في كلمته إلى السلك الدبلوماسي: البابا فرنسيس يؤكد على أهمية الدبلوماسية في بناء عالم أكثر عدلاً وسلاماً
محرر الأقباط متحدون
الخميس ٩ يناير ٢٠٢٥
محرر الأقباط متحدون
كما جرت العادة في مطلع كل سنة استقبل البابا فرنسيس هذا الخميس في الفاتيكان أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي لتبادل التهاني بحلول العام الجديد، ووجه لضيوفه خطاباً مسهباً قام من خلاله بجولة أفق على مختلف القضايا الراهنة.
ننشر فيما يلي النص الكامل لكلمة البابا فرنسيس:
أصحاب السّعادة، سيداتي، سادتي، نلتقي هذا الصّباح في لقاء، أريده أن يكون بسيطًا وعائليًّا بالرّغم من طابعه الرّسمي. هذا لقاء تجتمع فيها عائلة الشّعوب التي يرمز إليها حضوركم، لكي نتبادل الأماني الأخويّة، تاركين خلفنا النّزاعات التي تفرِّقنا ولنكتشف ما يوحِّدُنا. في بداية هذه السّنة، التي لها أهمّيّة خاصّة في الكنيسة الكاثوليكيّة، فإنّ اجتماعنا معًا له قيمة رمزيّة خاصّة، لأنّ اليوبيل نفسه يعني أن "نتوقَّف" في السّرعة الجنونيّة التي ما زالت تزداد في الحياة اليوميّة، نتوقّف لنستريح ونغذِّي أنفسنا بما هو ضروري حقًا: أن نكتشف أنفسنا أنّنا أبناء الله وأنّنا إخوة في الله، فنغفرُ الإهانات، ونُسنِدُ الضّعفاء والفقراء، ونترك الأرض تستريح، ونمارس العدل، ونجدِّد الأمل. كلّ الذين يخدمون الخير العام، والذين يمارسون هذا الشّكل الرّفيع من المحبّة، أيّ السّياسة، مدعوّون إلى هذا.
بهذه الرّوح أرحِّبُ بكم، وقبل كلّ شيء أشكر سعادة السّفير جورج بوليدِس (George Poulides)، عميد السّلك الدّبلوماسي، للكلمات التي عبّر بها عن مشاعركم المشتركة. أرحِّب بكم جميعًا ترحيبًا حارًّا، وأشكركم للمودّة والتّقدير الذي تكِنُّه للكرسيّ الرّسوليّ شعوبكم وحكوماتكم التي تمثِّلونها أفضل تمثيل. والدّليل على ذلك زيارات أكثر من ثلاثين رئيس دولة أو حكومة سَعِدْتُ باستقبالها في الفاتيكان عام 2024، وكذلك التّوقيع على البروتوكول الإضافي الثّاني للاتفاقيّة بين الكرسيّ الرّسوليّ وبوركينا فاسو في الوضع القانونيّ للكنيسة الكاثوليكيّة في بوركينا فاسو، والاتفاقيّة بين الكرسيّ الرّسوليّ وجمهوريّة تشيكيا في بعض المسائل القانونيّة التي تمّ التوقيع عليها في السّنة الماضية. وفي تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، تمّ تجديد الاتفاقيّة المؤقّتة لأربع سنوات إضافيّة بين الكرسيّ الرّسوليّ وجمهوريّة الصّين الشّعبيّة بشأن تعيين الأساقفة، وهي علامة على الرّغبة في مواصلة الحوار القائم على الاحترام البنّاء من أجل خير الكنيسة الكاثوليكيّة في البلاد، وخيرِ جميع الشّعب الصّيني.
من جهتي، كنت أنوي أن أبادل هذه المودّة بالرّحلات الرّسوليّة التي قمت بها حديثًا، والتي قادتني إلى زيارة أراضٍ بعيدة مثل إندونيسيا وبابوا غينيا الجديدة وتيمور الشّرقيّة وسنغافورة، وبلدانًا أخرى أقرب منها مثل بلجيكا ولوكسمبورغ، وأخيرًا كورسيكا. من الواضح أنّ كلّ هذه البلدان مختلفة جِدًّا بعضها عن بعض، إلّا أنّ كلّ رحلة كانت بالنّسبة لي مناسبة للقاء والحوار مع شعوب وثقافات وخِبِراتٍ دينيّة مختلفة، ولتقديم كلمة تشجيع وعزاء وسَنَد، خاصّة لأكثرهم ضعفًا. ويضاف إلى هذه الرّحلات الزيارات الثّلاث في إيطاليا إلى فيرونا (Verona)، والبندقيّة (Venezia)، وتريستي (Trieste).
أودّ أن أعرب بشكل خاص للسّلطات الإيطاليّة الوطنيّة والمحليّة، في بداية هذه السّنة اليوبيليّة، عن شكري وتقديري للالتزام الذي تعّهدت به لإعداد روما لليوبيل. إنّ العمل المتواصل في هذه الأشهر، والذي تسبّب في الإزعاجات العديدة، يُعوَّضُ اليوم بتحسين في بعض الخدمات والأماكن العامّة، حتّى يتمكّن الجميع، مواطنون وحجّاج وسيّاح، من الاستمتاع بجمال المدينة الخالدة بصورة أفضل. وأتوجَّه بفكري خاصّة إلى أهل مدينة روما، المعروفين بكرم ضيافتهم، وأشكرهم على الصّبر الذي تحلَّوْا به في الأشهر الماضيّة وعلى الصّبر الذي سيتحَلَّوْن به في استقبال العديد من الزوّار الوافدين. كما أودّ أن أتقدّم بالشّكر الجزيل لجميع قوات الأمن والحماية المدنيّة والسُّلطات الصّحّيّة والمتطوعين الذين يبذلون قصارى جهدهم كلّ يوم لضمان الأمن، وسلامة سير اليوبيل.
أيها السّفراء الأعزّاء، في كلمات النّبي أشعيا، التي أعلنها الرّبّ يسوع في مجمع النّاصرة في بداية حياته العلنيّة، بحسب ما رواه لنا الإنجيليّ لوقا، نجد تلخيصًا ليس فقط لسرّ الميلاد الذي احتفلنا به قبل قليل، ولكن أيضًا لهذا اليوبيل الذي نحييه. جاء يسوع المسيح "لِيُبَشِّرَ الفُقَراء، ويَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب، ويُنادِيَ بِإِفْراجٍ عنِ المَسبِيِّين، وبِتَخلِيَةٍ لِلمَأسورين، ولِيُعلِنَ سَنَةَ رِضًا عِندَ الرّبّ". وللأسف، فإنّنا نبدأ هذه السّنة والعالم تمزِّقه الصّراعات العديدة، الصّغيرة والكبيرة، بعضها معروف وبعضها معرفته أقلّ، وكذلك نجد استئناف الأعمال الإرهابيّة الشّنيعة، مثل تلك التي وقعت مؤخّرًا في ماغدبورغ (Magdeburg) في ألمانيا وفي نيو أورليانز (New Orleans) في الولايات المتّحدة. ونرى أيضًا أنّه في البلدان العديدة هناك المزيد من النّزاعات الاجتماعيّة والسّياسيّة التي تتفاقم بسبب الصّراعات المتزايدة. إنّنا نعيش في مجتمعات يزداد فيها الاستقطاب، يزداد فيها شعور عام بالخوف وانعدام الثّقة تجاه الآخرين وتجاه المستقبل. ويتفاقم الشّرّ مع استمرار خلق ونشر الأخبار الكاذبة، التي لا تؤدّي فقط إلى تشويه حقيقة الوقائع، بل تؤدّي في نهاية المطاف إلى تشويه الضّمائر، وإيجاد تصورات خاطئة عن الواقع، وتولِّدُ مناخًا من الشّكّ الذي يثير الكراهية ويهدِّد سلامة النّاس، والسِّلمَ المدني واستقرار دول بأكملها. ومن الأمثلة المأساويّة على ذلك، الهجمات التي تعرّض لها رئيس حكومة الجمهوريّة السّلوفاكيّة والرّئيس المنتخب للولايات المتّحدة الأمريكيّة.
ويدفعنا مناخ انعدام الأمن هذا إلى إقامة حواجز جديدة ورسم حدود جديدة، في حين أنّ حواجز أخرى، مثل تلك التي قسّمت جزيرة قبرص منذ أكثر من خمسين عامًا، وتلك التي قسّمت شبه الجزيرة الكوريّة إلى قسمَين منذ أكثر من سبعين عامًا، لا تزال قائمة ثابتة، تفصل بين العائلات وتقسّم البيوت والمدن. تزعم الحدود الحديثة أنّها خطوط ترسيم بحسب الهوية، حيث التّنوُّع هو سبب للاتهام وعدم الثّقة والخوف: "ما يأتي من هناك لا يمكن الاعتماد عليه، لأنّه غير معروف، وليس مألوفًا، وليس من القرية. [...] ونتيجة لذلك، تنشأ حواجز جديدة للدّفاع عن النّفس، فلا يبقى العالم موجودًا، بل يوجد عالمي "الخاصّ بي" فقط، لدرجة أنّ الكثيرين لم يعودوا يُعتبَرون بَشَرًا لهم كرامتهم التي لا يجوز الاعتداء عليها، وصار يشار إليهم بكل بساطة بكلمة "هؤلاء". ومن المفارقة أنّ مصطلح الحدود لا يشير إلى مكان يفصل، بل إلى مكان يوحِّد، "حيث نجد حدًّا معًا" (cum-finis)، حيث يمكننا أن نلتقي بالآخر، وأن نعرفه، وأن نبدأ حوارًا معه. أمنيتي لهذا العام الجديد هو أن يكون اليوبيل للجميع، مسيحيين وغير مسيحيين، فرصة لإعادة التّفكير في العلاقات التي تربطنا، ككائنات بشريّة ومجتمعات سياسيّة، للتغلّب على منطق الصّدام وتَبَنِّي منطق اللقاء، ولكي لا يجدنا الزّمن الذي ينتظرنا تائهين يائسين، بل حجاجَ رجاء، أي أشخاصًا وجماعات تسير ملتزمة لبناء مستقبل سلام. ومن ناحيّة أخرى، وفي مواجهة التّهديد الحقيقي المتزايد بنشوب حرب عالميّة، فإنّ مهمّة الدّبلوماسيّة هي تشجيع الحوار مع الجميع، بما في ذلك المحاورين الذين يُعتبَرُون "مزعجين" أو الذين لا نعتبرهم طرفًا شرعيًّا للتفاوض. هذه هي الطّريقة الوحيدة لكسر قيود الكراهية والانتقام التي تقيِّدنا، ونزع فتيل أجهزة الأنانيّة والكبرياء والغطرسة الإنسانيّة، التي هي أصل كلّ إرادة حرب مدمِّرة.
