الدين ضرورة من ضروريات الاجتماع الإنسانى منذ عرفت البشرية المجتمعات الإنسانية قبل فجر التاريخ، وندر إن وجد مجتمع من غير دين.
الدين هو الملجأ، الذى يلجأ إليه الإنسان فى أزماته ومحنه، ومَنْ من الآدميين لم يمر بمحن وأزمات تهد الكيان أحياناً لولا أن يعتصم الإنسان بعاصم الدين.
وقد نشأت فى أسرة متدينة، وحفظت القرآن وأنا صغير، ويندر أن يوجد ركن فى منزلى لا ينيره القرآن الكريم.
ولكن كل هذا شىء، والعلاقة بين الدين والسياسة شىء آخر.
الدين يقوم على اليقين، واليقين عندما يستقر فى النفس البشرية والعقل الإنسانى لا يزعزعه مزعزع.
لكن السياسة التى تعنى فى جوهرها كيفية حكم المجتمعات الإنسانية تقوم أساساً لتحقيق مصالح هذه المجتمعات، والمصالح الاجتماعية خاصة ما تعلق منها بالسياسة متغيرة من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان.
وفى ظل المسيحية فى العصور الوسطى كان هناك خلط بين الكنيسة والدولة، وكان الأباطرة والملوك يكتسبون شرعيتهم من مباركة الكنيسة لهم.
وليس ذلك هو الحال فى الإسلام منذ بدأت رسالة محمد بن عبدالله عليه صلوات الله.
وخير مقال على ذلك ما يعرف بوثيقة المدينة، التى وضعت بعد الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، والتى آخى فيها الرسول بين سكان المدينة أجمعين من كل الأديان: الإسلام والمسيحية واليهودية، بل حتى أهل عبادة الأوثان، الكل مواطنون فى مواجهة الدولة الجديدة، وهذا يعنى أنها دولة مدنية بامتياز، وكل محاولة لإسباغ الصبغة الدينية عليها هى محاولة غير علمية.
ولست أنا الذى أقول ذلك، أو بالأدق لست أول من قال بذلك، وسيرة الرسول وأقواله وأحاديثه تعبر عن ذلك بوضوح.
ووثيقة المدينة التى أشرت إليها حالاً هى تعبير عن الدولة المدنية، وقد يحق لى هنا أن أشير إلى الأستاذ الإمام الحجة محمد عبده فى كتابه الشهير «الإسلام بين العلم والمدنية»، وفى هذا الكتاب يقول الإمام إن الإسلام يقوم على أصلين: أولاً الدعوة إلى الاعتقاد بوجود الله.
والأصل الثانى هو أن محمد رسول من عند الله، هذان هما الأصلان وسواهما فروع، ويضيف الإمام وهذان الأصلان يقومان على الدليل العقلى والفكر العلمى الإنسانى.
وقد يجوز لى هنا أيضاً أن أشير إلى كتاب العالم الفاضل الأستاذ الدكتور عبدالمعطى بيومى، عميد كلية أصول الدين فى جامعة الأزهر، عضو هيئة كبار العلماء رحمه الله، هذا الكتاب بعنوان «الإسلام والدولة المدنية»، ويقوم الكتاب من أوله إلى آخره على أنه لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة.
يهمنى الآن التجربة المصرية بحسبان أن مصر هى الدولة المحورية فى المنطقة، وهى التى يمتد تأثيرها إلى إقليمها كله.
ما الذى جاءت به هذه التجربة إلى مصر؟
أكبر حسنات هذه التجربة أنها جعلت المصريين جميعاً المسلمين قبل المسيحيين يكشفون هذه الجماعة وزيف ادعاءاتها فى مدى يقل عن ستة أشهر من بداية حكمهم.
وفى هذا خير كبير، لأن هذا لو لم يحدث لظل هاجس أن مجىء الإخوان المسلمين قد يصلح الأحوال، الآن انتهى هذا الأمر على نحو قطعى.
نعم هناك قلة مضللة، ولكن الكثرة الغالبة من الشعب المصرى أظهرت فى ثورتها الأولى فى ٢٥ يناير وفى ثورتها الكاسحة فى ٣٠ يونيو الماضى أن ملايين هذا الشعب - قيل إن عددها بلغ ستة وثلاثين مليون مواطن مصرى - أعلنت بوضوح رفضها هذا الحكم الفاشى المتخلف وغير العقلانى.
لكن يبقى التساؤل الجوهرى الآن: ما العمل؟ ما خريطة الطريق؟
الإجابة ليست بسيطة ولا سهلة، ولكن يمكن إيجازها فى عدة أمور جوهرية:
إذا كان التخلف العقلى هو الجناية الكبرى التى جناها النظام السابق على الشعب المصرى، فإن رد الفعل الطبيعى لابد أن يكون إطلاق كتائب التنوير فى كل مكان ممكن، الجامعات - خاصة الدراسات العليا - يجب أن تكون منارات للعقل العلمى وليست مجرد مدرجات لحشو المعلومات، كما هو حادث الآن فى الأغلب الأعم.
لقد كانت مكتبة الإسكندرية، على مدار قرون من قبل الميلاد وحتى فترة حكم الرئيس المتنحى حسنى مبارك، منارة معرفية رائعة شاركنا نحن جموع المثقفين فيها جابر عصفور وصلاح فضل وغيرهما كثير ساهموا فى هذه المنارة، لماذا أطفئ نورها.
القنوات الفضائية يمكن أيضاً أن تكون منابر تنويرية، أو أن تكون العكس، وللحقيقة أشهد أننى أتابع قناة النيل للأخبار من القنوات الرسمية، وأقدر ما تبذله من جهد إعلامى وموضوعى، وليست قناة النيل وحدها، وإنما هى مثل ما أشاهده أغلب هذه الأيام.
الذى أريد أن أقوله إن العقل المصرى خلال ما يقرب من أربعة عقود ماضية عاش مرحلة من البلاهة العقلية، ولابد أن يستفيق من التخلف الرهيب ليلحق بركب الفكر العلمى المستنير، ولدينا كثير من دعاته ورعاته ومؤيديه، لكنهم عطلوا ووئدوا فى الأيام الماضية، وأصبح بعثهم ونشرهم واجباً قومياً.
وإذا جاز لى أن أذكر شيئاً آخر غير الاستنارة والتفكير العلمى فإنى أقول الإدارة العلمية ثم الإدارية العلمية ثم الإدارة العلمية.
هذه هى القواعد التى يقوم عليها بنيان الدولة الحديثة.
وتبقى الديمقراطية هى صمام الأمان لتحقيق كل هذه الآمال.
والله المستعان.
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع