بقلم: د. محمود خليل
«أراهن وأتحدى.. انزلوا الشارع واسألوا ١٠٠ مواطن عن قضاياهم، فلن يذكر أحد الانتخابات الرئاسية وتعديل المادة ٧٧ من الدستور»..
بهذه الكلمات الحاسمة علق الدكتور على الدين هلال على سؤال حول موقف الناس من قضية الانتخابات الرئاسية المقبلة، ومطالبة البعض بتعديل المادة ٧٧، وقد جاء السؤال فى سياق حوار صحفى متميز أجراه معه الصديق «محمود مسلم» ونشر على صفحات «المصرى اليوم» منذ أيام.
ولست بصدد التشكيك فى كلام الدكتور على الدين هلال، فهو أستاذنا الذى تعلمنا منه الكثير عندما كان يدرس لنا مادة «نظم سياسية ودستورية» فى كلية الإعلام.
إننى أؤكد صدق ما ذهب إليه الأستاذ الجليل، بل أستطيع أن أحدد له من خلال احتكاكى بالكثيرين أهم قضية تشغل المصريين حالياً، وهى موقعة الرابع عشر من نوفمبر التى سوف يلتقى فيها فريقا مصر والجزائر لتحديد المرشح منهما لكأس العالم فى جنوب أفريقيا (٢٠١٠) التى نافست مصر على تنظيمها، لكنها أخفقت فى ذلك لسوء الحظ!
يأتى بعد ذلك موضوع المستوى العجيب الذى يظهر به فريق الكرة بنادى الزمالك، وما يلقاه من هزائم وتعادلات متوالية جعلته يقبع فى مركز متأخر فى ترتيب الدورى العام.
وأكبر دليل على انشغال الكثيرين بهذا الموضوع أيضاً تلك الصرخة المدوية التى أطلقها أحد أعضاء الحزب الوطنى، حين قال إن حظ وزير النقل من «حظ نادى الزمالك، فهو يلعب لكنه لا يفوز!».
وهناك موضوعات أخرى قد تشغل البعض بصورة هامشية، مثل موضوع تصادم قطارى العياط، وقد تعامل الناس معه ببلادة بعد أن أصبحت قضية الموت المجانى مسألة عادية جداً فى مصر، وهناك أيضاً موضوع أنفلونزا الخنازير الذى أصبح الكثيرون يتعاملون معه ببلادة أشد بعد حكاية «قطارى العياط» التى أعطت لهم عبرة ومثلاً بأن من لم يمت بالخنازير مات بغيرها!
أنا أدعو الدكتور على الدين هلال، وغيره من المثقفين والسياسيين المعنيين بالشأن العام، إلى التفكير معى فى الأسباب التى أدت بالناس إلى الوصول إلى هذه الحال التى تراجع فيها اهتمامهم بمستقبل الحكم فى بلدهم لحساب الاهتمام بموضوعات أخرى قد لا تؤثر فى حياتهم ومعيشتهم، أو حاضرهم ومستقبلهم بأى صورة من الصور (مثل موضوعات الكورة)!،
كذلك أدعو الدكتور على إلى التفكير معى فى وسيلة للخروج من هذا المأزق، لأننى أوقن أنه مهموم مثلى- وقد يكون أشد ـ بضرورة إعادة ترتيب أولويات المواطن، بحيث يصبح أكثر انفعالاً وتفاعلاً مع القضايا الحقيقية للوطن.
إن أبرز سبب لهذه الحالة يكمن فى أن «هزلنا تحول إلى جد» و«جدنا تحول إلى هزل»، فمن يشاهد الطريقة التى يتم تحليل مباريات الكرة بها يستطيع أن يلاحظ بسهولة حالة الجدية والصرامة التى تعلو وجه المحلل، ودرجة الاهتمام والتدقيق التى يتعامل بها مع كل تفصيلة من تفاصيل المباراة، سواء تعلقت بأداء لاعب، أو خطأ حكم، أو تقصير مدرب، أو شغب جمهور.
إننى أريد فقط أن نقارن بين حجم الساعات التى توليها برامج التليفزيون والراديو والمساحات التى تخصصها الصحف للحديث عن مباراة كرة مقارنة بما تخصصه من وقت لمناقشة موضوع مثل تغيير المادة ٧٧ من الدستور، وغيرها من المواد الأخرى التى تتوسع فى الصلاحيات الممنوحة لرئيس الدولة، أليس هذا أكبر دليل على تحول جِدّنا إلى هزل وهزلنا إلى جِدّ!
