عزيز الحاج
بقلم: عزيز الحاج
عندما رحل قبل عشر سنوات، أبّنته في صحيفة "الحياة"، وذكرت أنه كان أكثر القادة الشيوعيين العراقيين إتقانا لفن الدبلوماسية والتعامل السياسي مع الآخرين، وكان الفقيد هو المحاور الشيوعي المفضل لدى عبد الكريم قاسم.
عامر عبد الله كان رمزا بارزا للحركة التقدمية الديمقراطية في العراق، منذ نشاطه في حزب الشعب، الذي تأسس علنيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وإلى انتمائه للحزب الشيوعي - مع زعيم حزب الشعب، عزيز شريف - في أواسط الخمسينات. وكان الفقيد أحد أبرز مثقفي الحركة الشيوعية العراقية، وكاتبا سياسيا من الدرجة الأولى، وأديبا، ومحللا سياسيا. ومن حسن حظ المكتبة السياسية العراقية والعربية أنه ترك وراءه عشية الرحيل كتابه المتميز، "مقوضات النظام الاشتراكي العالمي."
في ذلك الكتاب قدم عصارة أفكاره وتجاربه عن أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي والدول الشرقية "الديمقراطية الشعبية"، وكان رائده، كما كتب في المقدمة، إعادة النظر بموضوعية، وبعد تجربة طويلة وقراءات كثيرة، في أسباب انهيار نظام، كان هو من بين مواكبيه والمتعلقين به عن إيمان وقناعة. صحيح أن عامر عبد الله ظل يحلم بنظام اشتراكي من غير طبيعة ما أقيم في الاتحاد السوفيتي والدول السائرة معه: اشتراكية إنسانية وديمقراطية حقا، وظل يتصور إمكان قيام نظام كهذا على أنقاض الرأسمالية، التي بقي يعترها مصدر الشرور. قد يتفق معه البعض هنا وقد يختلفون، ولكن المهم أنه مضى في بحثه مقدما عشرات الوقائع والشواهد والمعلومات عن الأسباب الحقيقية لانهيار "النظام الاشتراكي العالمي"، ومنها وقائع مثيرة، مرعبة عن فنون القمع التي مورست في تلك العهود، وعن السياسة الشوفينية الروسية. كما أعلن اتفاقه مع بوخارين عن خطا موقف لينين في إعلان الثورة المسلحة "الاشتراكية"، نظرا لانعدام الظروف الموضوعية المناسبة لقيام نظام اشتراكي، وخصوصا بسبب التخلف الاقتصادي المروِّع وانتشار الجهل والأمية. وجدير بالذكر أن معظم أعضاء اللجنة المركزية السوفيتية عهد ذاك لم يكونوا متفقين مع لينين، ولكنه واصل الضغط المكثف فكانت الانتفاضة المسلحة.
ما أحسن ما يقوله عامر حين يؤكد أن الواقع لم يكن ولم يصبح رهن الأحكام والأحلام، داعيا التقدميين إلى مراجعة مسيرتهم، ونهجهم، وقراءة الواقع بعيون بصيرة. "أما المتحزب والمتحيز والمتحجر، ثم القائد المعتز بجلاله وسلطان ماضيه، أو الحريص على استبقائه أو استعادته، فلن يكون بمقدوره أن يحرك المسار، أو يحقق الهدف المبتغى."
لست مطلعا على كتابات أو تصريحات الفقيد في إعادة نظره شخصيا لمسيرته الحزبية الطويلة، كما فعل رموز شيوعية آخرون كالراحلين زكي خيري ورحيم عجينة، ولكنني أعرف تطور مواقفه التي عاصرتها شخصيا، أو قرأت عنها، مثل موفقه بعد تحرير إيران لأراضيها التي احتلها صدام، حيث انتقد المتعاونين مع إيران وقواتها ضد القوات العراقية، دون أن يعني ذلك الكف عن معارضة نظام صدام.
وقد توترت علاقته في اللجنة المركزية عام 1962، والتقيت به في براغ وهو في طريقه لموسكو، وسهرنا معا، فأبدى امتعاضه، ولكنه كان، كالعادة، غير متحامل على أحد، وغير مهوّل ولا مشهر فقد كان الخلق العالي من أهم خصاله الشخصية. ومع اعتماد خط آب لعام1964 دخلت معه في خلاف حاد، وفي الداخل جرى تشهير واسع به بين القواعد، واستمر التشهير، وإنني لمتألم جدا لتحملي شطرا من المسئولية عن ذلك، فقد كان لا يستحق ذلك بأية حال. صحيح أنه تطرف في الدعوة لمهادنة ودعم عبد السلام عارف، ولكنه، في الوقت نفسه، وكما كتبت مؤخرا، كان على صواب من الناحية التكتيكية برفض رفع شعار الإسقاط. وقد اختلفنا داخل اللجنة المركزية فيما بعد حول أشكال الكفاح. ولا بد من أن أسجل هنا أن الحزب الشيوعي كله اتخذ إستراتيجية "العنف الثوري" لإسقاط نظامي عبد السلام وشقيقه عبد الرحمن عارف، ولكن الخلاف كان حول أشكال "الكفاح المسلح". وهنا كان عامر وقلة معه يعتمدون على الانقلاب العسكري كالطريق الوحيد، وآخرون على أسلوب الانتفاضة الشعبية المسلحة العامة، وآخرون، - كنت منهم- ، يرون اعتماد إستراتجية تجمع مختلف أشكال العمل المسلح، ومنه العمل في الجيش. ليس الوقت هنا هو العودة والتطويل فالقصة طويلة، ولكن التوضيح ضروري.
رحل عامر عبد الله مخلفا وراءه ذكرى حميدة، وثروة فكرية. رحل بلا ضغائن ولا كراهية لأحد، حتى لمن هاجموه وتحاملوا عليه. كان، كما قلت، مثال الخلق العالي والأدب المثالي، مترفعا عن الصغائر والتجريح.
وفاة عامر عبد الله كانت خسارة حقيقية للحركة الوطنية العراقية، وهو يستحق أن تكرس عنه دراسات موضوعية منصفة، وأن يحتفل بذكراه كل عام.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=9355&I=248