عندما خضع العلم للأيديولوجية
مقالات مختارة | خالد منتصر
الأحد ١ ديسمبر ٢٠٢٤
خالد منتصر
أشهر الأمثلة على تدمير العلم بالأيديولوجبة السياسية هو ما فعله عالم الوراثة الروسى ليسنكو فى الزراعة الروسية، حين احتقر علم الوراثة وأخضعه للعقيدة الشيوعية، ما هى القصة؟
تروفيم دينيسوفيتش ليسنكو (1898-1976) كان عالِماً زراعياً سوفيتياً، اشتهر بدوره المحورى فى تبنى وتطبيق سياسات زراعية مستندة إلى أفكار علمية زائفة، مما أدى إلى عواقب كارثية، وُلد ليسنكو فى 29 سبتمبر 1898 فى قرية كارلوفكا (فى أوكرانيا الحالية)، لعائلة من الفلاحين.
نشأ فى بيئة زراعية، ما جعله مهتماً بالقضايا الزراعية منذ صغره، درس فى معهد الزراعة فى كييف، حيث حصل على درجة متواضعة فى الزراعة، لم يتلقَ تدريباً أكاديمياً رسمياً فى علم الوراثة، ما جعله يعتمد على أفكار بدائية وغير علمية فى هذا المجال.
بدأ حياته المهنية فى مجال الأبحاث الزراعية فى أوائل عشرينات القرن الماضى، اشتهر بعمله على تقنية «التطوير الشتوى» (vernalization)، التى تتضمن تعريض البذور للبرودة لتحسين إنتاجية المحاصيل، رغم أن هذه التقنية كانت ناجحة بشكل محدود، إلا أن «ليسنكو» بالغ فى الترويج لها باعتبارها ثورة زراعية.
فى الثلاثينات، لفت انتباه جوزيف ستالين، الذى أعجب بوعوده بزيادة الإنتاج الزراعى السوفيتى، فأصبح رئيساً للأكاديمية الزراعية السوفيتية (VASKhNIL) واحتكر السياسات الزراعية، بدأ حملة شعواء ضد علماء الوراثة التقليديين، زاعماً أن نظرياتهم «برجوازية» ومعادية للماركسية.
رفض النظرية المندلية والنظرية الداروينية، وزعم أن السمات الوراثية يمكن تغييرها من خلال التغيرات البيئية وحدها، دون تدخل الجينات، دعا إلى تطبيق زراعة كثيفة وإعادة زراعة الأراضى غير الصالحة، ما أدى إلى دمار كبير فى الإنتاج الزراعى.
بعد وفاة «ستالين» فى عام 1953، بدأ نفوذ «ليسنكو» يتراجع تدريجياً، فى الستينات، تعرض لانتقادات علنية من قبل العلماء السوفيت، وأُعيد الاعتبار لعلماء الوراثة الذين قمعهم، سُحبت صلاحياته تدريجياً، لكنه احتفظ بمكانته الرمزية حتى وفاته.
توفى فى 20 نوفمبر 1976 فى موسكو، بعد أن فقد مكانته ونفوذه، ظل حتى وفاته، لم يعترف بأخطائه أو بالفشل الكارثى لأفكاره وسياساته.
لكن كيف تسبب «ليسنكو» فى تلك الكارثة البشرية خلال فترة قيادته للسياسة الزراعية فى الاتحاد السوفيتى؟، دمر الزراعة من خلال تلك الخطوات:
1- أفكاره الخاطئة فى علم الوراثة:
* رفض «ليسنكو» الوراثة المندلية والنظرية الداروينية، وادّعى أن الكائنات الحية يمكن أن تُعدل صفاتها الوراثية بتأثير البيئة فقط، دون الاعتماد على الوراثة الجينية.
* ادّعى أن النباتات يمكن أن «تتعلم» التكيف مع ظروف قاسية من خلال تقنيات مثل تعريضها للبرودة (التطوير الشتوى)، زاعماً أنها ستورث هذه التعديلات إلى الأجيال القادمة.
2- سيطرته على السياسة الزراعية:
* فى عهد جوزيف ستالين، تبنى النظام السوفيتى أفكار «ليسنكو» لأنها تتماشى مع الأيديولوجيا الشيوعية، التى رفضت فكرة الوراثة الجينية باعتبارها «برجوازية».
* أُجبر المزارعون على تطبيق تقنيات «ليسنكو» الزراعية، مثل زراعة المحاصيل بكثافة عالية جداً، أو محاولة زراعة محاصيل فى بيئات غير مناسبة.
3- نتائج كارثية:
* تسببت ممارساته فى فشل المحاصيل الزراعية على نطاق واسع بسبب تجاهله للأسس العلمية الحقيقية.
* أدى هذا الفشل إلى مجاعات هائلة، أبرزها مجاعة أوكرانيا (1932-1933)، التى تُعرف بـالهولودومور، وكذلك مجاعات أخرى فى مناطق مختلفة من الاتحاد السوفيتى.
4- قمع العلماء:
* «ليسنكو» قاد حملة قمع واسعة ضد علماء الوراثة الحقيقيين، واعتُقل كثير منهم أو أُعدموا، ما أدى إلى توقف تقدم البحث العلمى فى علم الوراثة فى الاتحاد السوفيتى لعقود.
أما عن حجم الكارثة فيُقدر أن المجاعات الناتجة عن سياسات «ليسنكو» أدت إلى وفاة ملايين الروس (ما بين 5 و7 ملايين شخص) بسبب سوء التغذية.
كانت سياسات «ليسنكو» مثالاً على كيف يمكن للعلم الزائف أن يتسبب فى كوارث بشرية إذا تم استخدامه لخدمة الأيديولوجيا السياسية بدلاً من الأسس العلمية.
نقلا عن الوطن