CET 09:32:49 - 18/11/2009

مقالات مختارة

بقلم : سعد هجرس

 هل نكون أمريكيين أكثر من الأمريكان؟‮!‬ 
لست من المغرمين بـ‮ "‬النموذج الأمريكي‮" ‬أو المبهورين بكل ما هو أمريكي‮. ‬لكن الأمر الغريب هو أن أولئك الذين يتعبدون في محراب‮ "‬ماما أمريكا‮" ‬لا يستوردون لنا من بلاد العم سام إلا ما هو سيئ،‮ ‬بل ربما الأسوأ علي الإطلاق‮. ‬أما الأجمل والأذكي والأرقي في الولايات المتحدة الأمريكية فلا علاقة لهم به من قريب أو بعيد‮. ‬وعلي سبيل المثال نجدهم يعتبرون‮ "‬توافق واشنطن‮" ‬إنجيلهم و"مدرسة شيكاغو‮" ‬محرابهم باعتبارهم منبر النيوليبرالية وأكثر طبعات الرأسمالية توحشا،‮ ‬ويقومون بالترجمة الحرفية لهذه‮ "‬الأصولية الرأسمالية‮" ‬الفجة ويحاولون فرضها علينا وغرسها علي ضفاف النيل وإسباغ‮ ‬هالات‮ "‬الحكمة‮" ‬علي سياسات‮ "‬تقديس‮" ‬عشوائية قوي السوق التي تسفر عنها،‮ ‬وهي السياسات التي كانت أحد أهم أسباب الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت الاقتصاد الأمريكي مؤخراً‮ ‬وجرت الاقتصاد العالمي وراءه إلي نفق الأزمة‮.‬

هؤلاء أنفسهم صمتوا صمت القبور عندما تحدث الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن الحاجة إلي إصلاح نظام الرعاية الصحية في أمريكا،‮ ‬ثم عندما خاض معركة بالغة الضراوة‮ - ‬ولايزال‮ -‬‭ ‬مع شركات التأمين الصحي والقوي الأكثر يمينية في أمريكا‮. ‬وتعالوا نبدأ القصة المسكوت عنها من أولها عندما طرح أوباما هذا الموضوع ووضعه كأولوية متقدمة في برنامجه الانتخابي‮.‬ وقتها قال الكثيرون إنه‮ "‬كلام انتخابات‮" ‬شأنه شأن‮ "‬كلام الليل‮" ‬المدهون بزبدة والذي‮ "‬يسيح‮" ‬بمجرد طلوع النهار،‮ ‬لكن الرجل كان يعني ما يقول،‮ ‬فبعد أن أصبح رئيسا للولايات المتحدة أعاد فتح الملفات رغم التحذيرات والمخاوف قائلا إن‮ "‬وسائل الإعلام تركز معظم اهتمامها علي الأصوات العالية،‮ ‬لكن ما لم نسمعه هو أصوات الملايين من الأمريكيين الذين يكافحون كل يوم مع نظام‮ ‬غالباً‮ ‬ما يعمل لصالح شركات التأمين الصحي أكثر مما يعمل من أجلهم‮".

‬ثم اتضح أن أوباما لم يكن يردد شعارات جوفاء،‮ ‬بل كان يتحدث عن ملايين من البشر،‮ ‬وعن أناس من لحم ودم،‮ ‬قابلهم واستمع إلي معاناتهم وعاش معهم،‮ ‬مثل‮ "‬لوري هيشكوك‮" ‬التي قابلها في نيو هامبشاير،‮ ‬وهي سيدة أمريكية تحاول بدء مشروع خاص تتكسب منه لكن لأنها مصابة بفيروس الكبد‮ "‬سي‮" ‬الذي يعاني منه ملايين المصريين لا يمكنها أن تجد شركة تأمين تغطي رعايتها الصحية‮.‬ ومثل رجل أمريكي فقد التأمين الصحي أثناء تلقيه علاجاً‮ ‬كيميائياً‮ ‬لان شركة التأمين اكتشفت أن لديه حصوات في المرارة،‮ ‬التي لم يكن يعرف عنها شيئا عندما تقدم للحصول علي البوليصة‮. ‬ولأن علاجه تأخر بسبب هذه المناكفات مع الشركة‮..

