انتاج اللاعنف فى الحالة المصرية" التعامل مع الاقباط نموذجا "

محمد زيان

بقلم : محمد زيان
نُحاول فى هذه السطور أن نُلقى الضوء على انتاج العنف فى المجتمع المصرى، وطبيعة الأسباب والمحددات التى تضع الحالة المصرية سريعا على محك الانفجار فى العديد من الحالات التى أربكت المجتمع فى الفترات الماضية .
 ومن خلال الرصد يبدو لنا طرح السؤال الهام : هل يمكن الوصول الى حالة اللاعنف ؟ وما هو دور التعليم فى انتاج التنوير ومزيد من العقلانية،  ودور البُعد الاقتصادى فى صناعة العنف؟
 وايضا البحث عن إجابة السؤال الأزلى : هل الحكومة أم الفرد هو صاحب المبادرة فى التغيير، ودور العصبية- بحسب ابن خلدون- وموقعها فى ميلاد الجنين الطائفى،وحقيقة سلوك الفرد الاجتماعى فى إطار القانون ؟
وهل حقا  يتمرد الفرد على القانون ؟ و هل الافراد فى مصر على استعداد لوقف العنف؛ وبالتالى الوصول إلى الحالة المثالية التى ننشدها وهى حالة " اللاعنف " والتى تسمى فى الدستور " السلام الاجتماعى " .  

 المُتابع يجد أن الحالةَ المصرية فى تحليل البعد الطائفى تبدو معقدة إلى حد كبير بالقياس إلى تجارب آخرى استطاعت الخروج من هذا النفق المظلم. وتجاوز الاقتتال على الدين( إذا سلمنا هنا بالحالة اللبنانية نموذجًا على أننى هنا لست فى صدد الرصد والتحليل لها لكن مجرد القياس  والاحالة التفسيرية فقط )، فالحالة المصرية تكاملت فيها جميع المحددات  التى تَدفع فى إتجاه الاقتتال المحمول على البعد الدينى والمذهبى  وهذه العوامل هى : (الأمية ، قلة معدلات القراءة ومعرفة الآخر، المخالف فى اللون أو الجنس أو الاعتقاد)، وإن كان الأخير هنا هو المقصود هنا فى هذه السطور. 

  بالاضافة إلى أنه لايزال الميراث العربى القديم فى العنف والقتل موجودًا بما يحتاج من كم هائل من عمليات التعليم والتعبئة المستمرة، لقطع الطريق على العنف، أن يمتد للأجيال القادمة . 

فالحالة المصرية فى العنف المرتبط بأبعاد أيدلوجية وعقيدية  تتداخل فى  إنتاجه، وتتضافر فى إبراز ملامحه . ويبقى القول بها وبمنتهى الصراحة  على سبيل بيان الحقيقة هو( المحدد للمكاشفة ومقدمة الحل بعيدًا عن المجاملات  غير المحسوبة العاقبة )، بمعنى أننا أمام حالة من العنف يعتدى فيها المسلمون على المسيحيين فى مصر، تَفاعلت فيها مجموعة من العناصر، والمحددات، لتميزه عن  غيره من حالات العنف المنتشرة فى المجتمع أو فى المجتمعات الآخرى ( كالصراعات الريفية على الأرض أو الاقتتال على العصبية - بحسب ابن خلدون- أو القتل على التمايز الاجتماعى الطبقى ، أو على الثروة والسلطة- كما يحدث فى الكثير من بلدان العالم وفى صفحات كثيرة من تاريخ مصر) .
 تختلف أيضا عن حالات الاقتتال المسيحى التى لا تحظى بنفس الهالة اللإعلامية..... وعندى مثال على ذلك، بإحدى قرى  المنيا " فى دلجا حيث قتل اقيبط اخيهم ودفنوه فى باطن الأرض "
 أخذت القضية مسارها الطبيعى دون خسائر وتخريب ،وهنا نحاول أن نلقى الضوء على هذه العوامل و نسردها على النحو التالى  :

أولا : طبيعة المجتمع المصرى ، فهو مشحون دائما بعوامل الإنفعال والعصبية جراء الوضع الاقتصادى والاجتماعى الأليم الذى يحياه المواطن من عدم العدالة فى توزيع الدخل ووجود فئات تحت خط الفقر ، عدم العدالة فى توزيع المناصب وإنعدام تكافؤ الفرص أصلا ، فضلا عن إرتفاع معدلات البطالة فى صفوف الخريجين بشكل تجد معه (مؤهلات عليا ودرجات علمية) تعمل فى مهن خدمية كماسَحى أحذيه أو فى مقاهى أو فى الحقول .وهو ما يتبعه وجود احساس دائم بالظلم والنقمة على المجتمع المحيط وما أن تَنسح  الفرصة حتى يخرج المواطن هذا الكم الهائل من الانفعال ضد المختلف معه، وتكون أقصى درجات الانفعال فى رد الفعل تجاه المختلفين فى الدين  باعتبار أن الشحن المستمر لهذا المواطن يتم من زاوية العقيدة والمقدس، والحلال والحرام، والكفر والايمان، ومصطلحات الجهاد، ورفع راية التحرير من دنس الكفار. وما إلى ذلك من قراءات فقهية عفا عليها الزمن .

فالمجتمع المصرى به العديد من أوجه التنوع منها (مثلا) الميراث العصبى والقبلى الوافد إلينا عبر الملاحم والبطولات وسير الأوليين،ومنها على سبيل المثال " قصة مقتل عمرو بن هند ملك الحيرة على يد عمرو بن كلثوم بسبب طلب أم القتيل من أم الثانى أن تناولها طبق بعد أن فرغ الرجال من الأكل وكان ملك الحيرة قد طلب عمرو بن هند وقومة فى عزومة وبعد الأكل صرخت أمه  ( واذلاه يالتغلب )- تقصد قبيلتها- فما كان من إبنها إلا أن استل السيف وقتل به الملك رغم انه للتو كان قد أكل فى منزله وقال ابن كلثوم معلقته التى لا تزيد عن الألف بيت والتى تصف الحالة وجاء فيها : " أبا هند فلا تعجل علينا .. وانظرنا نخبرك اليقينا  " بأنا نورد الرايات بيضا .. ونصدرهن حمرا قد روينا " ويقصد هنا بالدم ".

 أنظر هنا إنتاج المزيد من الدم بسبب طبق أرادت إحداهن أن تساعدها الآخرى فى تناوله، وبالتالى فاننا إذا ما فهمنا أن جزءًا لايزال متبقيًا من هذا الميراث، فإننا يمكننا أن نفهم دلالات ما يحدث الآن فى المجتمع المصرى .

 ثانيا :   التعليم  له دور كبير فى إزالة الغبش عن الافكار المنتشرة وفرزها بما يتناسب مع العصر الذى نعيش فيه، وبالضرورة يجب على الدولة أن تضع برنامجًا قوميًا لمحو الأُمية بشكل جدى،وليس كما شاهد الجميع من خلال مشروعات صورية بلا اهتمام ويتم الانفاق عليه من خزانة الدولة لتطوير الدولة وتحديث العقول . فمن غير المتصور أن يكون هذا الكم الكبير من الأمية فى مصر وننتظر إمكانية تحديث حقيقى للمجتمع مع عقول وكفاءات  لاتتجاوب مع المطروح من أفكار، فكأنك تغرد فى بلد آخر " نؤذن فى مالطه "  ويتخيل البعض انك تمارس السخرية منهم .

 ثالثا : هناك طرح آخر هام فى الاسباب والمحددات التى تُساهم فى إنتاج العنف الطائفى فى مصر، وهو بخلاف التعليم والتراكم المعرفى والوجدانى، الذى يجعل العنف نتاج طبيعى ضد الاقباط ( لأننا هنا نناقش العنف ضد الأقباط المبنى على أساس الدين  ولإن المجتمع المصرى مليىء بالتناقضات وإنتاج أنواع عديدة من العنف  ) .
 البعد الثالث هو، المستوى الاقتصادى وله دور كبير فى إنتاج الطائفية والطائفيون ، فمثلا... لو قمنا بإحصاء حالات العنف الطائفى وموجات القتل والحرق والهدم التى قامت بها عناصر غير مسئولة ولا تحظى بقدر من التعليم أو الثقافة، ولكن كل ما تم تعبئته فى أدماغَتهِم( هو أن هذا كافر وهذا زنديق وذاك خارج من لمامه). ولم تكن هناك محاولة لقراءة هذا الذى يوصف بالكفر أو بالخطر لوضعه فى حجمه الطبيعى ،لأن إنعدام القراءة توصلنا لحالات الدمار.... وانظر إلى أحداث "قرية  دلجا ، نزلة  البدرمان ، قرية تلوانة / عزبة بشرى / كفر سلامة ، عزبة الأقباط ، قرية أبو جبل بديروط ، قرية نباى  بالباجور ،  العديسات ، قرية الكشح ، قرية جرزا ، عزبة بوش ، قرية بمها ، قرية العليقات ،قرية ابراهيم باشا بسمالوط 1991 ، قرية دشاشة بسمسطا فى 17-8-2008 ، دير أبو فانا التابع لقرية قصر هور بملوى ، قرية دير البرشا ، قرية الروضة بالفيوم غى 2007 ، عزبة النخل ).
 بالنظر إلى هذه الأحداث التى ذكرناها بمنطق السر والتفصيل لبيان أنها جميعا إنفجرت فى قرى وعزب ونجوع ، فى مناطق لم تصلها الثقافة وبالتالى يبقى ما طرحناها فى مقال" نحو مشروع حقيقى لمواجهة الطائفية"   من تحديث هذه المناطق والقرى فكريًا، والارتقاء بمستواها الثقافى والاقتصادى بعمل مشروعات تنجح فيها الدولة فى إجتذاب المواطنين واختكاف أوقاتهم منهم للإنتاج الفعلى والتقدم وليس لمزيد من الهدم والدمار. .

هنا لم نجد أن حادث من الحوادث إندلع فى مصر الجديدة مثلا ... المعادى ، مدينة نصر ، الزمالك ، المهندسين ، أو فى أى من المناطق التى تحظى بمستوى اقتصادى عال ... وهذا يقودنا إلى افتراض مؤداه( أنه كلماإرتفع المستوى الإقتصادى، كلما قلت معدلات العنف الطائفى بالتوازى مع ارتفاع المنسوب المعرفى) " فالفقر هنا سبب الجريمة الطائفية " .

رابعا : الانسداد الثقافى فى مصر ، فالحكومة عاجزة عن إنتاج برنامج تنموى مناسب لعقول المصريين ،يساهم فى تحديث قدراته على قبول التعدد والتمايز الدينى والاثنى .
 وفى نفس الوقت تجد المواطن المصرى يغرد فى وادً آخر، عندما يتحدث الاعلام عن ضرورة مواجهة العنف ويخضع  للمثل " ودن من طين وآخرى من عجين " ولايتجاوب مع محاولات التحديث المعرفى التى تبدو نادرة وتحتاج لحمله قومية -كما أشرنا سالفا- على غرار حملات مواجهة الارهاب فى التليفويون العراقى ، وحملات التوعية بمترو الأنفاق والسكة الحديد، وبأنفلونزا الخنازير التى يبثها التليفزيون المصرى وهو ما يقودنا  الى الدور الهام الغائب لوزارة الاعلام ..!

خامسا : غياب القانون ، فالملاحظ لما يجرى على الساحة المصرية من حوادث عنف عادية، يجد أن القانون القائم لا يكفى للرد على المجرمين بشكل يبدو معه اللجوء إلى تعديلات تشريعية أكثر قوة وردعلى العنف فى الشارع ،هو العلاج فى الحالات العادية وهو ما تجده عندما تركب المواصلات العامة ( سائق الميكروباص يمارس عليك البلطجة دون رد عليه ) – مثلا – وفى الشارع المضايقات المستمرة دون وجود دورية تحقق الانضباط فى الشارع ،  بل إن هناك بعض المناطق محرومة من التواجد الأمنى لتحقيق سير الحياة فيها بلا مشاكل .

أما فى الأحداث الطائفية فحدث وبدون حرج بشكل تجد معه أن الحادث يتكرر، وليس هناك الرد المناسب لوقف الاقتتال أو الاعتداء على الأقباط من خلال القانون القائم ،وبالتالى فنحتاج مثلا، نزولا على الوضع، عمل تشريع مناسب يردعلى حالات الاعتداء على الأقباط، ليمنع كل من تسول له نفسه ممارسة البلطجة على أساس الدين، بوصف أن كل حالات العنف الطائفى يكون العنصر القبطى فيها هو الخاسر . بالإضافه الى ،
 حاجة الحالة المصرية لقانون خاص يضرب بيد من حديد على الطائفيين القاتلين والمدمرين والمخربين، بحيث يحقن أنصار المشروع الطائفى بمصل مضاد، ويُقتل هذا الفيروس المتمدد على حساب الانسان والوطن .

والقول بهذا... لأطرح نابع عندنا من حالة التمرد المخيفة التى يمارسها الفرد الطائفى الغير متعلم والقاتل فى نفس الوقت، التى يقوم بها على القانون والتى تقودنا إلى التسليم بأن هناك عقول تتورم من كثرة الميل إلى العنف والتدمير تحتاج إلى ما يقابلها من رد على (determinism)  تتمثل فى صحيح القانون .
 
من كل ما تقدم يمكننا طرح التساؤل  : هل الفرد أم الحكومة هو من يملك التغيير وعلاج المرض الطائفى من جذوره ؟

ثمة إنقسام فى الاجابة على هذا السؤال إلى اتجاهين : الأول يقول( أن الحل يأتى من القمة إلى القاعدة) بمعنى أن الحكومة هى التى تصدر أوامرها بقوة القانون لوقف العنف الطائفى من خلال إعماله وتطبيقه بحزم على الخارجين . والقيام بتقديم تعليم يدفع فى اتجاه التكامل والتلاحم لا الإقتتال والتناحر والهدم والتخريب، والرجوع بالاقتصاد إلى الوراء ، وتشويه صورة الدولة فى الخارج .....وما إلى ذلك من دعم  لبرامج ومواقف تدعوا إلى الوحدة والقوة فى مواجهة مشاريع التفتيت والدعوة إلى الانقسام .

الاتجاه الثانى : يقول( أن الفرد هو الذى يمكنه الأخذ بزمام الأمور وإيقاف عجلة الطائفية التى تدور رحاها،والتى تأتى على الاقتصاد الوطنى والعنصر البشرى المصرى، من خلال اللجوء للثقافة والتعليم وتطوير الذات )..... ولعل أنصار هذا الاتجاه يحتكمون إلى نظرية جان جاك روسو التى تُعلى من قيمة الفرد فى التغيير والتى لخصها فى كلمته الشهيرة : " in order to change society you must begin with individual ,you cant force individual to change ,but you can help hime to change him selfe "

 من هذا الاتجاه وذاك يمكننا الخروج بنتيجة مؤداها...( أنه لابد من إحداث عملية تكامل بين الفرد والنظام العام فى الدولة المتمثل فى الحكومة بحيث تبدأ الدولة فى انتاج واقع تعليمى ، قانونى ، ثقافى ، اقتصادى  ، تربوى واجتماعى توجهه للفرد .
 وفى المقابل أن يتلقى الفرد هذا البرنامج التربوى ويصقلهُ فى إطار من القراءة والوعى الشامل،وتقدير المسئولية( للوصول إلى عالم بلا طائفية وواقع خال من المرض الطائفى) .