
تحليلٌ لاهوتيّ لقصيدة أحمد فؤاد نجم، وغناء الشيخ إمام:
الأب جون جبرائيل الدومنيكاني
السبت ٥ يوليو ٢٠٢٥
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
دَلّي الشيكاره
دلي الشيكارة دنب الشيكارة
واجعد يا حفني ولع لك سيجارة
فكر شوية في العيشة دية
ايه الجضية ايه العبارة
من صغر سني شقيان لكنى
ما لط سني غير القصارة
ودخلت حارة من جوه حارة
وف كل حارة عليت عمارة
وسط المعاول بّنا ومناول
بس المجاول كلني بشطارة
ولا خلى صرة ولا لجمة حرة
والعيشة مره يا بوي آخر مرارة
تحليلٌ لاهوتيّ للقصيدة الأغنية
بالإضافة إلى التحليل الأدبيّ والاجتماعي لهذه القصيدة الموجعة من شعر أحمد فؤاد نجم، يمكن تقديم قراءة لاهوتية قد تُنير النصّ في ضوء "لاهوت العمل البشريّ"، كما طوّره البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته Laborem Exercens (العمل البشريّ، ١٩٨١)، وفي ضوء لاهوت التحرير كما طوّره جوستاڤو جوتييرث، وضمن إطار التعليم الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكية، بالإضافة إلى إدراك البُعد الجدليّ لمفهوم الاغتراب عند كارل ماركس.
في هذه القصيدة، يُطلّ العامل "حفني" بوصفه صورةً رمزيّة للعامل المجهول، ذاك الذي، كما يقول يوحنا بولس الثاني، "يشارك في عمل الخلق عندما يعمل"، إذ يُعدّ العمل امتدادًا لكرامة الإنسان ودعوته من الله. ولكنّ هذا "العمل"، كما يظهر في القصيدة، مُنتزَع من كرامته، بل وأكثر من ذلك: يتحوّل إلى أداة اغتراب، كما وصفه ماركس في المخطوطات الاقتصاديّة والفلسفية، حيث يفقد العامل علاقته الحيّة بما يصنع، فيصبح غريبًا عن نتاج عمله، وغريبًا عن ذاته، بل وغريبًا عن زملائه البشر.
فالعامل الذي "عَلّى عمارة" لا يملك فيها جدارًا، والذي "بنّا ومناوِل" أُكل جهده على يد "المقاول اللي كَله بشطارة"، هو إنسان حُرم من ثمرة عمله، وتحوّل عمله إلى شيءٍ يقف في وجهه بدل أن يعبّر عنه. في هذا، تتحقّق صورة الاغتراب: ليس فقط في العلاقة مع الإنتاج، بل أيضًا مع الجماعة ومع الذات. وهو ما يُعدّ، في ضوء التعليم الاجتماعي للكنيسة الكاثوليكيّة، انتهاكًا صارخًا لعدالة العمل، واعتداءً على كرامة الإنسان كونه كائنًا مخلوقًا على صورة الله.
في ضوء رسالة البابا يوحنا بولس الثاني "العمل البشريّ"، لا يكون العمل مجرّد وسيلة للعيش، بل هو سبيل لتحقيق الذات وتقديس الحياة اليومية. لكن حين يتحوّل العامل إلى أداة مستهلكة أو ترس في آلة، لا يملك من عمله سوى "المرارة"، كما تقول القصيدة، فإنّنا بإزاء ما يسميه البابا "تشوّهًا جوهريًّا" في بنية العمل الاجتماعي والاقتصادي. وهنا يتقاطع التحليل اللاهوتي مع التحليل الماركسي: العمل الذي لا يُعاش على أنّه حرية وخَلق، يُعاش عبوديةً واغترابًا.
هنا يتقاطع الأمر مع لاهوت التحرير، كما عبّر عنه جوتييرث، الذي يرى أنّ "البؤس ليس مجرد حالة اجتماعية، بل هو موضع لاهوتي" – لأنّ الله، كما في سفر الخروج، يصغي إلى صراخ المظلومين. فقصيدة نجم هنا ليست مجرد حنين أو شكوى، بل هي صرخة نبويّة، تُفترض أن يسمعها اللاهوت، لا بوصفه خطابًا فوقيًا، بل بوصفه انحيازًا للمظلوم والمغترب، ذاك الذي غُيّب من على طاولة توزيع الثمار.
إنّ نجم والشيخ إمام، من خلال هذه القصيدة، يُعيدان للغة العامية المصريّة الصعيديّة وظيفةً نبويّة: فالكلمة هنا تحاكِم، وتُدين نظامًا جعل من العيش مرارة، وترك العامل من دون "صرّة" أو "لقمة حرّة". وفي هذا، يلتقي الشعر الشعبي مع ما دعى إليه المجمع الفاتيكانيّ الثاني الذي دعا الكنيسة إلى الإصغاء "لأنّات الشعوب"، لا كمراقب، بل كشريك في الرجاء، بل وأيضًا مع فكر ماركس الذي رأى أنّ التحرر يبدأ حين يُستعاد الإنسان في عمله بصفته ذاتًا حرّة لا كموضوع مُستغلّ.
هكذا تتحوّل القصيدة إلى دعوةٍ لاهوتية وفلسفية إلى استعادة المعنى الحقيقي للعمل، والوقوف ضدّ أيّ نظام اقتصادي "يأكل العامل بشطارة"، ويحوّل العرق إلى اغتراب، والكرامة إلى صمت، والعامل إلى ظلّ ينهار خلف المعاول.
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
راجع:
البابا يوحنّا بولس الثاني العمل البشريّ.
وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني.
جوستاڤو جوتييرّث، لاهوت التحرير، دار الأكوينيّ ٢٠١٧.