‬فإن الرجل المسكين مات‮!! ‬وبسبب هذه المعايشة الحميمة للناس‮ "‬العاديين‮" ‬تحرك الرئيس الأمريكي بقوة من أجل تمرير مشروع إصلاح التأمين،‮ ‬ولم يتحرك هذا الهدف معلقاً‮ ‬في الهواء بل حدد له برنامجا زمنياً‮ "‬في العام الحالي‮"‬،‮ ‬فشعارات الإصلاح تصبح بلا قيمة إذا لم تكن مقترنة بجداول زمنية محددة وعاجلة وإذا لم تكن مرتبطة بآليات محددة تضمن تنفيذها‮.‬ لذلك نجد أنه اقترح أربعة طرق توفر مزيداً‮ ‬من الأمان لجميع الأمريكيين‮:‬ أولا‮: ‬إذا لم يكن لديك تأمين صحي سيكون أمامك خيار التمتع بتغطية صحية عالية الجودة معقولة التكلفة لك ولأسرتك،‮ ‬تستمر معك سواء انتقلت من وظيفتك أو‮ ‬غيرتها أو فقدتها‮.‬ ثانيا‮: ‬سيضع الإصلاح تكاليف الرعاية الصحية الهائلة تحت السيطرة‮.‬ ثالثا‮: ‬من خلال تحسين فاعلية برنامج الصحة الفيدرالية‮ "‬ميديكير‮" ‬سيكون هناك ضمان لذهاب مزيد من أموال الضرائب مباشرة لكبار السن بدلا من إثراء شركات التأمين،‮ ‬وستقلل أعمال الاصلاح المقترحة من المبالغ‮ ‬التي يدفعها كبار السن لشراء الأدوية‮.‬ رابعاً‮: ‬سيقدم الإصلاح لكل أمريكي إجراءات حماية للمستهلك الأساسي التي تجعل شركات التأمين مسئولة في النهاية،‮

‬وأوضح أوباما‮ -‬‭ ‬بهذا الصدد‮ -‬‭ ‬أن بحثا قوميا أجري عام‮ ‬2007‭ ‬أظهر أن شركات التأمين تمارس التمييز ضد ما يزيد علي‮ ‬12‭ ‬مليون أمريكي في الأعوام الثلاثة السابقة،‮ ‬لا لشيء إلا لأنهم كانوا يعانون من حالات مرضية أصيبوا بها في أوقات سابقة،‮ ‬وكان تصرف الشركات إما برفض تغطية الشخص أو برفض تغطية مرض أو حالة معينة أو بطلب دفع مقابل مالي أعلي‮. ‬وتعهد أوباما بوضع‮ "‬نهاية لتلك الممارسات‮" ‬حيث‮ "‬سيمنع هذا البرنامج الاصلاحي شركات التأمين من رفض التغطية بسبب التاريخ الطبي للشخص‮. ‬ولن يكون باستطاعتها وضع حد قسري علي قدر التغطية التي يمكن ان يتلقاها الشخص في أي عام أو طول حياته‮.. ‬ولن يفلس أي شخص في أمريكا لأنه أصيب بالمرض‮". ‬والأهم من ذلك ما قاله أوباما عن أنه‮ "‬سيطلب من شركات التأمين تغطية الفحوص الروتينية والرعاية الوقائية والفحوص الدورية،‮ ‬مثل إجراء الأشعة علي الثدي ومنظار القولون‮.

‬فلا يوجد سبب لعدم اكتشافنا لأمراض مثل سرطان الثدي والبروستاتا مبكرا‮. ‬إن ذلك أمر منطقي فهو ينقذ حياة الناس ويمكن أيضا أن يوفر المال‮".‬ أما استمرار الوضع الحالي‮ "‬فمن شأنه أن يفقد‮ ‬14‭ ‬ألف أمريكي تأمينهم الصحي يوميا،‮ ‬وأن تستمر تكاليف التأمين المميز في الارتفاع،‮ ‬وأن تستمر شركات التأمين في التربح بالتمييز بين المرضي‮". ‬وباختصار فإن الإصلاح لنظام الرعاية الصحية الذي يقترحه أوباما يفيد‮ ‬46‭ ‬مليون أمريكي لا يتمتعون بالتأمين الصحي حاليا،‮ ‬ويفيد أيضا الأمريكيين الذين لديهم تأمين ما‮. ‬ومن أجل إقناع الرأي العام الامريكي بهذا البرنامج الاصلاحي طاف أوباما بعدد من الولايات ليتحدث مع المواطنين وجمعيات المجتمع المدني وكل من يعنيه الامر قبل أن يرسل مشروعه إلي الكونجرس‮. ‬وشارك بنفسه في مناظرات ساخنة مع خصومه الجمهوريين واليمينيين الأكثر تطرفا الذين نظموا مظاهرات ومسيرات احتجاجية للاعتراض علي مشروعه بدعم من شركات التأمين الكبري صاحبة المصلحة في إجهاض المشروع‮. ‬لكن هذا لم يوقف النقاش الجاد،‮ ‬والحاد،‮ ‬حتي وصل المشروع إلي مجلس النواب الأسبوع الماضي للتصويت لصالحه بفارق بسيط،‮ ‬بأغلبية‮ ‬220‭ ‬صوتا مقابل‮ ‬215‭ ‬صوتا‮.

‬وستنتقل المعركة إلي مجلس الشيوخ حيث من المتوقع أن يكون الصراع أكثر حدة،‮ ‬وتعقيبا علي ذلك قال أوباما‮: "‬بفضل العمل الجبار لمجلس النواب أصبحنا علي بعد خطوتين فحسب من تحقيق إصلاح التأمين الصحي في أمريكا‮". ‬وهو ما يعتبره المراقبون أكبر تغيير في السياسة الصحية منذ إنشاء برنامج‮ "‬ميديكير‮" ‬للرعاية الصحية للمسنين عام‮ ‬1965‭.‬ هذا يحدث الآن في أمريكا‮.. ‬وقد يسأل سائل‮: ‬ما شأننا نحن في مصر بذلك؟‮! ‬صحيح أن هناك اختلافات كبيرة بين أوضاع قوة عظمي مثل أمريكا وبلد ينتمي إلي العالم الثالث مثل مصر‮..

‬لكن الحديث بإسهاب عن هذا النموذج الأمريكي في الرعاية الصحية حافل بالعديد من الدروس المفيدة لنا،‮ ‬ومن أهمها أن أمريكا هي أكبر بلد رأسمالي في العالم،‮ ‬ومع ذلك فإن هذا لم يمنع رئيسها من مواجهة كبريات الشركات الرأسمالية العاملة في مجال التأمين الصحي،‮ ‬والوقوف في وجه أطماعها لأن صحة الناس مسألة‮ "‬أمن قومي‮" ‬ولان تحسين الرعاية الصحية‮ "‬يشكل خطوة مهمة وضرورية نحو تقوية وتعزيز اقتصاد البلاد‮" ‬بنص تعبير أوباما‮. ‬فهناك دور للدولة لا يمكن التنازل عنه لشركات لا يهمها شيء سوي تكديس الأرباح والمكاسب‮. ‬ونرجو من إخواننا الذين يعكفون علي صياغة مشروع قانون جديد للتأمين الصحي في مصر المحروسة أن يتأملوا أقوال،‮ ‬وأفعال،‮ ‬الرئيس الأمريكي أوباما الذي لا يمكن اتهامه بـ‮ "‬الشمولية‮" ‬أو‮ "‬الانغلاق‮" .. ‬وغير ذلك من الكلاشيهات البالية‮. ‬أم أنهم يريدون أن يكونوا أكثر رأسمالية من رئيس أكبر دولة رأسمالية في العالم؟‮!

نقلا عن : الوفد‬

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع