لطيف شاكر
بقلم: لطيف شاكر
القبطية لسان القبط
يكتب الدكتور حسين مؤنس في مقال له عن "الإسلام والتعريب" (منشور في كتاب تاريخ الحضارة المصرية: العصر اليوناني والروماني والإسلامي، تأليف نخبة من العلماء) فيقول (في صفحتي 370،369)
"ثم دخلت اللغة العربية، وأخذت تغلب على السنة أهل الوادي، وليس معنى ذلك أن اللغة العربية حلت محل اللغات المتداولة في مصر دفعة واحدة، أما انتشارها نفسه فعملية بطيئة تمت على مر السنين. وإذا نحن قرأنا كتابا مثل "القضاة والولاة" للكندي استطعنا أن نتتبع خطوات هذا الانتشار، وذلك من خلال عشرات الحكايات التي يوردها الكندي في أخبار القضاة. ولكننا نفهم من كلام الرحالة أن اللغة العربية لم تسد ألسنة أهل مصر جميعًا حتى القرن السادس الهجري. فعلي بن سعيد مثلاً يشكو من أن الناس في مصر لا يفهمون "لسانه المعرب" تمام الفهم. بل أن الشربينى صاحب "هز القحوف" يقول الفلاحين في بعض النواحي كانوا يتكلمون في أيامه بلهجات خاصة بهم".
في القرن السابع الميلادي عندما دخل العرب مصر في سنة 640م كان أهلها يتكلمون القبطية، كما كان المثقفون منهم يجيدون اللغة اليونانية، خصوصًا أهل الإسكندرية وكتبة الدواوين الذين يستخدمون اليونانية في الأعمال الرسمية.
ويقول السيد محمد البدري بموقع الحوار المتمدن بتاريخ 23/11/2008 تحت عنوان لغتنا وسيلة وليست من مقدساتنا:
.. فالدواوين التي هي سجلات الممتلكات والأرض والثروة والزراعة كانت كلها مدونة باللغة القبطية أي لغة أهل البلاد، فاللغة القبطية أصبحت سهلة بعد أن تحولت صورتها المكتوبة إلى الأبجدية اليونانية مع بقاء الصوتيات والفونيمات والألفاظ والجمل والتراكيب اللغوية قبطية صرفة كامتداد للغة الفرعونية القديمة. إنها فقط صورة الكتابة التي تغيرت وليس اللغة ذاتها كما يدعي كثيرين. فبساطة وسهولة الحرف اليوناني في الكتابة بدلاً من صور الطيور والحيوانات الجميلة في اللغة الفرعونية جعلت التدوين أسهل، وكان من الطبيعي أن يفضل العرب استخدام لغتهم للتفاهم بدلاً من استخدام المترجمين تجنبًا للغش وعدم الأمانة. فالخليفة المأمون –زمن العباسيين- عندما أتى لمصر لمحاربة أهلها وضمانًا لإيراد الخراج كان معه مستشاره الخاص علي ابن الرضوان الذي قيل أنه طبيب وعالم لغويات، فقام بدور المترجم مما يدل علي أن اللغة العربية لم تكن لغة محكية عند أهل البلاد حتى ذلك العصر رغم أن تعريب الدواوين لصالح العرب وتسهيلاً لحصرهم حجم الثروة بدلاً من القبطية.
في البداية قام عبد الملك ابن مروان الأموي بتعريب الدواوين -أي بمنع اللغة القبطية من كتابة السجلات المصرية-، هنا تتاكد نظرتنا السابقة فكان أول استخدام للغة العربية أيضًا في صالح النهب وليس الدعوة للإسلام. بعد تعريب الدواوين ازدادت محنة الناس فقرر من تولى بعده الحكم أن يجمع خراج عامين مقدمًا فاشتد الكرب على المصريين فطاردهم الجنود والعربان وأجبروهم على الزراعة بالقوة.