وقد أستطيع أن ألتمس العذر للمواطن الذى يبحث عن معلومة صادقة فيما يحدث حوله فلا يجدها إلا فى الرياضة، فمن الصعب أن يخدعه أحد فى عدد الأهداف التى سُجلت فى مباراة، لكنه يمكن أن يُخدع بسهولة فى عدد الضحايا الذين لقوا حتفهم جراء تصادم قطارى العياط!،
والأهم من ذلك أن يأسه من تغيير الواقع السياسى أو الاقتصادى المحيط به يحجم اهتمامه بأى موضوع سياسى، مثل الانتخابات أو تعديل بعض مواد الدستور، ويدفعه دفعاً إلى عالم الكورة (مع احترامى لنجومه)، ولنا هنا أن نتساءل:
هل المواطن الذى يحلم بأن تتأهل مصر لكأس العالم، وحيجنن عشان نغلب الجزائر، لا يحلم أيضاً بوطن يتمتع بديمقراطية حقيقية، وطن متقدم اقتصادياً وتعليمياً وصحياً، وطن متعاف وقادر على فرض هيبته على الإقليم الذى يقع على خريطته؟
لكن كيف يحلم المواطن بغير التحقيقات الكروية وهو يرى كبار مسؤولينا يهرولون إلى استقبال المنتخب القومى فى المطار بعد كل هزيمة ينالها، فى الوقت الذى يتعاملون فيه بمنتهى الهزل مع قضاياه السياسية والاقتصادية وخلافه.
كيف يعتقد المواطن ـ مثلاً ـ فى جدية مشهد سياسى أصبح الكبار فيه يؤدون مثلما يؤدى لاعبو الكرة المحترفون، فعندما يُسأل أى لاعب كرة الآن عن النادى الذى يمكن أن يلحق به خلال فترة الانتقالات الشتوية المقبلة، فسوف يرد عليك بأننى لم أحدد بعد، وهو نفس موقف كل الأسماء التى ترشحها وسائل الإعلام لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة.
فالكل يراوغ ويرفع شعار «لم أحدد بعد»، والحزب الوطنى نفسه يرفض الإفصاح عن اسم مرشحه للانتخابات المقبلة متذرعاً بأن الوقت لم يحن بعد، رغم أن توقيت الإعلان عن الاسم (الآن أو بعد عام) لن يقلل من حظوظ اسم المرشح، ويجعلها مثل حظ نادى الزمالك (على رأى نائب الحزب الوطنى!).
فى ظل هذا الوضع تصبح «الكورة» أرحم!، فقد تحمل مباراة أملاً جديداً ينعش حياة المواطن، حتى ولو بالوهم!،
وهذا ما تريده الحكومة بالضبط!، أن ينشغل الناس عن قضاياهم الحقيقية بالغرق فى موضوعات وهمية وهامشية، فهذا الانشغال يكون شديد الفائدة فى سَوْقهم إلى الاتجاه الذى تريده، ودفعهم إلى السير فى الطريق الذى تبتغيه، كذلك فإن «التطرية» على الناس بالأحداث الكروية، والأعمال الفنية لها فائدة كبرى فى تجفيف منابع الإرهاب، وتصدير أى حالة من حالات التطرف إلى مجال الكرة، أو الفن.
المهم أن يتم تفريغ شحنة الغضب، ودفن نفايات الإحباط بعيداً عن الحكومة.
إن ذنب الناس فى رقبة حكومة الحزب الوطنى، وكذلك المثقفون الذين أهملوا دورهم فى التوعية، وتعليم المواطنين كيفية التمييز بين الجد والهزل، والمثقفون ـ على وجه الخصوص ـ يحتاجون إلى «فقه مراجعة» يعلنون بعده توبتهم عما اقترفوه فى حق هذا الشعب الذى لم يضر به حكامه، كما أضر به مثقفوه، مع تحياتى للدكتور على الدين هلال، أمين الإعلام بالحزب الوطنى، المسؤول الأول عن تثقيفنا!
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=9380&I=248