بقلم: حمدي قنديل
ما إن طرح الأستاذ هيكل مبادرته وسط الترشيحات الرئاسية الافتراضية التى تناثرت فى الصحف، حتى حركت اقتراحاته مياهاً راكدة، وبدا وكأن حركات التململ والقلق والاحتجاج، مهما كان تشتتها ووهنها، أخذت فى التدافع كاشفة عن توق جارف إلى التغيير وعزم على اتخاذ خطوات عملية وعاجلة.
على أن ذلك لم يمنع غلاة المعارضين من رفض المبادرة شكلاً وموضوعاً وتوقيتاً.. بعضهم قال إنها بالونة اختبار أطلقت نيابة عن أصحاب السلطان، وبعض آخر وصل إلى حد اتهامه بأنه هو ذاته من صلب النظام، وآخرون انصب اعتراضهم على فكرة أن يمر طريق التغيير بقصر الرئاسة وبالتوافق معها، وغيرهم اعترض على تفاصيل فى المبادرة هنا أو هناك، إضافة إلى الذين قالوا إن هيكل لم يأت بجديد، وأن عديدين آخرين سبقوه منذ أكثر من عام مثل الراحل الكبير صلاح الدين حافظ، الذى دعا إلى اجتماع خمسين من أقطاب البلد ليجدوا مخرجاً لها من الأزمة.
أما الموالاة فقد خرجت عن بكرة أبيها، يقودها باشكتبة السلطة ووزراء القصر وخلصاؤه، فى حملة غير مسبوقة تطعن فى المبادرة عن حق أو عن بهتان، لا يهم، وتطلق ستاراً، من الدخان للتعمية أو للتضليل، وتنزل بالفؤوس على الرؤوس.
كان هيكل فى مقدمة أهداف الحملة، وبلغت الوقاحة بإحدى الصحف القومية اليومية المغمورة أن تصفه بأنه «مجنون برقاش»، وهو الذى يكفى أن نلقبه بالأستاذ ليعرف الكل إلى من نشير. إلاّ أن الفؤوس طالت الرؤوس التى رشحها هيكل لتكون ضمن المجلس الذى اقترحه باسم «مجلس أمناء الدولة والدستور».
كل منهم نال نصيبه من التعريض، وفى مقدمتهم عمرو موسى والدكتور البرادعى والدكتور زويل، جرمهم الأكبر أن الصحف تداولت أسماءهم كمرشحين للرئاسة، حتى ولو لم يكن أحد منهم قد أعلن عن نيته للترشيح، الاستثناء الوحيد الذى لم تمسه قذائف البذاءات كان اللواء عمر سليمان، بالطبع لأنه الوزير مدير المخابرات العامة، أحد أركان النظام.
هكذا اتضح من المعزوفة السقيمة المسفة أن مرماها هو أن يعرف عموم الناس أن من ليس من النظام فليس منا، بل هو خارج عن الملة، أو هو أن يرسخ فى الأذهان - على نحو ما كتب الدكتور عمرو الشوبكى فى المقال الذى افتتح به «حوار حول المستقبل» هنا فى «المصرى اليوم» - أنه لم يعد مطلوباً أن يأخذ أحد فى هذا المجتمع أى مبادرة مهما كان اسمه وموقعه..
بل إن الأوضح فى رأيى أنه ليس مطلوباً بالذات أن يرشح أحد نفسه لمنصب الرئاسة أو يرشحه غيره، مهما كان اسمه وموقعه.. كل هذا لتسود الظلمة، ويغلب اعتقاد كاذب أن مصر أصابها العقم حتى إنها تعجز عن أن تُنجب من يستطيع قيادتها، ولا يجد الناس بديلاً فى النهاية سوى المنقذ، الرئيس الابن جمال مبارك.
