الأقباط متحدون - الصلاة الأخيرة للإلهة إيزيس
  • ٠١:٠٦
  • الأحد , ١ ديسمبر ٢٠٢٤
English version

الصلاة الأخيرة للإلهة إيزيس

مقالات مختارة | جون غبريال

٥٩: ٠٤ م +02:00 EET

الأحد ١ ديسمبر ٢٠٢٤

 الصلاة الأخيرة للإلهة إيزيس
الصلاة الأخيرة للإلهة إيزيس
(قصّة قصيرة)
جون غبريال
في معبد إيزيس على جزيرة فيله، يتلو النيل أنشودته الأبديّة، ويحتضن المعبد في صمته العميق، يقف الكاهن الأكبر عنخ ماعت أمام تمثال الإلهة إيزيس. كان الهواء ثقيلًا، محمّلًا بخليط الخوف واليقين، كما لو أن الأساطير القديمة لم تزل تتنفس بين جدران المعبد. الشعلات المضيئة تملأ المكان بنورها الذهبي الخافت، وتغلّفها بدفها، كدفء الإلهة الأمّ إيزيس، وترتسم على تماثيل الإلهة وساحتها المقدسة، في حضور هيبتها الأبدية.
 
رفع الكاهن يديه إلى السماء، وعيناه تلمعان بدموع لا تُرى، وكأن كل كلمة يتلوها على شفتيه هي آخر ما سيقوله في حياته:
"الحمد لكِ، يا إيزيس-حتحور،
 أمّ الإله، سيدةُ السماء،
 عشيقةُ أباتون،
 ملكةُ الآلهة. 
أنتِ الأمّ الإلهية لحورس،
 الثور العظيم، حامي أبيه،
 الذي يجعل المتمرّدين يتساقطون."
لكن كلمات الصلاة كانت ثقيلة هذه المرة، لا تخرج من فمه كما كانت تفعل دائمًا. كان هناك شيء ما قد تسرّب إلى قلبه، لا يستطيع تجاهله. شكٌّ، شعورٌ يزلزل يقينه ويثيره في أعماقه. كيف لا؟ ابنُه مرنبتاح، الذي رضع من ثدي إيزيس وعبَدتْ روحُه النورَ المقدس، تركَ كل شيء. اعتنق المسيحية، وارتدى ثوب الشماس، ليترك ورائه هذا التراث المقدس الذي خدم فيه والده طوال حياته.
 
"كيف؟" تساءل الكاهن في نفسه، "كيف يعقل أن يسير ابني في دربٍ بعيد عن إيماننا؟ هل فعلاً ترك ما كان يُعدّ الحقَّ، وانحرفَ نحو إله آخر؟"
ومع تكرار الكلمات، كان قلبه ينهار أكثر فأكثر. كانت الكلمات تقاومَ الخروج، وكأنها تستنجد بذاكرة قديمة تهرّبت منها الإجابة.
"الحمد لكِ، يا إيزيس-حتحور،
 الثور العظيم الذي يحمي مصر، 
سيد الإقليم، إلى الأبد."
كانت هذه الكلمات تعبيرًا عن الإيمان الموروث، لكن الشك أضمر في نفسه، حتى أصبح يشعر أن الأبدية نفسها تهتز من حوله. كيف لإلهة عظيمة مثل إيزيس أن تترك شعبها في ظل غموض كهذا؟
 
وفي اليوم التالي، وقف مرنبتاح، الشماس الجديد، في المعبد. كان الجو مشحونًا بالتوتّر. تقدم إلى المذبح ليقدم القربان. لكن بدلاً من التقدمة للطائر المقدس، الذي كان رمزًا لحورس، أطلقه ليطير بعيدًا. وفي تلك اللحظة، خيّم الصمت على الحضور، وامتلأ المعبد حيرةً متجمدة من الخوف.
 
في تلك اللحظة، شعر الكاهن الأكبر أنه يرى العالم يهوي أمامه. صاح بصوتٍ ممزوج بالغضب والخذلان:
"يا جاحد! لقد دنست المعبد، وأغضبت الآلهة! لن تجد ملاذًا، انتظر انتقامي!"
هرب مرنبتاح إلى الجنوب، ليجد ملجأً بين النوبيين. وهناك، بدأ ينشر المسيحية، مستخدمًا الأمل بدلاً من الخوف، لكن الكاهن الأكبر لم يستطع الهروب من صراع قلبه.
 
في تلك الليلة، عندما خفتت الأصوات في المعبد تمامًا، وقف الكاهن الأكبر مرة أخرى أمام تمثال إيزيس. أغمض عينيه، وبدأ صلاة جديدة، هذه المرة كانت أكثر صمتًا، أكثر خيبة، إلا أنّها أكثر إصرارًا:
 
"يا إيزيس، أمّ الآلهة، أنتِ من خلقتِ الأرض والسماء، وأنتِ من أمددتِ القلوب حكمةً... لكني، سيدتي، أصبحت عاجزًا عن فهم الطريق. هل كان إيمان ابني فعلاً خيانة؟ هل كان ذلك، يا إيزيس، فعلًا رفضًا لعطفك؟ أم أن المسيح، الذي يقوده، هو الحقيقة التي لم أتعرّف عليها بعد؟ هل رحلنا إلى زمان آخر؟ هل خفتَ إشعاع نورك في سمائنا؟"
 
رفع يديه إلى السماء، وتابع بصوت مختنق، يغلبه الألم:
"يا إيزيس، إن كنتِ ترين الحق في ما يدّعيه هذا الجديد، فلتكن القوة فينا لنتبع طريقه، لكن إن كان خداعًا، يا سيدتي، فامنحيني القوة لأعيد ابني إلى الطريق الذي أعددته لنا."
 
بينما كانت الجدران القديمة تصمت، وبينما كان النيل يسير في هدوئه، يغني أغنيته السرمدية، لم تجبه إيزيس. كان قلبه يشتعل حيرةً، كل صلاة كانت تأتيه على شكل طيفٍ من الماضي والحاضر، يقدّم معهما رائحةَ الخيبة والرجاء.
 
بعد ذلك، عاد الكاهن إلى المذبح للمرة الأخيرة. يلملم قلبه المثقل بالحيرة والهمّ، وعيناه غارقتان في يمٍّ من الأسئلة التي لا جواب لها. وقف أمام تمثال إيزيس العظيمة، وناجاها:
 
"سيدتي، الزمن تغير. أنا شيخٌ هرم، أرى أمّتنا تتبدل، وتراثنا يتلاشى. إن كان إلهُ ابني هو الحقّ، فاغفري لي جهلي. لكن، إن كنتِ لم تزالي ملكة السماء، فاحمي شعبك من الضياع."
 
صمتٌ طويل، ثم بدأ ينسحب من المعبد. كان رحيله صامتًا كصلاته. وعندما خرج، أُغلقت أبواب المعبد للأبد.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع