مصر الحلوة «٦»

بقلم الأنبا إرميا

تحدثنا فى المقالة السابقة عن «الإسكندر» وحروبه ضد الفرس واستيلائه على ممتلكاتهم ومنها مصر، ليبدأ عصر جديد يحمل الحضارة الإغريقية. ثم سرَدنا تنظيم «الإسكندر» الأمور فى مِصر وبناء مدينة الإسكندرية على النسق الإغريقى لتكون مركزًا تِجاريًا وعلميًا بين الشرق والغرب، وقد ترك «الإسكندر» مِصر لتكملة حروبه، ثم مات فى بابل، وجرى تعيين كبار القواد لحكم الولايات، لتُصبح مِصر تحت حكم «بطليموس» ويبدأ عصر البطالمة فى مِصر.
 
وقد حكم البطالمة مِصر من سنة ٣٢٣ ق. م حتى سنة ٣١ ق. م التى عندها سيطر الرومان على مِصر لتُصبح إحدى ولاياتها.
 
هـ- بطليموس الأول:
عندما تُوفى الإسكندر فى بابل خلفه فى حكم الإمبراطورية أخوه غير الشقيق وابنه الأصغر تحت وِصاية «بردكاس» أحد قواده المخلصين، وقد كانت مِصر من نصيب القائد «بطليموس»، أحد قواد الإسكندر السبعة المقربين إليه والموثوق بهم. وكان معروفًا بالحزم والحكمة والشجاعة.
 
وقد قام «بطليموس» بحكم مِصر هو وأسرته منذ وفاة الإسكندر حتى استيلاء الرومان عليها؛ ولذا يُعَدّ هو مؤسس دولة البطالمة فى مِصر.
 
ومن أعمال «بطليموس الأول» أنه استقل بحكم مصر بعد أن شعَر بمنافسة «بردكاس» له فى السلطة، كذلك نقل جثة الإسكندر من بابل إلى مِصر فدُفنت فى منف ثم نُقلت فيما بعد إلى الإسكندرية، ولا يُعلم مكانها الآن.
 
بدأت فترة حكمه ـ التى امتدت ٣٨ سنة ـ بالحروب، عندما استنجد به أعيان القيروان على رعيتهم الذين قاموا بطردهم من البلاد، فساندهم واستولى على بلادهم. وقد كوّن جيشًا وأسطولاً قويين وغزا فينيقيا وجزءًا من سوريا، واستولى على القدس كما استولى على قبرص، وبذلك صارت لمِصر سيادة بحْرية فى البحر المتوسط.
 
وفى سنة ٣٠٥ ق. م لُقِّبَ بـ«ملك مصر»، وقرر الابتعاد عن الحروب والاهتمام بتنظيم شؤون البلاد الداخلية لرفع شأنها وتنميتها فاهتم بالبناء. ويُقال إنه مؤسس دار كتب الإسكندرية ودار التحف، لكن بعض المؤرخين ينادون بأن ابنه «بطليموس الثانى» هو الذى قام بالبناء إلا أن الفكرة والإعداد كانا لأبيه.
 
وقد أحسن التدبير والسياسة واستمال إلى محبته المصريين، فقد قام بإعادة تنظيم شؤون مصر الإدارية والاقتصادية معتمدًا على رؤوس أموال إغريقية، من خلال فتح الأبواب المِصرية للإغريق ولحضارتهم التى كانت تسود العالم آنذاك.
 
احترم «بطليموس» ديانة المصريين، وكان لا يتعرض للأهالى فى أمر دينهم، كما أنه لم يتعرض لكهنة المعابد. وقد أوجد ديانة جديدة تربط بين المِصريين والإغريق، فقام بتقديم آلهة مِصرية للإغريق بطريقة تتفق مع آرائهم ومعتقداتهم، من خلال ظهور معبود جديد هو «سِرابيس»، وبنى له معبد «السِّرابيوم» بالإسكندرية.
 
وقد تنازل عن الملك لابنه «بطليموس الثانى» فى حياته وقبل وفاته بعامين.
 
و- بطليموس الثانى:
حكم «بطليموس الثانى» مصر ٣٨ سنة، وكان ميالاً إلى الصلح ومحبًا للسلام ما جعل فترة حكمه هادئة دون حروب أو ثورات، وهذا أدى إلى اتساع ثروات البلاد وازدهار التجارة وانتشار العلوم والمعارف، وفى هذه الفترة بدأت عَلاقات مصر بروما مع استقلال كل منهما عن الأخرى فى سياساتها وعَلاقاتها الخارجية.
 
وقد حرص على نشر العلوم والمعارف والآداب وتعميم الصنائع وتحصيل الكتب، فقد ضم إلى دار الكتب عددًا عظيمًا من الكتب.
 
كذلك يُنسب إلى «بطليموس الثانى» عملان من أهم ما قدم تاريخ الأدب إلى البشرية:
 
الأول: ترجمة التوراة من العبرانية إلى اليونانية، والمعروفة بـ«الترجمة السبعينية». فقد ذكر بعض المؤرخين أن «بطليموس الثانى» أراد ضم الكتب اليهودية إلى مكتبة الإسكندرية، فى حين ينادى البعض الآخر بأنه قام بالترجمة بسبب وجود عدد كبير من اليهود فى مِصر لا يُتقنون اللغة العبرية، فقام بترجمة العهد القديم إلى اللغة اليونانية التى كانوا يُتقنونها.
 