فيما يتعلق بالرؤوس التى وردت فى مقترح الأستاذ لعضوية «مجلس أمناء الدولة والدستور»، نحمد له أنه لم يذكر منها سوى سبعة أسماء صريحة بين ١٢ هم كامل عدد الأعضاء.. بذلك أنقذ خمسة آخرين من الشرشحة، ومن سخرية وصفهم بمجلس الآباء أو الاستشاريين أو «الشخصيات اللطيفة الظريفة خفيفة الظل».. إلا أنه كانت هناك انتقادات لهم أكثر جدية وكياسة، فى مقدمتها أنه «لا يجمعهم إطار فكرى، أو مرجعية معرفية، أو تجربة تاريخية مشتركة، تجعلهم قادرين على وضع تصور مشترك لبناء دولة ودستور للبلاد»!..
أى أن المطلوب إذا كان هناك مثل هذا التصور أن تضعه مجموعة يضمها إطار فكرى واحد، أى أن نسلم رقبة البلد لفكر واحد سيكون بالطبع حكراً على قادة الحزب الوطنى من الليبراليين الجدد.
الدكتور مفيد شهاب، جاء باكتشاف فذ، هو أن الخطأ الذى وقع فيه هيكل هو اقتراح أسماء واستبعاد آخرين..
ورغم أننى كنت أود، ما دام هيكل قد اقترح، أن يدرج فى قائمته بعض عناصر أكثر شباباً، وكذلك ممثلين عن مكون الأمة المسيحى (نجيب ساويرس مثالاً)، إضافة إلى امرأة وأكثر (المستشارة نهى الزينى وغيرها)، إلا أنه لو كان قد فعل ذلك لما تردد وزير المجلسين لوهلة فى اتهامه بأنه نَصَّب نفسه وكيلاً عن الشعب ليفرض على الحكم أشخاصاً بعينهم.
آخرون قالوا إن من يرد أن يشارك فى الإصلاح فلابد أن يكون حزبياً، وأنه حتى إذا كان حال الأحزاب فى مصر قد تردى فلن يتحقق التغيير إلا من خلال العمل السياسى الجماعى المنتظم فى الأحزاب..
وهذا كلام مغلوط لأن الدكتور يحيى الجمل - الذى ورد اسمه ضمن أعضاء المجلس المقترح - حزبى عتيق حتى وإن كان قد انتقل من الحزب الوطنى إلى حزب معارض ثم استقال واستقل، ومنصور حسن كذلك كان قطباً بارزاً من أقطاب الحزب الحاكم أيام الرئيس السادات، والدكتور محمد غنيم، هو الآخر شارك فى تأسيس حزب هو الجبهة الديمقراطية..
ثم إن منطق أن يشارك الحزبيون وحدهم فى التغيير يعنى أنه إما أن يفرض على الواحد منا أن ينضم إلى حزب قائم أو أن يحرم من حقه الذى لا يمكن أن ينكره عليه أحد فى أن يشارك فى الحياة السياسية وفى صنع مستقبل بلده.. ذلك أمر محرم إذن على كل المستقلين.
نجىء بعد ذلك إلى أعضاء القائمة المرشحين للرئاسة، الدكتور البرادعى والدكتور زويل وعمرو موسى، الذين لم يبادر أى منهم بطرح نفسه للترشيح ولا حتى بتأكيد رغبته عندما سألته الصحف أو روج له الشباب فى الإنترنت.. هؤلاء الفرسان الثلاثة هم الهدف الأول لحملة الهجوم المركز المصحوب بقذائف السباب والاستهزاء.
بالطبع فإن أحداً منهم ليس معصوماً من النقد.. وعندما كنت أقدم برنامجى «قلم رصاص» فى دبى طالبت عمرو موسى، الصديق وزميل الدراسة الثانوية اللامع، مرتين بالاستقالة لأسباب رأيتها فى أدائه كأمين عام لجامعة الدول العربية..
وفى نفس البرنامج قسوت على الدكتور البرادعى الذى كان يقوم وقتها بجولة ظننتها مائعة فى المنطقة قسوة لم أعتدها ولا هو يستحقها، أرجو أن يغفرها لى.. ورغم ذلك أتعجب أن يتعرض الاثنان، ومعهما الدكتور زويل للتهجم والتطاول الذى يتعرضون له اليوم، لمجرد أن أسماءهم تتردد لسبب أو آخر فى الترشيح للرئاسة.
ما الذى يشين أياً من هؤلاء كى يستهدفهم هذا التنكيل الإعلامى المبرمج بواسطة الحزب الوطنى؟.. لماذا تصدر عليهم أحكام إدانة دون جرم جنوه؟.. وحتى لو كانوا قد رشحوا أنفسهم بالفعل، ما الذى يعيبهم وثلاثتهم يفخر بهم أى وطن؟..
زويل عالم متفرد أهلته بحوثه لنيل جائزة «نوبل»، ولقاءاته ومحاضراته التى دعته إليها كبرى مؤسسات العالم فى «فيينا» و«مدريد» وغيرهما كلها تشهد له بمواهب تتعدى بكثير معامل الكيمياء وقباب الجامعات.. وهو مستشار لرؤساء بينهم أوباما، وضيف معزز تفتح له قصور الرئاسة والملك فى كل العواصم..
والبرادعى هو الآخر حائز على جائزة «نوبل للسلام»، أرقى مراتب الجائزة، ورئيس لمنظمة دولية حساسة قاد فيها مباحثات سياسية بالغة التعقيد.. وهو خبير دولى مرموق فى القانون ودبلوماسى مخضرم يعرف أركان العالم وقادته..
ثم إنه سليل عائلة وفدية طحنتها السياسة.. أما عمرو موسى فحدث ولا حرج عن سيرته التى يعرفها بر مصر من أقصاه لأقصاه، يكفيه في تاريخه النضر أداؤه السامق خلال السنوات التسع التى كان فيها وزيراً للخارجية.
ثلاثتهم لهم حضور طاغ وكاريزما كاسحة.. ثلاثتهم يشهد لهم بتألق التفكير المنظم.. ثلاثتهم يتمكنون من اللغة، بل من اللغات..
مع كل ذلك فكثيرون مثلى لم يقرروا بعد إذا ما كنا سننتخب واحداً منهم، لأسباب ثلاثة، أولها أنهم هم أنفسهم لم يقرروا الترشيح حتى الآن، ثانيها وأهمها أننا لم نعرف برامجهم، وثالثها أن وقت الانتخاب لم يحن بعد.
لكن هذا لا يعنى أن يحجر علينا الحديث فى ترشيحهم أو ترشيح غيرهم، فالوقت ليس مبكراً كما يزعم البعض، وأى حملة انتخابية رئاسية فى العالم تبدأ إرهاصاتها قبل تاريخ الانتخابات بسنتين وأكثر.
تقولون إنه لا يحق لهم الترشيح لأنهم - طبقاً للدستور - ليسوا أعضاء فى هيئة عليا لحزب له تمثيل فى البرلمان؟.. هذا صحيح، ولكن ما الذى يمنعهم من الانضمام لحزب خلال سنة قادمة؟.. تجدونها فرصة كى تطعنوا فى الأحزاب لأنه ليس لديها بين زعاماتها مرشح جاهز؟..
قبلكم قلنا نحن ذلك، ونددنا بهوان هذه الأحزاب وصراعاتها، لكننا فى الوقت ذاته نُدين حكمكم بتجبره وقمعه وطوارئه المزمنة عبر ٢٨ سنة جرفت مصر من حياة سياسية رشيدة.
ماذا بعد؟.. حكاية أنه «لا يكفى أن تكون متميزاً فى مجال معين من العلم لكى تصبح رئيساً لمصر»؟.. أو أنه ليس كل من هب ودب يصلح قائداً أعلى للقوات المسلحة؟.. أو أنه لا يمكن أن يقودنا رئيس مستورد؟.. أو أنه لابد كما قلتم أن نرى المرشح فى ساحة الفداء؟ طيب..
يمكننا أن نناقش هذا كله فى حوار جاد راق يستهدف مصلحة الوطن، وليس بالتهريج والخداع، والبذاءات، ووصف الترشيح للرئاسة بـ«التسول الرئاسى»، مادام الذين يتقدمون إليه من أولاد الجارية، أو نعتهم بأنهم أراجوزات ذوو خيالات مريضة، أو بأن أداءهم مجرد «شو» إعلامى، أو بأن ترشيحهم «تنطع سياسى»، كما ورد بالتصريح المدهش للدكتور على الدين هلال.
لن نسأل: يعنى إيه «تنطع سياسى»، ذلك أن الهدف من الحملة المبرمجة قد انكشف.. أن نهيل التراب على كل رموز الوطن، وأن نردع أياً من العامة أو الخاصة أن يحلم بكرسى الرئاسة أو يتوهم أنه يمكن أن يقترب من الأسوار العالية الشائكة..
الهدف هو وأد طموح أى مواطن مؤهل فى التطلع لقيادة مصر بحيث تخلو الساحة لمرشح الحزب الوطنى، دون مبالاة للفضيحة المنتظرة إذا ما جرت الانتخابات فى ٢٠١١ بمرشح الحزب وحده، أو بمرشحه وهو «ينافس» دمية منتقاة بعناية..
الهدف هو توريث جمال مبارك بعد أن انعقد العزم على ترشيحه وفقاً لما كاشفنا به علناً رئيس الوزراء ومن بعده قطب مجلس سياسات الحزب الحاكم الدكتور حسام بدراوى، وبعد أن أفتى مرة أخرى الدكتور هلال - بكل تحقير للمصريين - أن حكمهم يورث منذ عام ١٩٥٢، وهو يعلم أن التعاقب على الحكم تم وفقاً لدستور قائم هو الذى جاء بالرئيس مبارك، وليس بدعة كتلك التى يروج لها الآن.. بدلاً من الرئيس ونائبه، يصبح الرئيس وولده.
لكن بالله عليكم قولوا لنا وأنتم تُسفّهون الأسماء التى يدوى صداها فى أركان الوطن، فى أى مجال تميز جمال مبارك، وما هى شعبية جمال مبارك الحقيقية وقد كشف استطلاع للحزب الحاكم ذاته أن ١٢٪ فقط من شباب الحزب يؤيدون توليه للرئاسة؟..
وما هى مؤهلاته ليكون قائداً أعلى للقوات المسلحة؟.. وإذا كان الفداء شرطاً للترشح ففى أى ساحة للفداء رأيتموه؟.. ثم.. إذا كنتم تعتبرون البرادعى وزويل مستوردين وأنتم تهزأون بكل علماء مصر فى الخارج، فهل جمال مبارك صُنع فى مصر حقاً؟
جمال مبارك لا هو صنع فى مصر ولا هو يعيش فى مصر الحقيقية.. هو مواطن مصرى افتراضى.. وزياراته هنا وهناك لم ير فيها ناسنا ولا اتسخ حذاؤه بتراب أرضنا.. الطرق تُرصف قبل زياراته، والجمهور ينتقى للقائه، ومدة الحديث معه تحدد بميقات، وحرس الرئاسة حوله من كل جانب.. جمال مبارك رجل معقم، محفوف بعناية مركزة، ملفوف فى شرنقة رجال الأعمال، معزول فى قصور الحكم..
لذلك فعندما قام شباب معارض بحملة جديدة فى الإنترنت هذا الأسبوع وجدوا أنه بدلاً من شعار مؤتمر الحزب الحاكم «من أجلك أنت»، فإن أنسب شعار للحملة هو «إيش عرفك أنت» بمصر يا جمال مبارك.
http://www.copts-united.com/article.php?A=9427&I=249