أصحاب السّعادة، سيداتي، سادتي، في ضوء هذه الاعتبارات الوجيزة، أوَدُّ أن أرسم معكم هذا الصّباح، بناءً على كلام النّبي أشعيا، بعض سمات دبلوماسيّة الأمل، وكلُّنا مدعُوُّون إلى أن نكون مبشِّرين بها، حتّى تنقشع غيوم الحرب الكثيفة، وتزيلها رياح سلام جديدة. وبصورة عامّة، أوَدُّ أن أسلِّطَ الضّوء على بعض المسؤوليات التي يجب على كلّ زعيم سياسي أن يأخذها بعين الاعتبار عند القيام بمسؤولياته، والتي يجب أن تهدف إلى بناء الصّالح العام والتنمية المتكاملة للإنسان.
لِيُبَشِّرَ الفُقَراء: في كلّ عصر وفي كلّ مكان، كان الإنسان دائمًا ينجذب إلى فكرة الاكتفاء الذّاتي، والقدرة على أن يكفي نفسه، ويكون هو صانع مصيره. لكن كلّما سمح لنفسه أن يسيطر عليه هذا الادّعاء، وجد نفسه مضطرًّا بفعل الأحداث والظّروف الخارجيّة إلى اكتشاف أنّه ضعيف وعاجز، فقير ومحتاج، مبتلًى بالمصائب الرّوحيّة والماديّة. بمعنى آخر، يكتشف أنّه بائس، وأنّه يحتاج إلى من ينتشله من بؤسه. إنّ مآسي عصرنا عديدة. لم تشهد البشريّة، من قبل، التّقدُّم والتّطوُّر والثّروة التي تشهدها في هذا العصر، ولكن أيضًا، ربما لم تجد نفسها من قبل وحيدة وضائعة، لم تجِدْ نفسها قط تفضِّل الحيوانات الأليفة على الأطفال. الحاجة مُلِحّة لسماع البشرى السّارَّة، البُشرى التي تقدِّمها لنا، من وجهة نظر مسيحيّة، ليلة عيد الميلاد! ومع ذلك، يمكن للجميع - حتّى لغير المؤمنين - أن يحملوا رسالة الرّجاء والحقيقة. ومن ناحيّة أخرى، في الإنسان عطش طبيعي إلى الحقيقة. وهذا العطش بُعد أساسيّ من حالة الإنسان. كلّ إنسان يحمل في داخله حنينًا إلى الحقيقة الموضوعية ورغبة لا تنضب في المعرفة. كان الأمر هكذا دائمًا، لكن في عصرنا يبدو أنّ إنكار الحقائق الواضحة هو السّائد. فالبعض لا يثقون بالحِجَج التي ترتكز على العقل، ويعتبرونها أدوات في أيدي قوى خفيّة، في حين يعتقد آخرون أنّهم يمتلكون بشكل فريد الحقيقة التي بَنَوْها بأنفسهم، وبالتّالي يعفون أنفسهم من المقارنة والحوار مع الذين يختلفون عنهم في فكرهم. كلاهما يميل إلى خلق "الحقيقة" الخاصّة به، ويتركون الموضوعيّة جانبًا. ويزداد هذا الواقع وهذه الاتجاهات بوسائل الاتصال الحديثة والذّكاء الاصطناعي، وسوء استخدامها كوسيلة للتلاعب بالضّمير لأغراض اقتصاديّة وسياسيّة وأيديولوجيّة.
إنّ التّقدّم العلميّ الحديث، وخاصّة في مجال المعلومات والاتصالات، يحمل معه فوائد لا شكّ فيها للبشريّة. فهو يسمح لنا بتبسيط العديد من جوانب الحياة اليوميّة، والبقاء على اتّصال مع أحبائنا، حتّى لو كانوا بعيدين جسديًّا، والبقاء على اطلاع وزيادة معارفنا. ومع ذلك، لا يمكن أن نتجاهل حدودها ومزالقها، لأنّها تساهم في كثير من الأحيان في الاستقطاب، وتضييق وجهات النّظر العقليّة، وتبسيط الواقع، وخطر سوء الاستعمال، والقلق، وبصورة متناقضة، تؤدّي إلى العزلة، لا سيِّما من خلال استخدام وسائل التّواصل الاجتماعيّ والألعاب عبر الإنترنت. يؤدّي صعود الذّكاء الاصطناعي إلى تضخيم المخاوف بشأن حقوق الملكيّة الفكريّة، والأمن الوظيفيّ لملايين الأشخاص، واحترام الخصوصيّة، وحماية البيئة من النّفايات الإلكترونيّة. لم يبق أي ركن من أركان العالم تقريبًا دون تغيير بسبب التّحوّل الثّقافي الواسع الذي أحدثه التّقدّم التّكنولوجيّ المــُلِحّ، وأصبح من الواضح أنّه متَّفِقٌ مع المصالح التّجاريّة، ما يولِّد ثقافة متجذرة في النّزعة الاستهلاكيّة. ويهدّد هذا الاختلال في التّوازن بتقويض نظام القيم المتأصلّة في خلق العلاقات والتّربية ونقل العادات الاجتماعية، في حين يجب أن يظلّ الآباء والأهل أكثر قربًا، ويجب أن يبقى المــُرَبُّون هم القنوات الرّئيسيّة لنقل الثّقافة، ويجب على الحكومات أن تحصر دورها في دعمهم في تحمل مسؤولياتهم التّربوية. وفي هذه الرّؤية، توضع أيضًا التّربية لإزالة الأمّيّة، لتقديم أدوات أساسيّة لتعزيز مهارات التّفكير النّقدي، لتزويد الشّباب بالوسائل اللازمة للنّمو الشّخصي والمشاركة الفعّالة في مستقبل مجتمعاتهم.
ولذلك فإنّ دبلوماسيّة الأمل هي أوّلًا وقبل كّل شيء دبلوماسيّة الحقيقة. وحيثما تنعدم الصّلة بين الواقع والحقيقة والمعرفة، تصير البشريّة غير قادرة على التّحدّث وفهم بعضها البعض، وتُفقَدُ أسُسُ لغة مشتركة، ترتكز على واقع الأشياء وتكون مفهومة عالميًّا. الغرض من اللغة هو التّواصل، ولا ينجح إلّا إذا كانت الكلمات دقيقة وإذا كان معنى المصطلحات مقبولًا بصورة عامّة. تُظهر قصة برج بابل في الكتاب المقدّس ما يحدث عندما يتكلَّم كلّ واحد بلغته فقط. إنّ التّواصل والحوار والالتزام من أجل الصّالح العام يتطلّب حسن النّية واستخدام لغة مشتركة. وهذا مهمّ بصورة خاصّة في المجال الدّبلوماسيّ، وخاصّة في السّياقات المتعددة الأطراف. إنّ تأثير ونجاح كلّ كلمة من البيانات والقرارات، وبصورة عامّة، نصوص التّفاوض المتفّق عليها، يعتمد على هذا الشّرط. والحقيقة هي أنّ التّعدّديّة لا تكون قويّة وفعّالة إلّا عندما تركّز على القضايا المطروحة وتستخدم لغة بسيطة وواضحة ومتفق عليها. وبالتّالي فإنّه أمر مثير للقلق، محاولة استغلال الوثائق المتعددة الأطراف - بتغيير معنى المصطلحات أو إعادة تفسير محتوى معاهدات حقوق الإنسان من جانب واحد - لتفضيل أيديولوجيات مثيرة للخلاف وتدوس على قِيَمِ وإيمان الشّعوب. في الواقع، إنّه استعمار أيديولوجيّ حقيقي يحاول، وفق برامج مصمّمة بعناية، القضاء على تقاليد الشّعوب وتاريخها وروابطها الدّينيّة. إنّها عقليّة، تدَّعي أنّها تغلّبت على ما تعتبره "الصّفحات المظلمة من التّاريخ"، وتفسح المجال لثقافة الإلغاء، فلا تسمح بالاختلافات وتركّز على حقوق الأفراد، وتهمل الواجبات تجاه الآخرين، وخاصّة أضعفهم وأكثرهم هشاشة. وفي هذا السّياق، فمن غير المقبول، على سبيل المثال، الحديث عمّا يسمّى "الحق في الإجهاض" الذي يتعارض مع حقوق الإنسان، ولا سيّما الحقّ في الحياة. يجب حماية الحياة كلّها، في كلّ لحظة، منذ الحمل وحتّى الموت الطّبيعي، لأنّه لا يوجد طفل يأتي خطأ أو هو مذنب لأنّه يوجد، كما لا يمكن حرمان أيّ شخص مسِنّ أو مريض من الأمل ولا يجوز التّخلُّص منه.
هذا النّهج يحمل عواقب خاصّة في مختلف الهيئات المتعددة الأطراف. وأفكّر بشكل خاص في منظمّة الأمن والتّعاون في أوروبا، والكرسيّ الرّسوليّ عضوٌ مؤسّس فيها، إذ شارك في المفاوضات التي أدّت قبل نصف قرن من الزّمان إلى إعلان هلسنكي في عام ١٩٧٥. أصبح استعادة "روح هلسنكي" أكثر إلحاحًا من أيّ وقت مضى، حيث تمكّنت الدّول المتعارضة التي تُعتَبَر "أعداء" من خلق مساحة للتلاقي، وعدم التّخلّي عن الحوار كأداة لحلّ النّزاعات. عكس ذلك، فإنّ المؤسّسات المتعددة الأطراف، التي نشأ معظمها في نهاية الحرب العالميّة الثّانية قبل ثمانين سنة، لم تعد قادرة على ما يبدو على ضمان السّلام والاستقرار، ومكافحة الجوع والتّنمية التي أنشئت من أجلها، ولا على الاستجابة بشكل فعّال للتحديّات الجديدة في القرن الحادي والعشرين، مثل قضايا البيئة والصّحّة العامّة والقضايا الثّقافيّة والاجتماعيّة، فضلًا عن التّحديات التي يفرضها الذّكاء الاصطناعيّ. ويحتاج العديد منها إلى إصلاح، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ أيّ إصلاح يجب أن يبنى على مبادئ التّكامل والتّضامن واحترام السّيادة المتساوية للدول، في حين أنّه من المؤلم أن نلاحظ أنّ هناك خطر "المونادولوجيا" والتّجزئة بحسب "الأندية ذات التّفكير المماثل" التي تستقبل فقط الذين يفكّرون في نفس الطّريقة. ومع ذلك، ظهرت دائمًا علامات مشجّعة، حيث توجد النّية الحسنة للتلاقي. أفكّر في معاهدة السّلام والصّداقة بين الأرجنتين وتشيلي، الموقّعة في مدينة الفاتيكان في ٢٩ تشرين الثّاني/نوفمبر ١٩٨٤، والتي، بوساطة الكرسيّ الرّسوليّ وحسن نية الأطراف، وضعت حدًّا للنزاع حول قناة بيغل (Beagle)، ما يدلّ على أنّ السّلام والصّداقة ممكنان عندما يتخلّى عضوان في المجتمع الدّولي عن استخدام القوّة ويتعهدان رسميًّا باحترام جميع قواعد القانون الدّوليّ وتعزيز التّعاون الثّنائي. وفي الآونة الأخيرة، أفكّر في العلامات الإيجابيّة لاستئناف المفاوضات للعودة إلى منصّة الاتفاق النّووي الإيراني، بهدف ضمان عالم أكثر أمانًا للجميع.
ويَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب: إنّ دبلوماسيّة الأمل هي أيضًا دبلوماسيّة المغفرة، القادرة، في زمن مليء بالصّراعات المكشوفة أو الخفية، على إعادة نسج العلاقات التي مزقتها الكراهية والعنف، وبالتّالي تضميد جراح القلوب المنكسرة في الضّحايا العديدة. وأملي في عام ٢٠٢٥ هو أن يعمل المجتمع الدّولي برمته أوّلًا وقبل كلّ شيء على وضع حدّ للحرب الدّامية في أوكرانيا المعذّبة منذ ما يقرب من ثلاث سنوات والتي تسبّبت في سقوط عدد كبير من الضّحايا، بما في ذلك العديد من المدنيين. وقد ظهرت في الأفق بعض العلامات المشجّعة، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل اللازم لتهيئة الظّروف اللازمة لتحقيق سلام عادل ودائم وتضميد الجراح التي سببها العدوان. وبالمثل، أجدّد النّداء من أجل وقف إطلاق النّار وتحرير الرّهائن الإسرائيليّين في غزّة، حيث يوجد وضع إنسانيّ مهين وخطير جدًّا، وأطلب أن يحصل السّكان الفلسطينيّون على كلّ المساعدات اللازمة. وأملي أن يتمكّن الإسرائيليّون والفلسطينيّون من إعادة بناء جسور الحوار والثّقة المتبادلة، بدءًا من الصّغار، حتّى تتمكّن الأجيال القادمة من العيش جنبًا إلى جنب في الدّولتَين، بسلام وأمن، وتكون القدس "مدينة اللقاء"، حيث يعيش معًا المسيحيّون واليهود والمسلمون في وئام واحترام. في حزيران/يونيو الماضي، في حدائق الفاتيكان، استذكرنا جميعًا معًا الذّكرى السّنويّة العاشرة للصّلاة من أجل السّلام في الأرض المقدّسة، والتي شهدت في ٨ حزيران/يونيو ٢٠١٤ حضور رئيس دولة إسرائيل آنذاك، شمعون بيريز، ورئيس دولة فلسطين، محمود عبّاس، والبطريرك برثلماوس الأوّل. وقد شهد هذا اللقاء أنّ الحوار ممكن دائمًا، ولا يجوز أن نستسلم للقول إنّ العداء والكراهية لها اليد العليا بين الشّعوب.
ومع ذلك، تجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ الحرب يغذّيها الانتشار المستمرّ للأسلحة المتطوّرة والمدمّرة بشكل متزايد. أكرّر هذا الصّباح هذا النّداء: "بالأموال التي تُستخدم في الأسلحة والنّفقات العسكريّة الأخرى، لِنُنشِئْ صندوقًا عالميًّا للقضاء نهائيًّا على الجوع ولتنمية البلدان الأكثر فقرًا، حتّى لا يلجأ سكانها إلى حلول عنيفة أو خادعة، ولا يُضطَرُّوا إلى ترك بلدانهم بحثًا عن حياة أكثر كرامة". الحرب دائمًا هزيمة! قتل المدنيين، وخاصّة الأطفال، وتدمير البُنَى التّحتية ليس فقط هزيمة، بل يعني أنّ المنتصر الوحيد بين المتنازعَيْن هو الشّرّ. ولا يمكننا أن نقبل على الإطلاق أن يتِمَّ قصف السّكان المدنيين أو مهاجمة البنية التّحتية اللازمة لبقائهم على قيد الحياة. لا يمكننا أن نقبل رؤية أطفال يموتون من البرد بسبب تدمير المستشفيات أو تدمير شبكة الطّاقة في بلد ما. ويبدو أنّ المجتمع الدّولي برمته يوافق على احترام القانون الإنسانيّ الدّوليّ، إلّا أنّ عدم تنفيذه بشكل كامل وعملي يثير تساؤلات. إذا نسينا ما هو أساس وجودنا، وقدسيّة الحياة، والمبادئ التي تحرّك العالم، فكيف يمكننا أن نفكِّر في أن يكون هذا الحقّ مضمونًا؟ من الضّروريّ إعادة اكتشاف هذه القِيَم، وأن تتجسّد بدورها في مبادئ الضّمير العام، ليكون مبدأ الإنسانيّة هو أساس العمل حقًّا. لذلك، آمل أن تكون سنة اليوبيل هذه وقتًا مناسبًا للمجتمع الدّوليّ لكي يجتهد ويجِدّ حتّى لا تكون حقوق الإنسان التي لا يجوز الاعتداء عليها ضحيّة للمقتضيات العسكريّة. ومن هذا المنطلق، أطلب أن نواصل العمل لنضمن أنّ عدم الامتثال للقانون الإنسانيّ الدّولي لم يعد خيارًا. ولا بدّ من بذل المزيد من الجهود لضمان تفعيل ما تمّت مناقشته خلال المؤتمر الدّوليّ الرّابع والثّلاثين للصّليب الأحمر والهلال الأحمر، الذي انعقد في جنيف في تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي. تمّ الاحتفال قبل قليل بالذّكرى السّنويّة الخامسة والسّبعين لاتفاقيات جنيف، ويظلّ من الضّروريّ أن تتحقّق في ساحات الحروب الكثيرة، هذه القواعد والمبادئ المتفق عليها في تلك الاتفاقيات.
ومن بين هذه الأشياء، أفكّر في الصّراعات المختلفة التي لا تزال مستمرّة في القارّة الأفريقيّة، وخاصّة في السّودان ومنطقة السّاحل والقرن الأفريقيّ وموزامبيق، حيث توجد أزمة سياسيّة خطيرة، وفي المناطق الشّرقيّة من جمهوريّة الكونغو الدّيمقراطيّة، حيث يصاب السّكان بنقص صحّيّ إنسانيّ خطير، تزداد سوءًا مرارًا بسبب آفة الإرهاب، والتي تتسبّب في خسائر في الأرواح وتشريد ملايين الأشخاص. ويضاف إلى ذلك الآثار المدمّرة للفيضانات وحالات الجفاف، التي تؤدّي إلى تفاقم الظّروف المحفوفة بالمخاطر بالفعل في أماكن مختلفة من أفريقيا. ومع ذلك، فإنّ احتمال دبلوماسيّة المغفرة لا يقتصر فقط على معالجة الصّراعات الدّوليّة أو الإقليميّة. إنّها تحمِّل الجميع المسؤوليّة لأن يصيروا صانعيّ سلام، حتّى نتمكَّن من بناء مجتمعات سلام حقًا، حيث تشكّل الاختلافات السّياسيّة المشروعة، ولكن أيضًا الاجتماعيّة والثّقافيّة والعرقيّة والدّينيّة، ثروة بدل أن تكون مصدرًا للكراهية والانقسام.
أفكّر خاصّة في ميانمار، حيث يعاني السّكان بشدّة بسبب الاشتباكات المسلّحة المستمرّة التي تجبر النّاس على الفرار من منازلهم والعيش في خوف. ومن المحزن أيضًا أن نلاحظ أنّه لا تزال هناك سياقات مختلفة للصّراع السّياسيّ والاجتماعيّ السّاخن، خاصّة في القارّة الأمريكيّة. أفكّر في هايتي، حيث آمل أن يتمّ اتّخاذ الخطوات اللازمة في أقرب وقت ممكن لإعادة إرساء النّظام الدّيمقراطيّ ووقف العنف. أفكّر أيضًا في فنزويلا والأزمة السّياسيّة الخطيرة التي تعاني منها. ولا يمكن التّغلّب عليها إلّا من خلال الالتزام الصّادق بقِيَمِ الحقّ والعدالة والحرّيّة، باحترام حياة وكرامة وحقوق كلّ شخص - بما في ذلك المعتقلين عقب أحداث الأشهر الأخيرة - ورفض أيّ شكل من أشكال القمع والعنف، ونأمل أن تبدأ المفاوضات بحسن نية وتهدف إلى تحقيق الصّالح العام للبلاد. وأفكّر في بوليفيا، التي تمرّ بوضع سياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ مقلق، وكذلك كولومبيا، حيث أنا على ثقة من أنّنا، بمساعدة الجميع، قادرون على التّغلّب على الصّراعات العديدة التي مزّقت البلاد لفترة أطول مما ينبغي. وأخيرًا، أفكّر في نيكاراغوا، حيث يتابع الكرسيّ الرّسوليّ، المستعد دائمًا للحوار في الاحترام البنَّاء، ويتابع بقلق التّدابير المتّخذة ضدّ الأشخاص ومؤسّسات الكنيسة ويأمل أن تكون الحرّيّة الدّينيّة وغيرها من الحقوق الأساسيّة مضمونة بشكل كاف للجميع.
والحقيقة أنّه لن يكون هناك سلام حقيقيّ إذا لم يتمّ ضمان الحرّيّة الدّينيّة أيضًا، هذا يعني ضمنًا احترام ضمير الأفراد وإمكانيّة إظهار المرء علنًا لإيمانه وانتمائه إلى جماعة معيّنة. وبهذا المعنى، فإنّ التّعبيرات المتزايدة عن معاداة السّامية، التي أدينها بشدّة، والتي تؤثّر على عدد متزايد من الجاليات اليهوديّة في جميع أنحاء العالم، تشكّل مصدر قلق بالغ. ولا أستطيع أن أبقى صامتًا إزاء الاضطهادات العديدة لمختلف الجماعات المسيحيّة التي كثيرًا ما ترتكبها الجماعات الإرهابيّة، وخاصّة في أفريقيا وآسيا، ولا الأشكال الأخرى "الحساسة" لتقييد الحرّيّة الدّينيّة التي تؤثّر أحيانا أيضًا على أوروبا، حيث تتزايد المعايير والممارسات القانونيّة الإدارية التي "تحِدّ أو تُلغِي الحقوق التي تعترف بها الدّساتير رسميًّا للأفراد المؤمنين والجماعات الدّينيّة". وفي هذا الصّدد، أودّ أن أؤكّد من جديد أنّ الحرّيّة الدّينيّة هي "من مكتسبات الحضارة السّياسيّة والقضائيّة"، لأنّه عندما "يتمّ الاعتراف بها، تُحترم كرامة الإنسان في جذورها، كما تُحترم روح الشّعوب ومؤسساتها".
يستطيع المسيحيّون، بل ويريدون، أن يساهموا بفعّالية في بناء المجتمعات التي يعيشون فيها. وحتّى عندما لا يشكّلون أغلبيّة في المجتمع، فإنّهم مواطنون كاملون، وخاصّة في الأراضيّ التي يسكنونها منذ زمن سحيق. وأشير بشكل خاص إلى سورية، التي يبدو أنّها تتجه نحو الاستقرار بعد سنوات من الحرب والدّمار. آمل ألّا يتمّ، من قبل أيّ أحد، المساس بسلامة الأراضيّ ووَحدة الشّعب السّوري والإصلاحات الدّستوريّة الضّروريّة. وأرجو أن يساعد المجتمع الدّوليّ سورية على أن تكون أرض العيش السّلميّ معًا حيث يمكن لجميع السّوريين، بما في ذلك المكوِّن المسيحيّ، أن يشعروا بأنّهم مواطنون كاملون، ويشاركوا في الخير العام لهذا الوطن العزيز. كذلك أفكّر في لبنان الحبيب، آملًا أن يتمكّن هذا البلد، بمساعدة حاسمة من المكوِّن المسيحيّ، من تحقيق الاستقرار المؤسّسي اللازم لمواجهة الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ الخطير، وإعادة إعمار جنوب البلاد المنكوب بالحرب، والتّنفيذ الكامل للدّستور واتفاق الطّائف. ولْيَعمَلْ اللبنانيّون جميعًا حتّى لا يتشوّه وجه أرض الأرز بالانقسام، بل يُشرق دائمًا من أجل "العيش المشترك"، ويبقى لبنان وطنًا ورسالة للعيش معًا والسّلام.
ويُنادِيَ بِإِفْراجٍ عنِ المَسبِيِّين: ألفا سنة من المسيحيّة ساعدت في القضاء على العبوديّة في كلّ نظام قانونيّ. ومع ذلك، لا تزال أشكال متعددة من العبوديّة موجودة، بدءًا من شكل للعبوديّة غير المعترف به على نطاق واسع ولكنّه يمارس على نطاق واسع وذلك في مجال العمل. يعيش كثيرون عبيدًا لعملهم، ويتحوَّل من وسيلة إلى غاية في حياتهم، وغالبًا ما يكونون عبيدًا لظروف عمل غير إنسانيّة، من حيث السّلامة وساعات العمل والأجور. لا بدّ من العمل لتهيئة الظّروف اللائقة بالعمل، وهو في حدّ ذاته نبيل ويجعل العامل نبيلًا، حتّى لا يصير عائقًا أمام تحقيق الإنسان ونمّوه. وفي الوقت نفسه، من الضّروريّ ضمان وجود فرص عمل فعّالة، خاصّة عندما تؤدّي البطالة المنتشرة إلى انتشار العمل غير القانونيّ، ومن ثمّ الجريمة. ثمّ هناك العبوديّة الرّهيبة لإدمان المخدرات، والتي تصيب بشكل خاصّ الشّباب. ومن غير المقبول أن نرى عدد الأرواح والعائلات والبلدان التي دمّرها هذا الطّاعون، الذي يبدو أنّه يزداد انتشارًا، وذلك أيضًا بسبب ظهور المخدرات الاصطناعيّة المميتة في كثير من الأحيان، والتي أصبحت متاحة على نطاق واسع بسبب ظاهرة الاتّجار بالمخدرات المقيتة.
ومن بين أشكال العبودية الأخرى في عصرنا، فإنّ أحد أفظع أشكال العبوديّة هو الذي يمارسه تجار البشر: إنّهم أناس عديمو الضّمير، يستغلّون احتياجات الآلاف من الأشخاص الهاربين من الحرب أو المجاعة أو الاضطهاد أو آثار تغيّر المناخ بحثًا عن مكان آمن للعيش. إنّ دبلوماسيّة الأمل هي دبلوماسيّة الحرّيّة، وتقتضي الالتزام المشترك من المجتمع الدّوليّ للقضاء على هذه التجارة البائسة. في الوقت نفسه، لا بدّ من الاهتمام بضحايا عمليات الاتّجار هذه، وهم المهاجرون أنفسهم، الذين يضطرون إلى السّفر آلاف الكيلومترات سيرًا على الأقدام في أمريكا الوسطى أو في الصّحراء الكبرى، أو عبور البحر الأبيض المتوسّط أو قنال المانش (Manche) في قوارب مهلهلة ومكتظة، وينتهي بهم الأمر بأن يلاقوا الرّفض أو يجدون أنفسهم مهاجرين غير شرعيّين في أرض أجنبيّة. إنّا ننسى بسهولة أنّهم بَشَرٌ وأناسٌ يحتاجون إلى التّرحيب والحماية والتّشجيع والإدماج. وألاحظ بألم كبير أنّ الهجرات ما زال يغشاها غيوم داكنة من عدم الثّقة، بدلًا من اعتبارها مصدرًا للنّمّو. ويُنظر إلى الأشخاص المهاجرين على أنّهم مجرّد مشكلة يجب معالجتها. لا يمكن تشبيههم بأشياء تخزَّن في بعض الأماكن، بل لديهم كرامة ولهم موارد يمكنهم تقديمها للآخرين، ولهم تجاربهم في الحياة، واحتياجاتهم ومخاوفهم وتطلُّعاتهم وأحلامهم وقدراتهم ومواهبهم. وفي هذا المنظور فقط يمكن إحراز تقدّم في معالجة هذه الظّاهرة التي تتطلّب مساهمة مشتركة من جميع البلدان، وكذلك من خلال إنشاء طرق منتظمة آمنة. ويظلّ من الأهمّيّة بمكان معالجة الأسباب الجذريّة للنّزوح، بحيث يصبح مغادرة الشّخص للبيت للبحث عن بيت آخر خيارًا وليس "ضرورة للبقاء". ومن هذا المنظور، أعتقد أنّ الالتزام المشترك بالاستثمار في التّعاون الإنمائي أمر أساسيّ للمساعدة في استئصال بعض الأسباب التي تدفع النّاس إلى الهجرة.
وبِتَخلِيَةٍ لِلمَأسورين: إنّ دبلوماسيّة الأمل هي أخيرًا دبلوماسيّة العدل، وبدونها لا يمكن أن يكون سلام. سنة اليوبيل هي فترة مناسبة لممارسة العدل والإعفاء من الدّيون وتخفيف أحكام السّجناء. ليس هناك دَيْن يسمح لأحد، بما في ذلك الدّولة، بالمطالبة بحياة إنسان. وفي هذا الصّدد، أكرّر دعوتي إلى إلغاء عقوبة الإعدام في جميع الدّول، لأنّه لا يوجد اليوم أيّ تبرير له بين الأدوات القادرة على التّعويض عن العدل. ومن ناحية أخرى، لا يمكننا أن ننسى أنّنا جميعًا سجناء، إلى حدٍ ما، لأنّنا جميعًا مدينون: نحن مدينون لله، وللآخرين، وأيضًا لأرضنا الحبيبة التي نستمد منها غذاءنا اليوميّ. وكما ذكرت في رسالتي السّنويّة في مناسبة اليوم العالميّ للسّلام، "يجب على كلّ واحد منّا أن يشعر بطريقة أو بأخرى بالمسؤوليّة عن الدّمار الذي يتعرّض له بيتنا المشترك". يبدو أنّ الطّبيعة تتمرّد بشكل متزايد ضدّ تصرفات الإنسان، بالظّواهر المتطرّفة لقوّتها. ومن الأمثلة على ذلك الفيضانات المدمّرة التي حدثت في أوروبا الوسطى وإسبانيا، فضلًا عن الأعاصير التي ضربت مدغشقر في الرّبيع، وقبل عيد الميلاد بقليل، ضربت مقاطعة مايوت (Mayotte) الفرنسيّة والموزمبيق.
لا يمكننا أن نبقى غير مبالين أمام كلّ هذا! لا حقَّ لنا! بل من واجبنا أن نبذل قصارى جهدنا لرعاية بيتنا المشترك والذين يعيشون فيه والذين سيعيشون فيه. خلال الدّورة التّاسعة والعشرين لمؤتمر الأطراف (COP 29) في باكو (Baku)، تمّ اتّخاذ قرارات لضمان المزيد من الموارد الماليّة للعمل في مجال المناخ. وآمل أن يسمح ذلك بتقاسم الموارد لصالح العديد من البلدان المعرّضة لأزمة المناخ والتي يقع عليها عبء الدّيون الاقتصاديّة الجائرة. ومن هذا المنطلق، فإنّني أناشد الدّول الغنيّة أن تعفو عن ديون البلدان التي لن تستطيع سدادها أبدًا. وليس هذا مجرّد عمل تضامنيّ أو كرمًا منها، بل هذا عدل قبل كلّ شيء. والدَّيْنُ يزداد ثقلًا بشكل جديد من الإساءة والذي ندركه بشكل متزايد اليوم: وهو "الدَّيْنُ البيئيّ"، وخاصّة بين الشّمال والجنوب. ومن حيث الدَّيْن البيئيّ أيضًا، من المهمّ تحديد طرق فعّالة لتحويل الدّيون الخارجيّة للبلدان الفقيرة إلى سياسات وبرامج فعّالة ومبدعة ومسؤولة لتحقيق تنمية بشريّة متكاملة. والكرسيّ الرّسوليّ على استعداد لمرافقة هذه العمليّة وهو يدرك أنّه لا توجد حدود أو حواجز، سياسيّة أو اجتماعيّة، يمكن أن نختبئ خلفها.
أيها السّفراء الأعزّاء، في الرّؤية المسيحيّة، اليوبيل هو زمن نعمة. أوَدُّ أن يكون عام ٢٠٢٥ حقًّا عامَ نعمة، غنيًّا بالحقيقة والمغفرة والحرية والعدل والسّلام! "في قلب كلّ إنسان الرّجاء هو رغبة وانتظار للخير". وكلّ واحد مِنّا مدعُوٌّ إلى أن يجعله يزدهر حولنا. هذه هي أمنياتي الحارّة لكم جميعًا، السّفراء الأعزّاء، ولعائلاتكم، وللحكومات والشّعوب التي تمثّلونها: أتمنّى أن يزدهر الأمل في قلوبنا، وأن يجِدَ عصرُنا السّلام المنشود.