
الكاردينال تشيرني في لبنان: رسالة تضامن ودعم وسط الأزمات
محرر الأقباط متحدون
الخميس ٢٠ فبراير ٢٠٢٥
محرر الأقباط متحدون
اليوم الأول من زيارة عميد دائرة خدمة التنمية البشرية المتكاملة. توقف في بيروت عند ضريح الأب كولفينباخ، الرئيس العام للرهبنة اليسوعية من عام ١٩٨٣ إلى ٢٠٠٨. لقاء مع شباب الـ " Leadership Academy for Peace": أنتم مسؤولون عن الكنيسة والعالم. زيارة للبطريرك الراعي.
لولا المباني المتفحمة أو تلك المدمرة من جراء انفجار مرفأ بيروت عام ٢٠٢٠، لبدت بيروت مدينة ذات روتين طبيعي وليس كإحدى أكثر المدن معاناةً في الشرق الأوسط. مزيج من الضباب الدخاني وناطحات السحاب، سيارات تسير بجنون تحت سماء رمادية دائمة، موسيقى صاخبة، أنقاض حي الضاحية، معقل حزب الله الذي قصفته إسرائيل، ودمار المرفأ من جهة، ومن جهة أخرى متاجر، ومطاعم، ومناظر خلابة عند غروب الشمس.
في هذا المشهد، يعيش شعب يعاني من أزمة اقتصادية خانقة دفعت الآلاف من الشباب إلى الهجرة، ومن الحرب الأخيرة التي دمرت الجنوب وخلّفت أضرارًا في العاصمة وفاقمت أزمة اللاجئين. يبلغ عدد سكان لبنان حوالي سبعة ملايين، منهم ثلاثة ملايين ونصف لاجئون: سوريون، فلسطينيون، وأفارقة وآسيويون يعملون كيد عاملة. كثير منهم بلا مأوى، يراقبون مرور السيارة السوداء التي تقل الكاردينال مايكل تشيرني، رئيس دائرة خدمة التنمية البشرية المتكاملة، الذي يزور لبنان من ١٩ وحتى ٢٣ شباط لكي يحمل تضامن البابا إلى الأساقفة والبطاركة، ويدعم مبادرات الكنيسة المحلية.
قال الكاردينال تشيرني للذين التقاهم لدى وصوله إلى العاصمة اللبنانية، بدءًا من السفير البابوي باولو بورجيا ورئيس أساقفة طرابلس الماروني يوسف سويف، اللذين استقبلاه في مطار رفيق الحريري: "لنصلِّ من أجل شفاء الأب الأقدس العاجل". وهو المطار عينه الذي يحتفظ اللبنانيون بصور على هواتفهم لطائرات تهبط تحت سماء ملتهبة أثناء الغارات الإسرائيلية. مشاهد حرب، حرب جديدة في سجل لبنان الطويل: "كل خمسة عشر عامًا لدينا حرب. منذ الحرب الأهلية عام ١٩٧٥ ونحن نعيش في بيئة حروب، هدنات، ثم حروب جديدة. لقد أصبح لدينا نوع من المناعة"، يعلق المطران سويف. إنَّ الصراع الأخير بين إسرائيل وحزب الله قد زاد الوضع الهش تعقيدًا، مما دفع بموجات جديدة من اللاجئين من الجنوب إلى الوسط والشمال: "فرضوا وجودهم، لكن تم استقبالهم". من الجميع، وخاصة من الكنيسة الكاثوليكية، التي تحافظ على بنية قوية وصوت حر في لبنان (حالة نادرة وربما فريدة في الشرق الأوسط). في صباح يوم وقف إطلاق النار، عاد كثيرون إلى بيوتهم وقراهم، رافضين مغادرة وطنهم: "هنا نحاول بناء المستقبل حتى وإن لم يكن موجودًا"، يقول سويف، الذي تنفس الصعداء عند الحديث عن انتخاب الرئيس الجديد جوزيف عون بعد جمود طويل. "الآن نعمل على تعزيز الدولة ودور الكنيسة، علينا استعادة الثقة الوطنية والدولية. عندما يكون هناك نظام يعمل بشكل جيد، يبقى الناس".
لكن الواقع الحالي مختلف: "لا توجد استثمارات، أموال الناس خرجت من البنوك بعد الانهيار، ولا أحد يعرف أين ذهبت"، يقول رئيس الأساقفة. "قبل الأزمة، كان الدولار يساوي ١٥٠٠ليرة لبنانية؛ بعدها أصبح ٩٠٠٠٠ ليرة. تدريجيًا بدأت المتاجر والمنتجات المحلية تستعيد نشاطها. الكثير من العمال، خاصة في طرابلس، عادوا إلى الزراعة. لكنهم بالكاد يصلون إلى نهاية الشهر، لا يستطيع الشباب التخطيط للزواج أو شراء منزل. هم يعيشون على الهواء"، يضيف الأسقف. ويتحدث عن التدفق المستمر للأشخاص الذين يطرقون أبواب الكنائس والمكاتب الأبرشية، ويتأثر عند الحديث عن اللبنانيين في المهجر الذين يرسلون الأموال لعائلاتهم: "يصل إلى لبنان سنويًا بين ٧ إلى ٨ مليارات دولار. إنه عمل تضامني لا يُصدّق، يظهر لهذا الشعب أنه لم يُترك وحيدًا".
القرب من الشعب هو الهدف الرئيسي لرسالة الكاردينال تشيرني، الذي سيتوجه في الأيام المقبلة إلى طرابلس وقرى أخرى في الجنوب. لقد خصصت الأيام الماضية للقاءات رسمية عدة: صباحًا، شارك في اجتماع مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وهو الهدف الأساسي للرحلة؛ مساء الأربعاء، زار البطريرك الكاردينال بشارة بطرس الراعي في مقر البطريركية في بكركي، كما التقى شباب الـ " Leadership Academy for Peace "، وهي مبادرة تدعمها الدائرة المعنية خدمة التنمية البشرية المتكاملة، وتهدف إلى تعزيز تنشئة الشباب الكاثوليكي تحت سن ٣٥ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتزويدهم بالأدوات اللازمة لكي يصبحوا قادة سياسيين، وفقًا لمبادئ وتعاليم العقيدة الاجتماعية الكاثوليكية.
التقى الكاردينال بالشباب في السفارة البابوية، بعد وقفة شخصية وخاصة تمثلت في زيارته لقبر الأب بيتر هانز كولفينباخ، اليسوعي الهولندي الذي شغل منصب الرئيس العام للرهبنة اليسوعية من عام ١٩٨٣ إلى ٢٠٠٨، وعمل في لبنان حيث "ترك قلبه"، وطلب أن يُدفن في هذه الأرض. يقع قبره، في مقبرة داخل مدرسة "Collége Notre-Dame " في بعبدا، التي تُعتبر من بين أفضل المدارس في لبنان وتديرها الرهبنة اليسوعية. وكان الكاردينال تشيرني قد شغل منصب أمين سر كولفينباخ لشؤون الرسالة الاجتماعية لمدة أحد عشر عامًا. وفي زيارته للمقبرة، توقف للحظات للصلاة. ثم شارك مع وسائل الإعلام الفاتيكانية ذكرى قائلاً: "على ضوء المجمع الفاتيكاني الثاني، عمل كولفينباخ بلا كلل على تجديد جميع جوانب الروحانية، والجماعة، والتنشئة، ولاسيما رسالة الرهبنة اليسوعية، وهو عمل تُوّج بتحديث القواني عام ١٩٩٥". ولا يزال إرث الأب كولفينباخ حاضرًا في برنامج الدراسات بالكلية التي تضم حوالي ٣ آلاف طالب، معظمهم من المسيحيين، فيما يشكل المسلمون ٢% من طلابها. وأشار مدير المدرسة إلى أن سبعة وزراء في الحكومة الجديدة هم من خريجي الكلية أو لديهم أبناء يدرسون فيها. وعلى نطاق أوسع، لا يزال التعليم الكاثوليكي في لبنان مرجعًا لباقي الطوائف، لما يتسم به من جودة وقيم وروح الإنجيل.
إنها المبادئ عينها التي يتبناها شباب الـ " Leadership Academy for Peace "، الذين شارك بعضهم خبرته في السفارة البابوية. عبر ميشيل عن امتنانه للمشروع قائلاً: "أدركت أننا كمسيحيين علينا أن نرفع صوتنا، لا أن نكتفي بالأكل والنوم، بل يجب أن ننقل قيمنا". أما فؤاد، فقد تحدث باسم العديد من أقرانه الذين "يترددون في الالتزام في السياسة، ليس بسبب اللامبالاة، بل لشعورهم باليُتم السياسي وافتقارهم إلى شخصيات ملهمة تقودهم". وأضاف: "لكنني أقول: إذا لم نتقدم نحن، فمن سيفعل؟". أما جيهان، فقد وصفت السياسة بأنها "لعبة قذرة"، لكنها أكدت أن مدربي الأكاديمية أوضحوا لها أن "السياسة ليست فاسدة في جوهرها، بل يمكن إصلاحها". كما تحدث رودي عن خبرته في مجلس شباب البحر الأبيض المتوسط في باليرمو ممثلًا عن الكنيسة السريانية، فيما قالت جولي: "لا يوجد تعارض بين السياسة والمسيحية. السياسة هي خدمة، ورسالتي هي خدمة المجتمع، وأريد أن أجسد إيماني المسيحي في العمل السياسي". وفي سياق متصل، استعرض الشقيقان التوأم جوزيف وجيوفاني حملتهما الإعلامية التي تهدف إلى مساعدة الشباب على تخطّي الشعور بالضحية الناجم عن كونهم وُلدوا في لبنان. وقالا: "نحاول أن ننقل للشباب أنه بإمكاننا أن نصبح قادة. نحن نخاف من أن نصبح قادة ونخاف من السياسة، لكن علينا ويمكننا أن نكون روادًا للتغيير"
بدوره، شكرهم الكاردينال تشيرني قائلاً: "أنتم تنقلون الرجاء لدول أخرى تعيش المشاكل عينها. كونوا نورًا في الظلام". وأضاف أن جذور العديد من المشاكل تعود إلى مسألة الحوكمة، لكنه استشهد بتوجيهات البابا فرنسيس التي أكدت أن "الأخوَّة هي مفتاح الحلول كافة". وأضاف: "إذا كنا إخوة وأخوات، فسنكون حكامًا صالحين"، مستندًا إلى رسالة الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، التي تؤكد أن "الدعوة المسيحية الأساسية هي التبشير". وفي ختام حديثه، استشهد الكاردينال تشيرني بعبارة تُنسب إلى القديس فرنسيس الأسيزي، والتي كررها البابا مرارًا: "بشّروا دائمًا، وإذا لزم الأمر، استخدموا الكلمات". كما قدّم حلّين استلهمهما من تعليم القديس إغناطيوس دي لويولا: "الصلاة والعمل"، وقال: "صلّوا كما لو أن كل شيء يعتمد على الله، واعملوا كما لو أن كل شيء يعتمد علينا". واختُتم اللقاء بتلاوة صلاة "الأبانا" معًا من أجل الشفاء العاجل للبابا فرنسيس.