجال المباحث كثيرا، ثم وصلت معاناته إلى السقف عندما كان القاضي يحكم عليه بالسجن عقابا له على جرائمه المتكررة. هو يحلم بعالم بغير شرطة وبغير قضاة، عالم يستطيع فيه الإنسان أن يسرق وأن يقتل وأن ينهب بغير أن يذهب به أحد إلى المحكمة.
نقلان عن الشرق الاوسط
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=93388&I=1518