بقلم: د.عبد الخالق حسين
البقاء للأصلح (survival of the fittest) مقولة خالدة خلدت اسم قائلها الفيلسوف وعالم الاجتماع الإنكليزي هربرت سبنسر، والتي استعارها داروين فيما بعد لنظريته (أصل الأنواع وفق الاختيار الطبيعي). الملاحظ هنا أنه لم يقل البقاء للأقوى أو الأضخم، بل أكد على (الأصلح)، أي الذي يستطيع التكيف مع ما يطرأ من تغيرات على البيئة، فالأحياء في منافسة شرسة فيما بينها على مصادر العيش، والأنواع التي لا تستطيع التكيف تنقرض كما انقرضت الدينصورات وغيرها من الأنواع (species). ونفس المنطق ينطبق على العلوم الاجتماعية و(منها السياسة)، فعبارة (البقاء للأصلح) في علم البيولوجيا تقابلها عبارة (لا يصح إلا الصحيح) في حركة التاريخ، إذ هناك علم في هذا الخصوص باسم (الداروينية الاجتماعية Social Darwinism). ورغم ما يحصل من انتكاسات وتراجعات بين حين وآخر في الخط البياني لمسار التاريخ البشري، إلا إن على العموم، الحضارة البشرية في تطور وتقدم نحو الأفضل على المدى المتوسط والبعيد، أي أن مسار التاريخ هو تقدمي.
في أكثر من مقال ذكرتُ أن الجهات التي ناهضت الشعب العراقي بعد ثورة 14 تموز 1958 المجيدة، بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم، هي نفسها تناهض العراق الديمقراطي اليوم. والمشاكل التي واجهت الزعيم قاسم هي نفسها تقريباً تواجه السيد نوري المالكي. هذه المقاربة والمقارنة أغاضت الكثيرين مع الأسف الشديد، وحتى من الذين ناهضوا الزعيم قاسم في وقته ليستغلوا نزاهته في الطعن بالعراق الجديد لما يواجهه من مشاكل الإرهاب والفساد، وذلك بشخصنة هذه المشاكل وإلقائها على كاهل من وضعته الأقدار في موقع المسؤولية.
لم أقل أن السيد نوري المالكي هو نسخة من الشهيد عبدالكريم قاسم، فلكل إنسان شخصيته وظروفه. ولكن من المؤكد أن القوى الظلامية التي تكالبت على العراق في الداخل والخارج في عهد الزعيم قاسم هي نفسها اليوم تثير له المشاكل، مع الاختلاف في الوسائل وتسمية الاتهامات. فالتهمة في عهد تموز هي هيمنة الشيوعية على السلطة وأن قاسم شيوعي، والعراق صار تابعاً للإتحادي السوفيتي. أما اليوم فالتهمة هي هيمنة الشيعة على السلطة، والمالكي هو مشروع إيراني، والعراق صار مستعمرة إيرانية! وكذلك الجهات المتكالبة هي نفسها، البعث وحلفائه في الداخل، والحكومات الاقليمية مثل السعودية وقطر وتركيا وغيرها في الخارج.
والاختلاف بين العهدين، في عهد تموز كان التدخل عن طريق التآمر والانقلاب العسكري، أما اليوم فعن طريق المفخخات وإرسال الإرهابيين الوهابيين من بهائم القاعدة في حرب الإبادة الطائفية، والعبث بأمن العراق وقتل شعبه وتدمير مؤسساته الاقتصادية، وعرقلة تقدمه، وتنظيم الاعتصامات وإثارة الفتن الطائفية لضرب الوحدة الوطنية.
ومع الأسف الشديد، انخدع البعض وحتى من المحسوبين على اليسار، متلحفين بلباس التقدمية وخاصة من دعاة الماركسية، فتراهم يفسرون النصوص الماركسية حرفياً بنفس طريقة الإسلاميين التكفيريين في التفسير الحرفي للنصوص الدينية. كذلك يحاولون استنساخ التجارب الثورية من بلدان أخرى دون أي اعتبار لاختلاف الظروف الموضوعية. فما قاله ماركس لحل مشاكل القرن التاسع عشر في أوربا يصلح لمشاكل القرن الواحد والعشرين وفي كل زمان ومكان!! وهذا في رأيي أحد أهم أسباب تراجع اليسار وانحساره في العراق والمنطقة العربية. فالصراع الطبقي ليس السبب الوحيد في حركة التاريخ، بل هناك عوامل أخرى مثل الصراعات العنصرية والدينية والطائفية وغيرها.
إن مهمة اليسار في العراق اليوم هي النضال من أجل العدالة الاجتماعية، وحماية ما تحقق من مكتسبات ديمقراطية وتطويرها، ومعالجة المشاكل التي تعرقل مسيرته نحو الأفضل. ولكن كالعادة، واصل هذا اليسار نفس النهج القديم الذي مارسه في العهد الملكي، أبلسة السلطة وإظهارها بالشر المطلق، أي نفس النهج الذي تمارسه فلول البعث والقاعدة اليوم في تخوين وتكفير الخصم لتبرير إبادته. فالمفروض بالقوى السياسية التقدمية مواجهة النواقص والخلل بالنقد البناء وتشخيص المشاكل ومعالجتها، بينما الذي يجري هو ترديد ونشر نفس الاتهامات التي تصنع في مختبرات البعثيين والطائفيين. وحلهم الوحيد لمعالجة المشاكل المتفاقمة والمتراكمة عبر قورن هو إسقاط النظام القائم ودون أن يكون لديهم البديل المعقول. فبالنسبة للبعثيين وحلفائهم هو عودة البعث للسلطة!
يحاول هؤلاء عرقلة مسيرة العراق الجديد بأية وسيلة كانت ومها كلف الأمر، فما أن تحصل انتفاضة في أي بلد عربي حتى وراحوا يدعون الشعب العراقي بتقليدها والقيام بمثلها. فعندما حصلت انتفاضة الشعب المصري في 25 يناير 2011، التي أطاحت بحكم حسني مبارك، قاموا بتنظيم مظاهرات في ساحة التحرير في بغداد ومدن عراقية أخرى واختاروا يوم 25 شباط 2011، تقليداً لرقم 25 يناير للانتفاضة المصرية، وأما شباط، فكان لرد الاعتبار لشهر شباط الأسود وما يمثله من ذكريات مؤلمة للشعب العراقي إثر انقلاب الفاشيست عام 1963. طبعاً فشلوا، ولكن المهزلة أنه بعد أشهر، كتب أحد كتاب صحيفة (المدى) المعارضة، تمجيداً لتظاهرة 25 شباط 2011 فأطلق عليها صفة الانتفاضة الشعبية، وأن التاريخ سيذكرها في المستقبل كواحدة من ملاحم شعبنا الكبرى مثل ثورة العشرين!! (كذا)! وهي في الحقيقة لم تكن أكثر من عاصفة في فنجان نظمها البعثيون وأتباع القاعدة الذين نظموا فيما بعد الاعتصامات في المنطقة الغربية، وما دور اليسارويين إلا تابعين حيث ركبوا الموجة بحجة أنهم دائماً مع الجماهير!!.
وبعد انتفاضة الشعب المصري الثانية يوم 30 يونيو(حزيران) 2013 التي أطاحت بحكم محمد مرسي، تحركت شهية هؤلاء ثانية،لإعادة نفس التجربة الفاشلة، فراحوا يدعون شعبنا بالاقتداء بالشعب المصري والقيام بانتفاضة مماثلة للإطاحة بنوري المالكي!!
نسي هؤلاء أن لكل شعب ظروفه الموضوعية الخاصة ومبرراته المشروعة. فالثورات لا تقوم بإصدار فرمانات من أحد، بل هي نتاج ظروف موضوعية وتاريخية، لا يمكن أن يكتب لها النجاح ما لم تكتمل لها شروط نجاحها. فالربيع العراقي سبق الربيع العربي بـ 21 عاماً عندما هب الشعب بانتفاضته الكبرى في شهر آذار (شعبان) 1991، يوم سيطر الثوار على 14 محافظة من مجموع 18، ولولا تدخل السعودية، ولأسباب طائفية، في إقناع الرئيس الأمريكي بوش الأب في التخلي عنها، لسقط النظام البعثي منذ ذلك الوقت، ولما احتاج بوش الابن إلى حرب دولية أخرى لاسقاطه عام 2003. والجدير بالذكر أن نفس المحافظات التي عارضت الانتفاضة على صدام عام 1991 وقفت ضد تحرير العراق عام 2003، وهي نفسها التي وفرت المأوى لفلول البعث والقاعدة، والذين ينظمون فيها الآن الاعتصامات ضد النظام الديمقراطي بحجة التهميش و"تحرير العراق" من هيمنة الشيعة الصفوية وإيران المجوسية!!.
ينكر هؤلاء أن ما تريده الجماهير المصرية اليوم قد تحقق في العراق قبل عشر سنوات، فلأول مرة في التاريخ يمارس العراقيون ديمقراطية حقيقية، ليس عبر صناديق الاقتراع فحسب، بل وجميع الحقوق التي هي من صلب الديمقراطية. الاستنساخ الببغاوي يقود إلى كوارث، إذ تقول الحكمة: "التقليد هو تحية الأغبياء للأذكياء".
نصحنا مراراً أنه إذا كان غرض هؤلاء السادة من الدعوات للانتفاضة والحملات الاعلامية المضللة، وبث الإشاعات السامة هو إسقاط المالكي (وغيره من السياسيين)، فيمكن تحقيق ذلك ديمقراطياً وذلك بسحب الثقة منه ومن حكومته تحت قبة البرلمان. ولكن يبدو أنهم لم يجدوا على المالكي وفريقه مخالفات دستورية لإثارة غضب غالبية الشعب عليه، لذلك لجئوا إلى اختلاق الأكاذيب ونشر الإشاعات. نحن لا نريد الدفاع عن المالكي وغيره من السياسيين، إذ هناك فساد وإرهاب، ولكن لا يمكن معالجة هذه الأمراض بالإشاعات المسمومة والهدم والحملات التسقيطية، بل بالنقد الإيجابي البناء والمساهمة في إصلاح الوضع.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا بقى المالكي على رأس السلطة التنفيذية لحد الآن رغم المعارضة الشرسة ضده، بينما معارضوه في تراجع وانحسار؟
في يوم 18/6/2013 ظهر أياد علاوي في برنامج (Hard talk) لبي بي سي، وكانت تلك الحلقة من تقديم الإعلامية القديرة سارة مونتكيو. فسألته عن سبب توتر العلاقة بينه وبين المالكي، فقال: أن المالكي دكتاتور ومدعوم من إيران. ولما سألته عن سبب فشله في كسب الكتل السياسية مثل الكتلة الكردستانية لتشكيل الحكومة برئاسته بينما نجح المالكي في ذلك؟ فردد نفس الحجة: "تدخل إيران!". وراح يلقي على إيران فشله في كل مجال. فسألته: إذا كان المالكي دكتاتوراً ومدعوماً من إيران، فلماذا شاركتَ في حكومته؟ فأجاب: "أن كتلته اسحبت من حكومة المالكي". فردت عليه: "ولكن ثلاثة من وزراء كتلتك مازالوا في الحكومة؟". فقال أنه فصلهم ولم يعودوا أعضاء في كتلته. ومن هنا جاءت الضربة القاضية إذ ردت عليه قائلة: "إذنْ، أنت فقدتَ السيطرة على كتلتك، وحتى وزرائك لم يطيعوك، وفي جميع الأحوال تلقي اللوم على المالكي وإيران؟".
حقاً كان موقفاً بائساً ومحرجاً لعلاوي كشف فيه ضعفه إلى حد أني لأول مرة شعرت بالشفقة عليه. السبب الحقيقي الذي ينكره علاوي لفشله هو أنه لا يختلف عن صدام حسين، واستخدامه أساليب بعثية في زمن غير بعثي. والكتل السياسية الأخرى وغالبية الشعب يعرفون أنه لو كان قد نجح في تشكيل الحكومة برئاسته لأعاد البعثيين إلى السلطة وتحت أسماء أخرى وبلباس ديمقراطي زائف.
إن سبب بقاء المالكي صامداً في وجه الأعاصير رغم كل المحاولات الداخلية والخارجية للإطاحة به هو لأنه يقف إلى الجانب الصحيح من حركة التاريخ، بينما خصومه في تراجع وانحسار لأنهم يقفون في الجانب الخطأ من التاريخ. فنحن نعيش في قرن الحادي والعشرين، قرن الديمقراطية وانتصار الشعوب. ولذلك راح أعداء الديمقراطية وأعداء المالكي يسقطون الواحد تلو الآخر في الداخل والخارج. فها هو خصمه اللدود أياد علاوي تفككت كتلته وتخلى عنه حتى وزراءه وانضموا إلى حكومة المالكي. وقادة الاعتصامات يبحثون الآن عن مخرج يحفظ لهم ماء الوجه بعد أن سقط ممولوهم.
أما أعداءه في الخارج، فهاهو بشار الأسد الذي كان يرسل الإرهابيين إلى العراق انقلبوا عليه وهو في محنة، أما أردوغان الذي كان يدعم ويثير الفتن الطائفية ويأوي قادة الإرهابيين مثل طارق الهاشمي وعدنان الدليمي، وينظم لهم المؤتمرات للإطاحة بحكومة المالكي، يواجه اليوم انتفاضة شعبية في بلاده يمكن أن تسقطه، وأما الشيخ حمد بن خليفة، أمير قطر، فقد أزيح عن الحكم وصار في خبر كان، ومفتي الإرهاب، القرضاوي طرد تلاحقه لعنات ذوي الشهداء، ومحمد مرسي الذي كان أحد مثيري الفتن الطائفية سقط إلى غير رجعة.
ومقابل سقوط هؤلاء، بقي المالكي صامداً يواصل عمله بهدوء وحكمة وصبر جميل مع السياسيين المخلصين في حل الملفات العالقة، والمشاكل المتراكمة، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية.
دروس وعبر
ومن كل ما تقدم، نستنتج عدة دروس جديرة بالاعتبار إذا تبناها من يهمهم الأمر من سياسيين وكتاب، وفرنا على شعبنا الكثير من الآلام والخسائر في الجهد والوقت، وعجلنا في بناء دولته العصرية الديمقراطية التي نحلم بها. على المثقفين أن يتخذوا موقفاً تقدمياً منسجماً مع حركة التاريخ. فالتقدمية ليست ادعاءات وشعارات براقة، والتمسك الأعمى بأيديولوجيات انتهى مفعولها، بل القدرة على فهم المرحلة التاريخية التي نعيش فيها، والتجاوب الصحيح مع متطلباتها. وأخيراً، نعيد ما قلناه في مقالنا السابق: أن كل ما بني على باطل فهو باطل، وفي نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع