الأقباط متحدون - البطريرك بشارة الراعي : عيد سيّدة الوردية يذكّرنا بسلاح روحي ثمين هو المسبحة الوردية .. مدرسة تأمل في حياة المسيح من خلال عينَي مريم
  • ٠١:٠٦
  • الأحد , ٥ اكتوبر ٢٠٢٥
English version

البطريرك بشارة الراعي : عيد سيّدة الوردية يذكّرنا بسلاح روحي ثمين هو المسبحة الوردية .. مدرسة تأمل في حياة المسيح من خلال عينَي مريم

محرر الأقباط متحدون

مسيحيون حول العالم

٠١: ٠٣ م +03:00 EEST

الأحد ٥ اكتوبر ٢٠٢٥

 عيد سيّدة الوردية يذكّرنا بسلاح روحي ثمين هو المسبحة الوردية
عيد سيّدة الوردية يذكّرنا بسلاح روحي ثمين هو المسبحة الوردية
كتب - محرر الاقباط متحدون
ألقى البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك لبنان عظة بمناسبة عيد سيّدة الورديّة من 
كنيسة سيدة الورديّة – زوق مصبح.
 
"أمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (متى 12: 49-50).
 
1. قبل أن تكون مريم العذراء أمّ يسوع بالجسد، فهي أمّه بالروح، إذ قبلت الكلمة بإيمانها وعقلها وقلبها وعملت بها بإرادتها، حتى تحوّلت الكلمة جنينًا في أحشائها. هكذا نحن عندما نقبل كلمة الله ونعمل بها، تسكن فينا، وتتجلّى في أعمالنا وتصرفاتنا، فنستطيع أن نقول مع بولس الرسول: "أنا حيّ، لا أنا، بل المسيح حيّ فيَّ" (غل 2: 20).
 
 
بهذا المعنى قال الرب يسوع: "إنّ أمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها"   (متى 12: 49-50). وهكذا فيما مريم العذراء أعطت الكلمة جسدًا، فنحن نعطيها جسدنا، فتفكّر بعقولنا، وتقول الحقيقة بألسنتنا، وتحبّ بقلوبنا، وتخدم بأيدينا.
 
2. يسعدني أن أحتفل معكم بعيد سيدة الوردية هنا في زوق مصبح العزيزة، التي خدمتها لمدة 9 سنوات، وهي أولى خدمتي الكهنوتية في رعاياها الأربع: سيدة الوردية، ومار الياس، ومار يوحنا المعمدان نهر الكلب والمسيح الملك، ومار أنطونيوس ومار شربل أدونيس. وفيها أجمل ذكريات حياتي الكهنوتية، مع المرحومَين الأب فيليب الحاج، والأب جورج خليل.
 
اما اليوم، فكبرت الرعية ونمت وما زالت الرهبانية المارونية المريمية مع كهنة ابرشيين يؤمنون خدمة هذه الرعايا مشكورين. ومشكورة الرهبانية على تامين هذه الخدمة.
 
3. يسعدني أن ألتقي بكم جميعًا في هذا القداس المبارك، في هذه الكنيسة العزيزة على قلبي، كنيسة سيدة الوردية. هنا عشت تسع سنوات بينكم، بين أهلكم وأحبائكم، وتعلمت معنى الخدمة الحقيقية ومعنى المشاركة. لذلك، فإن عودتي اليوم ليست فقط زيارة رعوية، بل لقاء عائلي يفيض بالحنين والمودّة وأجمل الذكريات.
 
أحيّي أهالي البلدة الأعزاء وأصدقائي الذين واكبوني منذ البدايات، وأقول لكم من جديد: شكرًا على السنوات التي قضيتها بينكم، سنوات النعمة والعطاء، سنوات غنية بالاختبارات التي شكّلت جزءًا من هويتي الكهنوتية.
 
4. عيد سيّدة الوردية الذي نعيشه يذكّرنا بسلاح روحي ثمين، هو المسبحة الوردية. هذه المسبحة ليست مجرد تكرار صلوات، بل هي مدرسة تأمل في حياة المسيح من خلال عينَي مريم. في كل سر من أسرارها، نغوص في سرّ من أسرار الخلاص، فنعيش كل الإنجيل بالصلاة والتأمل.
 
تاريخ المسبحة مرتبط بالكنيسة التي، عبر القرون، واجهت التحديات والضيقات، لكنها وجدت في صلاة المسبحة حصنًا وسلاحًا، عزاءً وقوة. فالمسبحة هي صلاة الشعب البسيطة، التي تعلّمنا أن نضع يدنا بيد مريم، ونتركها تقودنا إلى يسوع.
 
5. فالعذراء مريم، في ظهوراتها في لورد وفاطيما، طلبت صلاة الورديّة من أجل نهاية الحروب وارتداد الخطأة إلى التوبة، ومن اجل احلال السلام ،وغايات تقويّة أخرى. والقديس البابا يوحنا بولس الثاني، الذي أضاف على أسرار الفرح والحزن والمجد، أسرار النور، لشدّة تأمّله وصلاته المسبحة، صارح الكنيسة في أواخر حياته قائلًا: "إنَّ كل سرّ حياتي مرتبط بتلاوة مسبحة الورديّة. فلم ألتمس شيئًا بتلاوتها إلّا نلته".
 
لقد جعل من المسبحة الوردية قلب حياته وسر قداسته. لقد كان يقول دائمًا: "المسبحة صلاتي المفضلة". فهي بالنسبة إليه لم تكن صلاة إضافية أو تكرارًا مملًا، بل درب تأمل عميق في وجه المسيح مع عيني مريم.
 
لقد رافقته المسبحة منذ شبابه في بولونيا، حيث كان يعيش تحت ظل الحرب والاضطهاد النازي والشيوعي، فكانت سنده وعزاءه. وحين صار كاهنًا ثم أسقفًا ثم بابا، لم يتركها يومًا. كان يحملها في جيبه، ويبدأ نهاره وينهيه بها، حتى إن المقربين منه يؤكدون أنه لم ينم يومًا دون أن يتمّم مسبحته.
 
في حياته الرسولية، كان يصرّ على أن الوردية ليست صلاة لكبار السن وحدهم، بل هي للشباب وللعائلات أيضًا. فقد أراد أن تكون المسبحة مدرسة للتأمل، للتربية الروحية، ولتعميق الإيمان. ولهذا، أضاف عام ٢٠٠٢ "أسرار النور"، لتجعل المسبحة أكثر اكتمالًا، بحيث نتأمل من خلالها حياة المسيح العلنية بين العماد في الأردن والعشاء الأخير.
 
لكن ما يميّز يوحنا بولس الثاني حقًا، هو أن المسبحة لم تكن فقط صلاة بيده، بل كانت سرّ حياته. عندما زار لبنان والتقى الشبيبة سنة ١٩٩٧، وأمام اندفاعهم الكبير ورغبتهم ببقائه معهم، رأى أن أفضل ما يقدمه لهم هو أن يسحب المسبحة من جيبه ويبدأ بتلاوتها. وكأنه يقول لهم: هذه هي وصيتي، هذا هو كنزي، هذا هو سر قوتي وسرّ حياتي.
وحتى في أيامه الأخيرة، وهو على فراش المرض، بقيت المسبحة رفيقته الدائمة. يروي الذين كانوا بجانبه أنه كان يرددها بصوت متقطع، وأنه أسلم روحه وهو يمسك بحباتها. هكذا يمكننا القول إن الوردية كانت محور حياته، سر قداسته، وسلاحه الروحي الذي به واجه المرض والاضطهاد والشيخوخة والموت.
 
واليوم، حين نرفع المسبحة بأيدينا، نحن نرفعها معه ومن بعده، لنكمل هذا الطريق الذي رسمه لنا. إنه مثال حيّ على أن المسبحة ليست صلاة ماضية بل صلاة المستقبل، صلاة الشباب والعائلات والشعوب، صلاة تصنع السلام وتبني الأوطان.
 
6. من قلب هذا العيد المريمي، نتأمل أيضًا في شؤون وطننا. قول يسوع: " إنّ أمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها"(متى 12: 49-50)، يعني أن الأخوّة الحقيقية لا تُبنى على الدم والمصالح أو الطوائف أو الحسابات الضيّقة، بل على القيم المشتركة والعمل الصالح. لبنان يحتاج اليوم إلى هذه الأخوّة الروحية، الأخوّة التي تصنع وحدة، لا التي تعمّق انقسامات.
 
كما أن المسبحة هي سلسلة حبات متنوّعة ومختلفة في الشكل لكنّها مترابطة، هكذا يجب أن يكون لبنان: حبات مختلفة لكن مرتبطة بخيط واحد هو الإيمان بالوطن. وإذا انقطعت الحبة عن الخيط ضاعت، وإذا تفكّكت السلسلة فقدت قيمتها. نحن مدعوون إلى الحفاظ على هذا الترابط بين المواطنين، وإلى حماية التنوّع الذي يغني الوطن بدل أن يهدّده.
 
لبنان بحاجة إلى شباب يسمعون كلمة الله ويعملون بها، إلى مسؤولين يضعون الخدمة فوق المصالح، وإلى مواطنين يعون أن الوطن ليس ورقة تفاوض، بل بيت للجميع. تمامًا كما أن المسبحة تتطلب ثباتًا وصبرًا لتُتلى، كذلك مسيرة بناء الوطن تحتاج إلى صبر وجهد ووفاء.
 
إن ظلّ اللبنانيون متماسكين كسلسلة ورديّة حيّة، يستطيعون أن يقاوموا كل الصعوبات، ويثبتوا في وجه التّحديات.
 
7. أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، نختتم هذا القداس في كنيسة سيدة الوردية، رافعين أنظارنا وقلوبنا نحو العذراء مريم، هي التي عرفت كيف تحفظ الكلمة في قلبها وتعيشها في حياتها. وهي التي علّمتنا ألّا نترك فراغًا يتسلل إليه الشر، بل أن نملأ قلوبنا دائمًا من الله، من الكلمة، ومن الإيمان العامل بالمحبّة.
 
من ذوق مصبح، البلدة العزيزة على قلبي، حيث بدأت أولى خطواتي الكهنوتية، أوجّه لكم من جديد كلمة شكر وامتنان على سنوات الخدمة والمحبة والصلاة التي عشتها معكم وبينكم. أنتم دائمًا جزء من ذاكرتي الكهنوتية وروحي، وأنتم علامة حية على أن الكنيسة تنبض بحياة أبنائها.
 
فلنخرج من هذا اللقاء ونحن نحمل عهدًا جديدًا: أن نبقى متحدين بالله، ومترابطين بعضنا ببعض كسلسلة مسبحة لا تنقطع، وأن نعمل معًا على أن يبقى لبنان وطنًا نقيًا مثل الورد، مزدانًا بالمحبة مثل عقد المسبحة، ومثمرًا بالرجاء مثل قلب مريم.
 
ولتكن العذراء سيدة الوردية، أمنا، وشفيعتنا، ورفيقة دربنا، التي تقودنا دومًا إلى المسيح، النور والحق والحياة. آمين