د. يحيى الوكيل
بقلم: د. يحيى الوكيل
- 4 -
طالت الدقائق على سيف و الذى بدأ يفيق من صدمة تلاطم الأحداث و بدأ يدير ما حدث فى رأسه، و لما كانت عيناه هما اللتان تتحركان فقط مع رأسه فقد جال بهما فى المكتب باحثا عن حلول للخروج من مأزقه. لم يجد ما يمكن أن يساعده على فك قيوده، و ذهب تفكيره الى المتفجرات المربوطة على صدره و هنا بدأ يتصبب عرقا باردا إذ ما ذا لو أن أفراد الأمن بالبنك قد حاولوا القبض على النقاب اللص الذى يكفيه ضغطة واحدة على الجوال الذى يحمله ليتمزق سيف إربا. ووجد سيف نفسه يتمنى ان ينتهى اللص من مهمته بنجاح. شــــعر عــندئذ بغضب شديد يعتريه أن يلجؤه غدر و خداع النقاب الى تمنى السلامة له.
استمرت الثوانى و الدقائق فى المرور و مشاعر سيف تتقاذفه بين الألم و الغضب، بين الحيرة و الاستسلام للقدر حتى لم يعد يستطيع التمييز بين أمواج مشاعره المتلاطمة. و بينما هو يعانى من نوبات غضبه و يأسه، بدأ يحس بحاجته للتبول و التى زادت بسرعة رهيبة لتصبح ماسة ملحة و يصاحبها ألم رهيب.
أسقط فى يد سيف، فهو لا يستطيع حراكا و لن يستطيع حتى يبلغ النقاب اللص مأمنه و يبلغهم بطريقة فك المتفجرات المربوطة اليه كما شرح له و لمديره و هو يقيدهما، و قدر سيف أن هذا سيستغرق على الأقل ساعة يكون النقاب فيها قد ابتعد بالقدر الكافى. و ماذا لو قبضوا عليه أو قتلوه؟ سيضطر فى هذه الحالة لانتظار خبراء المفرقعات لساعات أخرى حتى يمكنهم تحريره.
قدر سيف أنه لن يستطيع انتظار دقائق فكيف به أن ينتظر ساعات فاعتراه غضب عارم وود لو فتك بالنقاب.
استمرت معاناة سيف عدة دقائق أخرى كانت بالنسبة له كالدهور حتى دخل عليه المدير و النقاب خلفه، و فى يد المدير حقيبة مملوءة يبدو عليها الثقل؛ كان سيف متأكدا أنها تحمل المال. ثارت هواجس مريرة فى رأس سيف و هو يرى تعبير القنوط و الألم مرتسما فوق وجه مديره و حار كيف يبدو وجهه هو للرائين؛ هل يبدو عليه احتياجه الشديد للتبول كالأطفال مثلا؟
صار سيف يلعن النقاب فى سره و بنظرات عينيه. و كأن النقاب قد سمع تلك اللعنات فأخرج شريطا لاصقا من أحد جيوب الحقيبة و ألصقه على فم المدير ثم دفعه الى الأرض و أوثق يديه و قدميه، بعدها فك جهاز شلل الأطفال الذى كان يركبه ووضعه النقاب بجانبه على الأرض.
بلغ الرعب بسيف حدا قارب الصراخ و هو يرى النقاب يوصل متفجرا آخر مربوط بسلك يصله بمديره و يشرح لهما أن أقل حركة من أيهما ستؤدى الى تفجير الشحنة الناسفة و موتهما و كذلك زملائهما و عملاء للبنك.
لم يتحرك فيهما الا أعينهما تتبعان النقاب و هو يخرج من المكتب و جواله فى يده يحمل به سوط الهلاك فوق رؤوسهما.
- 5 -
عند باب الخروج لفت انتباه حارس الأمن الثانى ما يبدو من ثقل الحقيبة التى تحملها المرأة المنقبة المارة أمامه، فهب واقفا من جلسته و اندفع وراءها يعرض عليها أن يحمل عنها الحقيبة حتى سيارتها طمعا فى اكرامية سخية تجود بها عليه. نادى المرأة المنقبة مرة و ثانية، فلم تجب و اتسعت خطواتها تزيد المسافة بينهما فحث هو الخطى خلفها ليفاجأ بالمرأة تسرع أكثر حتى بدأت تجرى.
كان جرى المرأة انذارا فطريا بالخطر دوى فى رأس حارس الأمن الذى اندفع يجرى وراءها و عقله يقلب أسوأ الاحتمالات، و بشكل عفوى وجد نفسه يصيح "حرامى.. حرامى.. امسك حرامى" و الناس حوله لا يفهمون شيئا، فهو يجرى و امرأة منقبة تجرى و لابد أن اللص الذى هو يطلبه قد سرق شيئا من تلك المرأة فجرت خلفه و هو يساعدها فى القبض عليه؛ و لكن أين هذا اللص؟ لا أحد من الناس يراه.
قارب النقاب من السيارة التى كانت معدة للهروب بها و فى أعقابه لا يزال حارس الأمن يجرى، و أنظار الناس ملتفة إليهما. قرر النقاب أن الوقت قد حان لردع الحارس، فأخرج يده من تحت الخمار بالمسدس و التف ليواجه به مطارده.
كان الحارس قد اقترب من النقاب أثناء الجرى لثقل الحقيبة التى أبطأت النقاب و لا شك، فوجد نفسه على بعد سنتيمترات من المسدس المصوب الى وجهه فاتسعت عيناه هلعا و حاول أن يتوقف و لكن اندفاعه لم يسعفه بالتوقف فجأة ليجد نفسه مصطدما بالنقاب و يطير المسدس من القبضة الممسكة به بينما سقطا كلاهما على الأرض.
متشبثا بالحقيبة قام النقاب ثانية ليجرى فى اتجاه السيارة، أما الحارس فقد استرد بعضا من شجاعته و هو يرى المسدس يطير ليسقط على الأرض فرمى نفسه فى اتجاهه ليلتقطه و يقفز على قدميه محاولا التصويب نحو النقاب الهارب وسط أناس قد بدأ ما يجرى يجذب انتباههم و أعدادا متزايدة منهم ليزدحم بهم المشهد خاصة بعد أن اصطدم رجل الأمن بما ظنوه امرأة منقبة و أسقطها أرضا.
فى عجالة داس رجل الأمن على الزناد ليطلق رصاصة من المسدس و هو يجرى باتجاه النقاب، لكن لم يسمع للطلقة صوت بل كل ما سمعه هو صوت "تكة" صغيرة معلنة خلو المسدس من الرصاص أو أنه مزيف. أطلق الحارس لحنجرته العنان مطالبا المحيطين بهما أن يمسكوا النقاب لأنه سرق البنك، و هو ما نجح فيه الناس فى لحظات.
لما خلع الناس النقاب ووجدوا رجلا تحته، اندفع كل من حوله فى ضرب هستيرى له خشى منه رجل الأمن أن يتسبب فى قتله فبدأ يدفع الناس عنه مذكرا إياهم أنه إن كانت قد حدثت سرقة فى البنك فلابد من تقديم اللص حيا للشرطة حتى لا ينخرب بيته هو.
- 6 -
فى الداخل استمرت معاناة سيف و رغبته الجامحة فى التبول تعذبه بما لا يطيق، و بالرغم من احتياجه لمن يخلصه من محنته إلا أنه تمنى فى المرتين اللتين دق زملاؤه عليهما الباب أن لا يدخل أحد قد يحاول التدخل فيتسبب فى تمزيقه و تفجير البنك. و بالرغم من الألم الذى كان يعتريه الا أنه فى كل مرة كان الزميل ييأس من الاجابة على الطرق على الباب و يمضى فى سبيله كان سيف يحس ببعض الراحة حتى دق الباب للمرة الثالثة، و هذه المرة بعنف و اصرار. لم يكن الزميل الطارق على استعداد للانصراف هذه المرة، فقد وصلت الى أسماع العاملين بالبنك أخبار ما حدث أمام البنك و امساك الناس بلص أو ما يبدو عليه أنه لص، و وجدوه واجبا على مدير الفرع أن يكون له تواجد و دور. فلما لم يرد أحد من داخل المكتب فتح الباب بغير إذن ليفاجأ الداخلون بمشهد المدير و الزميل فى قيودهما.
أثار مشهد مشد الصدر النسائى المربوط لصدر سيف استغراب زميله و الذى اندفع مع ذلك بدون تفكير و مروعا سيف ليبحث عن طريقة لفك القيود و تحريرهما، فبدأ بنزع المشد من على صدر سيف و الذى لرعبه مما يفعل زميله فقد السيطرة على نفسه و بوله ليعانى أسوأ لحظة فى حياته – فقد تيقن من الموت - و لكن شيئا لم ينفجر.