فقد طلب إلى اليهود إرسال من يقوم بالترجمة فأرسلوا إليه اثنين وسبعين شيخًا من أكثر اليهود خبرة بالأسفار المقدسة وإجادة للغتين، وقام الملك بتفريقهم وأمر كلاً منهم منفردًا بأن يقوم بالترجمة كاملة، وعندما انتهَوا من العمل أحضرهم وقارن ترجماتهم فوُجدت متطابقة. وقد شهِد الفيلسوف الشهيد يوستينوس عن الأسفار المقدسة أنه: «حُفظت نبوءات الله عند اليهود بعناية فى أسفار مكتوبة باللغة العبرية... فلما بلغ ذلك بطليموس ملك مصر ـ وهو الذى أسس مكتبة (الإسكندرية) وأراد أن يجمع فيها كل مؤلفات الكُـتـَّاب ـ طلب إلى هيرودُس الذى كان ملكًا على اليهودية أن يُرسل إليه هذه الكتب، فأرسلها إليه بلغتها العبرية. وإذ لم يكُن أحد فى مِصر مُلِمًّا بالعبرية، طلب بطليموس إلى هيرودُس أن يُرسل إليه علماء لترجمة هذه الكتب، فأنجزوا هذه الترجمة، وهى موجودة فى مِصر وبين أيدى جميع اليهود».
 
والثانى: أن «بطليموس الثانى» طلب إلى «مانيتون»، كاهن معبد «سبينيتوس»، أن يقوم بتأليف كتابه الشهير فى تاريخ مِصر القديم والأسر الفرعونية باللغة اليونانية، وكان يقرأ الهيروغليفية ويعرف اللغة الإغريقية أيضًا، وقام «مانيتون» بتقسيم الأسرات الفرعونية إلى ثلاثين أسرة؛ وهو التقسيم الذى مازال موجودًا حتى الآن فى دراسة تاريخ الدولة المِصرية القديمة.
 
أيضًا اهتم بالتجارة، فقام بتجديد الخليج القديم الذى يربط بين نهر النيل والبحر الأحمر، كما اهتم بالطرق التجارية وصارت مسالك القوافل التجارية سهلة وآمنة، وهذا أدى إلى تقدم ورواج التجارة المِصرية حتى وصلت لبلاد العرب والهند شرقًا، وإلى إثيوبيا جنوبًا. أمّا عن التجارة البحرية، فقد شيد منارة الإسكندرية لهداية السفن التجارية فصارت تجارة مِصر مع بلاد الإغريق والبلاد الأخرى لها شأن عظيم.
 
كذلك أقام «بطليموس الثانى» المبانى واهتم بتشييد الهياكل، ومن أهم الآثار التى تركها قصر «أنس الوجود» فى معبد جزيرة فِيلة، كما اهتم بالاستكشافات فأرسل البعوث الاستكشافية إلى بلاد أفريقيا وبلاد سواحل بحر فارس والنوبة لمعرفة حقيقة مجرى النيل ومنبعه، وقد أدت أيضًا هذه الاستكشافات إلى زيادة التجارة.
 
ز- بطليموس الثالث:
فى عهده الذى امتد ٢٥ عامًا فى حكم مصر، عادت أملاك مِصر إلى ما كانت عليه فى أيام الفراعنة، فبعد توليه الملك ضم بَرقة إلى مِصر، ثم قامت الحرب بينه وبين ملك الشام فسار إليه بجيش عظيم وسفن حربية فخضعت له، حتى وصل إلى نهر الفرات. وقد وُجدت بعض الآثار التى تَدُلّ على أن فتوحاته وصلت إلى بابل وفارس وميديا. وفى طريق عودته إلى مصر أحضر تماثيل المعبودات المِصرية التى أخذها من مِصر «قمبيز» والملوك من بعده، فزاد حبّ المصريين نحوه. وقد ذكر المؤرخون عن «بطليموس الثالث» أنه كان محاربًا قويًا، إلى جانب أنه كان محبًا للأدب، وقد قام بتشييد معبد إدفو ومعبد دندرة.
 
ح- بطليموس الرابع:
بدأ فى عصره، الذى استمر ١٧ عامًا، الضعف والانحلال فى مِصر، فقد كان «بطليموس الرابع» صبيًا، فصار الحكم فعليًا والنفوذ والسلطة إلى وزيره الطاغية «سوسيبيوس». وقد ترك الملك حكم مِصر مهتمًا بنفسه والاستمتاع بأمور الحياة مهملاً أمور مِصر وأحوالها، وقد حرص الوزير على إبعاد الملك عن كل من يحاول نصحه وإرشاده من أهل المعرفة حتى لا يكتشف حقيقة استبداده وفساده فى الحكم. بل إنه زاد على ذلك بأنه صوّر له أن كل إنسان يريد التخلص منه وقتله، وقد صدقه الملك، حتى إنه كلما ارتاب فى شخص ما أمر بقتله، ثم بدأت الفتن وإراقة الدماء فى البلاد و...
 
والحديث عن مِصر لا ينتهى..
* الأسقف العام، رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى

نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع