تديين التعليم في مجتمع طائفي
الثلاثاء ١٤ يناير ٢٠٢٥
إسحق إبراهيم
بينما تحتفي الأمم المتحدة بـ اليوم الدولي للتعليم في 24 يناير/كانون الثاني الحالي بالتأكيد على ضرورة إتاحة فرص التعليم الجيد للجميع بشكل متساوٍ، وإلا ستتعثر البلدان في سعيها نحو تحقيق التنمية والمساواة، أعلنت الحكومة بشكل مفاجئ خطة وزارة التربية والتعليم لتعديل نظام الثانوية العامة واستبدال شهادة البكالوريا بها، ضمن جملة تعديلات، من بينها إضافة مادة التربية الدينية إلى المجموع الكلي للدرجات، بعد أن ظلت لعقود مادة نجاح ورسوب فقط.
تثير هذه التعديلات العديد من علامات الاستفهام حول الأهداف الحقيقية لهذه الخطوة، خصوصًا وأنها لا تبدو متسقة مع الحديث المتكرر عن تطوير التعليم، وإدخال مفاهيم حقوق الإنسان والمساواة والتعايش وقبول الآخر في مناهجه. كما أنها تخالف أهداف التعليم الواردة في المادة 19 من الدستور؛ وهي إرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز، كذلك التعهد الوارد في الرؤية الاستراتيجية للتعليم حتى عام 2030، بإتاحة التعليم للجميع بجودة عالية دون تمييز، وفي إطار نظام مؤسسي كفء وعادل.
اتسم نظام الثانوية العامة الحالي بالعدالة، فلم يُصِبه داء التمييز الديني والطبقي المستشري في قطاعات ومؤسسات الدولة. ورغم بعض الاختلالات وزيادة أعبائه، فهو لا يزال نظامًا يضمن تكافؤ الفرص للجميع.
تكافؤ الفرص في مهب الريح
هل ستوفر الوزارة فصولًا مناسبة للطلاب المسيحيين في حصة الدين مع الشكوى من كثافة الفصول؟!
يدرُس الطلاب في المدارس الحكومية والخاصة الخاضعة لإشراف وزارة التربية والتعليم المناهج الدراسية نفسها، ويخوضون الامتحانات نفسها، وتصحَّح أوراق إجاباتهم وفقًا لنماذج موحدة للجميع. هذه المبادئ أساسية وضرورية لكن النظام المقترح الجديد يهدرها؛ فمنهج التربية الدينية الإسلامية يختلف في أهدافه ورسالته ومضمونه عن منهج التربية الدينية المسيحية، ويُقدَّم بواسطة مدرسين مختلفي الانتماءات والتوجهات الفكرية والدينية.
في ضوء ذلك، يصبح من شبه المستحيل الاحتكام إلى معيار لتحقيق المساواة في طريقة تقديم المادة ووضع أسئلة امتحاناتها، ومن ثَمَّ تقييم درجات الطلاب، خصوصًا أن منهج التربية الدينية الإسلامية في كثير من الأحيان يميل إلى المفاضلة بين الأديان، ويُعلي من الدين الإسلامي باعتباره المصدر الأهم للفضائل والقيم الإيجابية. وهذا لا بأس به، ولكن من يضعون مناهج التربية الدينية المسيحية لا يتمتعون بنفس مساحة الحرية في فعل المثل.
كان على وزارة التربية والتعليم قبل الإعلان عن هذه الخطة النظر بعين الاعتبار إلى الانتقادات التي توجه إليها فيما يخص طريقة تدريس مادة التربية الدينية في المدارس، وهي لم تدخل بعد في المجموع الكلي للدرجات، كنموذج صارخ للتمييز والفرز الطائفي، حيث يُجبَر الطلاب المسيحيون على مغادرة فصولهم إلى فناء المدرسة غير المهيأ للتدريس، بحجة عدم وجود أماكن بديلة. فهل بعد أن أصبحت درجات المادة جزءًا من المجموع، ستوفِّر الوزارة فصولًا مناسبة للطلاب المسيحيين يتلقون فيها دروسهم مثل نظرائهم المسلمين، في ظل الشكوى من كثافة الفصول؟!
ترتبط بهذه النقطة مسألة الكادر الإداري. لا يوجد مدرسون متخصصون في تدريس مادة التربية الدينية، بل تسند التربية الدينية الإسلامية لمدرسي اللغة العربية، بينما يُسند تدريس التربية الدينية المسيحية لأي مدرس مسيحي متوفر في المدرسة بغض النظر عن طبيعة المادة الأساسية التي يتخصص في تدريسها، ومدى تأهيله لذلك، وحتى اتفاقه عقائديًا ولاهوتيًا مع مضمون الكتاب المدرسي.
لا أجد مبررات تدعم هذا القرار، حتى تلك التي طُرحت من قبيل أن ذلك ضروري للتعامل مع التراجع الأخلاقي للطلاب بسبب إهمالهم مذاكرة التربية الدينية، مردود عليه بأن التربية على الأخلاق والقيم وتكوين هوية الطلاب مسؤولية جهات متعددة في مقدمتها المؤسسات الدينية والأسرة لا المدرسة وحدها.
لا يخفى على أحد أن المناهج التعليمية الأخرى المضافة للمجموعة تزخر بالمعرفة الدينية الإسلامية. يكفي أن نذكر أن كراسة الخط العربي للصف الثالث الإعدادي تحتوي على 62 نصًا يُطلب من الطلاب كتابتها بالخطين النسخ والرقعة، 22 منها من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، أما النصوص الباقية فهي لشعراء وفقهاء عرب وأقوال مأثورة. ولا تتضمن أي نص ديني من الكتاب المقدس أو التراث المسيحي أو اليهودي.
لذلك، لا يمكن قراءة هذه الخطوة بمعزل عن تديين العملية التعليمية في المجمل، وإضفاء مسحة إسلامية محافظة عليها، وهي من أبرز الانتقادات التي وُجِّهت للنظام التعليمي المصري منذ عدة عقود. فلا يخفى على أحد صبغ المناهج التعليمية بالتوجهات الإسلامية، وإدراج الإسلام في كثير من جوانب التعليم العام بطريقة تبرز الهوية الإسلامية على حساب غيرها، دون الإشارة إلى أثر المسيحية على الهوية المصرية، أو إلى أوضاع المسيحيين وأدوارهم السياسية والاجتماعية، خصوصًا مقررات اللغة العربية والتاريخ والعلوم، التي تتضمن دروسًا يتخللها كثير من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، يُجبر الطلاب من مختلف الأديان على مذاكرتها وحفظها والامتحان فيها.
على سبيل المثال لا الحصر، أقدم للقارئ ثلاثة نماذج لا تزال موجودة في كتب اللغة العربية التي يدرسها جميع الطلاب من مختلف الديانات، بما يعكس توجهات المؤسسة التعليمية الرسمية التمييزية وكأنها تخاطب الطلاب المسلمين فقط. أول النصوص درس عن اسم التفضيل بمنهج الفصل الدراسي الثاني لمادة اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي، صفحة 57، حيث وردت آية "ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل الصالحات وقال إنني من المسلمين".
ينبغي مع تدريس التربية الدينية في المدارس العامة دائمًا وجود ضمانات محددة لأبناء الأقليات الدينية
ومن كتاب اللغة العربية للصف الثالث الثانوي الدرس الخامس اخترت النموذج الثاني، وهو نص بعنوان قيم إنسانية للدكتور شوقي ضيف، يمجد الإسلام وما يرسخه من قيم دينية، ويتحدث عدة مرات عن "العطف" على "أهل الذمة"، وهو مصطلح يحمل مدلولًا دينيًا وتاريخيًا ويرتب حقوقًا تقتصر على ما تُقرِّه الشريعة الإسلامية، وهي حقوق تجاوزها الزمن إلى مبدأ المواطنة، بما يضمنه من حقوق متساوية بغض النظر عن الدين أو المعتقد.
قد يكون الهدف من تدريس الإنسانية في الإسلام نبيلًا، لكنَّ تقديم الدرس بهذه الطريقة يستبعد غير المسلمين ويُفهم منه أن الديانات الأخرى وتاريخ الشعوب التي آمنت بها لا تقدم قيمًا إنسانية جيدة.
التسامح على الطريقة الإسلامية
يدرس طلبة الصف الثالث الثانوي في اللغة العربية قصة قصيرة بعنوان الكنيسة نورت للكاتب الراحل إبراهيم أصلان، جاء فيها أن "كانت عائلة العم منصور المسيحي تجاورنا سواء في البيت أو في قعدة الشاطئ. وكانوا يساهمون في القروش القليلة التي يجمعها الأولاد من أجل تزيين الحارة ولا يفطرون إلا مع الأذان. وكنا نتبادل ألواح الصاج التي نرص عليها الكعك والبسكويت والغريبة، ونتبادل حملها إلى الفرن القريب، ونظل حتى الصباح حيث يعود كل منا بألواحه، ونتبادل الزيارة يوم العيد".
رغم العنوان الجذاب للقصة، لكن تأتي القصة في نفس سياق المنهج التعليمي ككل، حيث مرجعية التعايش هي سماحة الإسلام والمسلمين، ومظاهره أن يهنئ المسيحيون المسلمين بأعيادهم ومناسباتهم التي هي مركز الحدث، لا العكس؛ أي تهنئة المسلمين لأشقائهم المسيحيين ومشاركتهم مناسباتهم الدينية والاجتماعية، وهي قضية جدلية تثار في كل عام.
الأسباب التي تدعو لرفض الخطوة الحكومية عديدة، يأتي في مقدمتها تجنب التطييف الديني الذي حتمًا سيحدث، فما أيسر أن يتهم كل طرف الآخر بوضع مناهج وامتحانات أسهل، من أجل منح أفضلية في الحصول على درجات أعلى، مما يفتح باب الشائعات والفتن، ويعزز الصور النمطية السلبية عن الآخر الديني.
يضاف إلى ذلك خلق سوق جديدة للدروس الخصوصية فيما يخص التربية الدينية، الأمر الذي سيزيد الأعباء المادية على الأسر، عكس ما تدَّعيه الوزارة كسبب لتغيير النظام الحالي.
ومن جانب آخر، تفقد القيم الدينية والروحية التي يفترض غرسها في الطلاب معناها ومضمونها، حيث تتحول إلى نص يحفظونه للإجابة عن أسئلته وفقًا للنماذج المقرر بدون إدراك لأهميته. وعلى ذكر الحفظ، فهذا النسق التعليمى غالبًا ما يفرز أفرادًا ذوي عقول منغلقة متعصبين رافضين للاختلاف، وهذا أيضًا يتعارض مع ما تدعيه الوزارة من أن تغيير النظام جاء مواكبًا للعصر ومن أجل مناهج تنمي التفكير والإبداع.
منذ يوليو/تموز 2013، تولى مسؤولية وزارة التربية والتعليم ستة وزراء، جميعهم أعلن عن خطط لتطوير التعليم، لكن عجزوا عن تحقيق أي تقدم ملموس، حيث أراد كل منهم إعادة اختراع العجلة، وقدم رؤية منقطعة الصلة عما قبلها وعن تجارب الآخرين وما قدمه الخبراء من استنتاجات وتوصيات.
ينبغي أن تتلازم مع تدريس التربية الدينية في المدارس العامة دائمًا، وفق مبادئ توليدو التوجيهية، ضمانات محددة لصالح المنتمين للأقليات الدينية أو العقائدية، وأن يكون أمامهم الخيار بعدم تلقي تعليم ديني يخالف معتقداتهم. وينبغي أن تهدف السياسات التعليمية إلى تعزيز حماية حقوق الإنسان وضمان احترام وقبول التعددية والتنوع في مجال الدين أو المعتقد. كما ينبغي توخي الحذر لتجنب إدراج مواضيع تعليمية غير صحيحة أو متحيزة، خاصةً عندما يُعزز ذلك القوالب النمطية السلبية.
نقلا عن المنصة