لكن أمر اللغة لم يكن فقط لصالح الثروة بل امتد ليفرض نفسه على مسائل أخرى كثيرة منها الصلاة بالعربية وليس بالقبطية حتى أن الأقباط اضطروا إلى اتخاذ اللغة العربية لقراءة التراتيل خاصة بعد أن أمر الحاكم بأمر الله بمنع استخدام اللغة القبطية في الحياة اليومية. وقيل قطع لسان من يتحدث بها. ومع ذلك ظل كثيرين يتعلموا في المدارس القبطية ليدرسوا الطب والرياضة والفلك التي هو موروث فرعوني بجدارة وتخلوا منه لغة العرب الوافدة. فكلما انتشرت اللغة العربية بمحتواها الثقافي العربي كلما قلت أعداد تلك المدارس وزادت الأمية وانتشر الجهل وتآكلت العلوم في المجتمع المصري، الأمر الذي وصل إلى حد أنه لم يبق بمصر من يعرف القراءة والكتابة للغة العربية ذاتها سوى ما يقرب من الخمسين شخصًا -حسب ما جاء في رسالة القنصل الروسي في مصر للقيصر في زمن تولي محمد علي السلطة في مصر-.
فالغازي أو ما يسمى بالفاتح كان يريد أن يُحاط علمًا بكل ما يجري على الأرض وفي البلاد ضمانًا لأمور كثيرة، أولها عدم إفلات الثروة منه وضمان تسمع ما يُقال عنه كحاكم ومعرفة ما يجري من مؤامرات ضده كأجنبي على أرض الوطن، سبب آخر جعل بعض من أهل البلاد يتبنون اللغة العربية كلغة تخاطب كونهم وعبر الآف السنين كانوا هم الموظفين في إدارات الدولة منذ عهد الفراعنة والقائمين على شئون العباد فيها، وللاحتفاظ بوظائفهم اضطروا للتحدث بلغة الغزاة ضمانًا لاستمرار وجودهم على أرض وطنهم بدلاً من اقتلاعها. وهو ما يثبت أن اللغة عند المصريين ليست بذات القيمة بقدر الثبات على الأرض والتمسك بالوطن حتى ولو كان محتلاً من الأجانب. فاللغة عند المصري أداة وليست هدفًا، وسيلة وليست قدسًا من أقداسه.
اللغة العربية تنافس القبطية في القرن العاشر الميلادي
1. يمتاز القرن العاشر بكثرة المخطوطات القبطية المكتوبة خلاله باللهجة الصعيدية، وبخاصة الرقوق التي اكتُشفت في الدير الأبيض وفي غيره من الجهات، ولا شك أننا نلتقي هناك بمحاولة للنهوض باللغة القبطية وآدابها لإحياء ماضيها المجيد في مواجهة اللغة العربية في عصر مشوب بالاضطهاد والفساد.
2. و توجد وثيقة مهمة عن الرؤيا المنسوبة خطأ إلى الأنبا صموئيل القلموني ترجع إلى القرن العاشر، وتحوي بحثًا مؤثرًا على الاهتمام باللغة القبطية، ونعرف منها أن اللغة العربية بدأت تحل محل القبطية في بعض مناطق الوجه القبلي (يسي عبد المسيح "اللهجات القبطية" صفحة من تاريخ القبط ص 49؛ مرقص سميكة، فهرس المخطوطات القبطية والعربية بالمتحف القبطي "المجلد الأول، المقدمة).
3. كما بقيت بعض نصوص قليلة وفريدة في نوعها تثبت محاولة القبط كتابة الكلمات العربية بالحروف القبطية، مثل النصوص الطبية لشاسيناة، والنص الكيماوي القديم لشترن، ويُستدل منها على أن القبطية الصعيدية كانت لا تزال لغة التخاطب في الوجه القبلي خلال القرنين التاسع والعاشر، أما النص الذي نشر كازانوفا جزءا منه وأكمل الدكتور جورج صبحى نشره وهو مخطوط من دير أبى مقار لأقوال أباء البرية بالعربية المكتوبة بحروف قبطية، فيستدل منه على أن القبطية البحرية كانت في طريقها إلى الاستسلام للغة العربية في منطقة وادي النطرون خلال الفترة من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر للميلاد.
4. وفي القرن العاشر أيضًا كتب الأنبا ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين مصنفاته باللغة العربية وأشهرها تاريخ البطاركة، مستعينًا بآخرين في الترجمة عن المراجع القبطية واليونانية وقد سبقه في مضمار كتابه التاريخ بالعربية سعيد بن بطريق المدعو أوتيشيوس بطريرك الملكية بالإسكندرية المعاصر له. أي أن رجال الدين في القرن العاشر استخدموا اللغة العربية في كتاباتهم لكي يفهمهم المثقفون من رعاياهم.
في القرن الثاني عشر الميلادي.
القراءات الكنسية بالعربية إلى جوار القبطية، ووجود أقباط لا يعرفون سوى القبطية.
- قرارات البابا غبريال بن تريك:
رغم القهر الذي تعرضت له اللغة القبطية في القرن السابق حتى وجدت بين الأقباط جماعات لا تعرف سوى اللغة العربية، إلا أن الشواهد التاريخية في القرن الثاني عشر تؤكد على وجود أقباط لا يعرفون اللغة العربية، وهم حتمًا ينتمون إلى مناطق يسود فيها التحدث باللغة القبطية وهناك بطبيعة الحال فريق ثالث يجمع بين معرفة اللسانين القبطي والعربي.
وقد واجه البابا غبريال بن تريك البطريك السبعون (1121- 1146م) هذا الوضع بقرار حكيم ضمنه قانونه الثالث الذي يوصي فيه كل واحد من الأساقفة أن يُعلّم الشعب الذي يرعاه الصلاة الربانية والأمانة المقدسة باللسان الذي يعرفونه ويفهمونه.
ويُنسب إلى هذا الأب البطريرك أنه أول من صرح بقراءة الأناجيل والرسائل والمواعظ باللغة العربية في الكنائس بعد تلاوتها أصلاً بالقبطية (رسالة مارمينا في عيد النيروز، توت 1664ش، ص 18). وقد مهد هذا التصريح لظهور الكتب التي تأتي فيها النصوص القبطية متبوعة بترجمتها العربية، وكذلك الكتب المكتوبة في نهرين -أي عمودين للصفحة الواحدة- الأيسر منها للنص القبطي والأيمن لترجمته العربية، وذلك ابتداء من القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين. وكان البابا غبريال نفسه كاتبًا وناسخًا ماهرًا يجيد اللغتين القبطية والعربية.
خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد. (د. مراد كامل)
الأقباط ينشطون في التأليف باللغة العربية ويضعون كتب القواعد والمعاجم بالقبطية والعربية..
1. تراجعت اللغة القبطية أمام اللغة العربية خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر خصوصًا في القاهرة والدلت،ا حيث بدأ استخدامها في الحياة اليومية ينحسر لتبقى في الصلوات الكنسية التي استمرت تُتلى باللغة القبطية ليفهم الناس ما يصلون به. فظهرت ابتداء من القرنين الثالث عشر والرابع عشر كتب العبادة المكتوبة في نهرين -أي في عمودين لكل صفحة الأيسر منهما للنص القبطي والأيمن لترجمته العربية-، ومن هنا جاءت فكرة تلاوة شماس الهيكل المرد باللغة الثانية بخلاف اللغة التي يصلي بها الكاهن, والعكس صحيح حتى يشترك كل المصليين في الصلاة بقلب واحد وفكر واحد.
2. وأبدى الأقباط المثقفون نشاطًا ملحوظًا في التأليف الديني باللغة العربية، وأشهرهم أولاد العسال بمؤلفاتهم الكثيرة وأبو الخير الرشيد بن الطيب الذى كان قسًا وطبيبًا والشيخ المؤتمن أبو المكارم سعد الله بن مسعود الذى كان قمصًا وألّف "تاريخ الكنائس والأديرة" المنسوب خطأ إلى أبى صالح الأرمني، وهم من رجال القرن الثالث عشر. والقس أبو البركات بن كبر الذى تنيح سنة 1324م وله مؤلفات كثيرة أهمها الموسوعة الكنسية المعروفة باسم "مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة" وكتاب "السلم الكبير" وهو قاموس قبطي عربي بترتيب موضوعي.
3. ومع ذلك استمرت اللغة القبطية لغة الحياة اليومية خلال القرن الثالث عشر، ليس فقط في بعض بلاد الصعيد وإنما في بعض مناطق الوجه البحرى أيضًا. ولذلك فقد كتبت سير الشهداء الجدد أو القديسين المعاصرين بالقبطية لتلبية حاجة المتكلمين بها. فالشهيد يوحنا من الزيتون (بمحافظة بني سويف) الذى استشهد يوم 4 بشنس 925ش الموافق 29 إبريل 1209م كُتبت سيرته بالقبطية البحيرية في السنة التالية لاستشهاده. والقديس برسوم العريان الذي تنيح سنة 1317م كُتبت سيرته بالقبطية الصعيدية لمنفعة أهل الصعيد في القرن الرابع عشر.
4. ولدينا من القرن الرابع عشر قصيدة شعرية طويلة مؤلفة بالقبطية الصعيدية في سنة 1322 م باسم الثلاثية Triadon، لأن الشطرات الثلاث من كل بيت منها لها نفس القافية، أما الشطرة الرابعة فقافيتها لا تتغير في جميع الأبيات. ولم يصلنا سوى 428 بيتًا ممجموع أبياتها البالغ 734 بيتًا، وتليها ترجمة عربية. ولغتها تتسم بالتكلف ومادتها دينية تهذيبية تتضمن شخصيات من الكتاب المقدس وبعض القديسين وطرفًا من أمجاد الماضي القبطي.
5. كما صدرت مؤلفات باللغة العربية تشرح قواعد اللغة القبطية وتسمى "مقدمات".
ووُضعت أيضًا معاجم أى قواميس لمفردات اللغة القبطية مع ترجمتها بالعربية، وتسمى "سلالم" ومفردها "سلم":
- ويقول القس شنودة ماهر (د. اميل ماهر) أنه في القرن الثالث عشر كتب أبو إسحق بن العسال "السلم المقفى والذهب المصفى" وهو معجم قبطي اتبع فيه الترتيب الهجائي لأواخر الكلمات مع التشابه اللفظي للكلمات
- وكتب السمنودي -وهو أنبا يوأنس أسقف سمنود- مقدمة باللهجة البحرية وأخرى باللهجة الصعيدية، وسلما باللهجة البحرية ويعرف باسم سلم السمنودي، وسلمًا آخر باللهجة الصعيدية يعرف باسم السلم الكنائسي، وكلاهما عبارة عن مجموعة كلمات مأخوذة من كتب العهد الجديد والمزامير وقراءات النبوات والتسابيح الكنسية.
- وكتب ابن كاتب قيصر مقدمة تدعى "التبصرة".
- ووضع الوجيه القليوبي مقدمة تسمى "الكفاية".
- ووضع ابن الدهيري -وهو أنبا خرستودولوس مطران دمياط- مقدمة انتقد فيها من تقدمه من النحاة لقدرته في النحو والبلاغة القبطية.
و في القرن الرابع عشر:
- كتب شمس الرياسة القس أبو البركات بن كبر "السلم الكبير أو السلم المقترح"، وهو معجم قبطي مؤلف بحسب ترتيب الموضوعات.
- وكتب الأنبا اثناسيوس أسقف قوص "قلادة التحرير في علم التفسير"، وهي مقدمة باللهجة البحيرية وأخرى باللهجة الصعيدية (وقد ثبت أنه كان معاصرًا للأنبا غبريال البطريرك 86 (1370 – 1378م).
لقراءة الجزء الأول من المقال أنقر هنا
http://www.copts-united.com/article.php?A=9842&I=259