استمر زميله فى محاولة فك القيود و لكنه نجح فقط فى فك الشريط اللصق من على فم سيف إذ أن فك بقية القيود يحتاج لأداة حادة ،فصاح على زملائه لمساعدته. و بينما ذهب البعض للبحث عن الأداة المطلوبة فى صناديق الصيانة بالبنك أو حتى فى سياراتهم، شرع آخرون فى الاعتذار للعملاء المنتظرين و الطلب منهم بمغادرة البنك للظروف التى يمرون بها، و آخرون ذهبوا لمساعدة رجل الأمن على جذب اللص داخل البنك لحمايته من بطش الناس به و انتظارا لقدوم الشرطة للتحقيق فى ما حدث.
عائدا بأداة قطع، بدأ أحد العاملين بالبنك فى تحرير المدير أولا من قيوده، و الذى كان فى حالة من الذهول لم يستطع بسببها النطق بشيئ واضح أو مفيد، و لم يضغط عليه أحد ليفعل فالكل شاهد الحالة التى كان عليها.
وجه الرجل انتباهه بعدئذ لسيف، فحرر يديه ثم بدأ بقص قيود رجليه و هنا لاحظ ابتلال ملابس سيف و حذائه و بركة البول من تحته مميزا كذلك رائحة البول المميزة فتراجع مشمئزا و سلم الأداة لسيف ثم جرى الى الحمام ليغسل يديه مما نالهما.
كان سيف على شفا الانهيار بكاءآ لما أحسه من احراج و عذاب، لكنه احتاج أيضا للخروج بسرعة من الغرفة قبل أن تنتشر الرائحة أو تزداد سوءا و إن كان عقله يؤكد له ان الأمر لابد سيعرفه الجميع بشكل أو بآخر. عض سيف على شفته حسرة حتى أدماها، و بينما كان يقطع القيد الأخير كان رجل الأمن و من ساعدوه يجرون اللص الى داخل المكتب – و اللص لا يزال متشبثا بالحقيبة.
بالرغم مما كان فيه من مهانة القيد و الاستلقاء على الأرض أمام موظفيه، تهلل وجه المدير لرؤية الحقيبة و اندفع نحوها كما لو كانت ابنا له افتقده لسنين طويلة و انتزعها من يدى النقاب. بعناية شديدة وضع المدير الحقيبة فوق سطح المكتب و فحص محتوياتها بينما أنظار الجميع متعلقة به منتظرة النتيجة.
أنهى سيف التحرر من قيوده و انحنى ليلتقط المشد النسائى ليلتقط ما به من مادة و يتفحصها و اذناه تلتقطان قصة رجل الأمن و كيف أن المسدس الذى هددهم به النقاب مسدس مزيف لا توجد به حتى طلقة صوت. تحسس ما بداخل المشد و قربه من أنفه ليشمه ليجده محشوا بالسليكون كالذى يستعمله السباكون، و أن ما ادعى النقاب أنه مفجر ما هو الا ماسورة جوفاء من الصلب غير القابل للصدأ.
فى ذهول أدرك سيف أن كل شيئ فى النقاب مزيف: الجنس و الاسم و الغرض من الحضور للبنك، وحتى السلاح و النية و القدرة على القتل كانوا مزيفين.
ألقطعة من القماش الأسود أن تخفى كل هذا الزيف؟
كبركان ينفجر، ووسط دموعه التى انهمرت كالحمم التف سيف بكل قوته ضاربا بقدمه اللص الراقد على الأرض فى وجهه ضربة حملها كل الغل الذى أنماه ما تعرض له من مهانة أمام نفسه و أمام زملائه حتى رأى أسنان اللص و الدم يطيرون من وجهه.
لم يسدد سيف غير تلك الضربة فقد أحاط زملاءه به – و لكن بقدر ما أمكنهم من الاحتراس حيث أن بلله و رائحته كانتا كافيتين لردع أى مخلوق عن الاقتراب منه أكثر من اللزم – و عزلوه عن اللص.
بقوة لم يعهدها فى نفسه أزاحهم عنه و خرج من الباب – و لا أحد يفكر فى ايقافه – متجها الى مكتبه، و قرارة نفسه تتمنى أن يعيد الزمن نفسه ليمحو أحداث اليوم. كقرار أن هذا ما حدث، استوى فى جلسته الى مكتبه غير عابئ ببلله أو ما يجرى حوله، و نظر الى الساعة المعلقة على الحائط أمامه يستشيرها متى ينتهى اليوم.
فاليوم يقبض أول مرتب له بالدولار.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=9941&I=261