اسمها فاليري جاريت، وهو اسم لم يتردد كثيرا ، وقليلون هم الذين سمعوا به حتى في واشنطن. إنها امرأة سوداء وهي أقوى ثاني شخص في إدارة الرئيس الأميركي الحالية. فمن أين تستمد هذه المرأة السوداء المغمورة نفوذها؟ في الاجتماعات الرسمية يدلي كل شخص من المجتمعين بما عنده، لكن فاليري جاريت هي آخر من يهمس في أذن الرئيس بعد انفضاض الاجتماع.
كل الآخرين يرون الرئيس في قاعة الاجتماعات ما عدا جاريت التي تزوره في بيته. هي التي أقنعت أوباما، كما يقال، بتعيين سوزان رايس مندوبة أميركا السابقة لدى الأمم المتحدة، مستشارته للأمن القومي لتقعد في المكان الذي احتلته في عهد سلفه جورج دبليو بوش امرأة سوداء أخرى هي كوندوليزا رايس. هو، كما يبدو، اتجاه لجعل النساء السود من آل رايس مؤتمنات على الأمن القومي الأميركي! وفوق ذلك، يعتبر أوباما أن فاليري جاريت ومستشارته سوزان رايس مثل شقيقتيه.
جاريت هي التي نصحته بالانسحاب من العراق ضد نصيحة المؤسسة العسكرية له بالتريث.
وغني عن القول بأن هذه السيدة التي تتمتع بثقة أوباما ويعطيها أطول مدة ممكنة من وقته للاستماع اليها، مجهولة ًتماماً من معظم المسؤولين العرب الذين يزورون واشنطن، وهم لا يبذلون أي جهد للقائها اجتماعيا. وهذا بحد ذاته ينبىء بضآلة ما يعرفه المسؤولون العرب عن الولايات المتحدة، وعن سبل الوصول الى مراكز النفوذ فيها. فالمرة الوحيدة التي تحدثت فيها جاريت عن مناسبة عربية كانت عندما ألقت خطابا في المعهد العربي الأميركي الذي يديره في واشنطن جايمس زغبي، بينما يعرفها الإسرائيليون جيداً ويتواصلون معها طوال الوقت. ذلك أن جاريت هي الشخص الذي يرى الرئيس أكثر من أي شخص آخر في البيت الأبيض.
فهي تضع أوباما والمصلحة القومية الأميركية فوق كل اعتبار. وكون أن العرب والمسؤولين العرب لا يفهمون دورها، ولا يعرفونها جيداً، ولا يتواصلون معها، يظهر كيف أن العالم العربي يعاني من جهل استراتيجي في السياسة الأميركية، والسياسة الخارجية، والديبلوماسية، ودور الإعلام والعلاقات العامة. والصدمة الكبرى هي أن العالم العربي يفتقر الى خبرة حقيقية في محركات السياسة الأميركية ومؤسساتها، وخصوصا في الكونغرس.
فالعرب الناشطون في واشنطن يتحركون على المسرح الاجتماعي فحسب، وليس لهم أي أثر أو نفوذ في المجال السياسي. وفي المقابل فإن الروس، والألمان، والإنكليز، والفرنسيين، والصينيين، والإسرائيليين قبلهم جميعاً، لديهم خبراء كثيرون ومراكز بحوث عديدة متخصصة بالعمق في الشأن الأميركي، وهم يعملون ليل نهار على استكشاف أميركا وسياستها الخارجية. أما العالم العربي فإنه يعتمد على بحوث من الدرجة الثالثة يقدمها أناس لا يعرفون أميركا حق المعرفة. فالإنسان العربي الوحيد الذي يعرف أميركا حق المعرفة هو المفكر الفلسطيني الدكتور وليد الخالدي، وقبله كان المعلم الراحل حسيب الصباغ الذي عرف من يخاطب من الاميركيين من ذوي التآثير.
لقد ظهرت في الآونة الأخيرة خلاصة عن دور فاليري جاريت في مقالة كتبتها الصحافية البارزة سايدي دويل، فيما يلي أبرز ما جاء فيها عن أهمية دور تلك المرأة من خلال علاقتها الوثيقة مع الرئيس أوباما: --- يمكن القول ان فاليري جاريت هي ثاني أقوى شخص في واشنطن. وليس سرا كيف وصلت الى هذه المرتبة: هي من قادة المجتمع المدني في شيكاغو، وناصرت باراك أوباما منذ أن التقته لأول مرة في عام 1991. وهي التي قدمته الى شبكتها المهنية، وقدمت له المشورة حول الخيارات الممكنة في مسيرته. وعندما خاض معركته الانتخابية الناجحة في انتخابات مجلس الشيوخ الأميركي يوم كان عضواً ًفي مجلس شيوخ ولاية إيلينوي، ثم في معركة الرئاسة، بذلت أقصى ما لديها من جهد وخبرات لإقناع كل من يستمع اليها بأن أوباما جدير بالدعم، حتى في صفوف عتاة المتحفظين على ترشحه.
وهذا ما جعل أوباما يركن الى آرائها السياسية ونظرتها الى الأمور، بحيث قال عنها: «إنني أثق بها ثقة تامة». --- إن جاريت، بحكم توجهاتها السياسية، وبحكم هويتها، ولمجرد وجودها في البيت الأبيض، كان مقدراً لها أن تكون أكثر من مجرد مستشار عادي. فهي دائما في دور الصارية الممتصة للصواعق في الصراع الدائر داخل الحزب الديموقراطي بين الوسطيين والتقدميين. وفي هذا الخصوص، بين فكرة مبسطة غامضة التعريف للتقدمية على أنها «الناس الصغار» في مقابل «القطط السمان»، وبين فهم متدرج الفروق للقضايا العرقية، والطبقية، وقضايا المرأة والرجل، والقضايا المتصلة بالعلاقات الجنسية، باعتبارها عوامل متقاطعة في كيفية تكوين السلطة والمشاركة فيها. --- إن دور فاليري جاريت في الدعم المبكر للرئيس أوباما أمر معروف.
فقد التقته لأول مرة في عام 1991 عندما قامت بتوكيل خطيبته المحامية ميشال روبينسون لقضية تتعلق ببلدية شيكاغو. وفي غضون ذلك تكوّن لديها انطباع حسن عنهما معاً، بحيث أن جاريت حرصت على نقل انطباعها هذا الى أشخاص معنيين، فأقامت صلة وصل بين أوباما ومؤيديه الأوائل.
--- لّما كانت لجاريت صلات سياسية من الداخل وعلاقات عمل واسعة مع رجال الأعمال، فقد أفلحت في تقديم أوباما الى بعض كبار المتبرعين بالمال لحملاته السياسية. وعندما سعى الى حمل الحزب الديموقراطي الى ترشيحه للرئاسة، وقعت عليها المهمة الصعبة لجمع الأموال الكبيرة، خصوصاً من «وول ستريت» شارع المال في نيويورك، فور فوزه على منافسته هيلاري كلينتون ومؤيديها. وفور انتخابه رئيساً رجاها أن تنتقل معه الى واشنطن. --- إنه من غير الإجحاف القول ان جاريت أصبحت صديقاً لصيقاً ووثيقاً بأوباما وعائلته، أو التنويه بأن كلاً منهما يهمه أمر الآخر. بل إن جاريت نفسها قالت إنها تحب عائلته، والرئيس أوباما قال عنها إنها له «مثل ابنته الصغيرة».
لكن التغطية الصحافية الرئيسية أخذت العبارة المتحفظة نسبيا «ابنتي الصغيرة» وغزلت عليه توريات و«تنقيرات» لا حصر لها، مشتقة منها عبارات مثل «الأم الحنون»، أو «العرابة السخية»، أو «الشقيقة الحامية»، أو التعبير الملطّف «العمة» أو «الخالة». وبلغ ذلك ذروته في التحقيق الذي قامت به مجلة «فوغ» عام 2008 بقلم جوناثان فان ميتر الذي شبّه علاقة جاريت مع أوباما وزوجته بأنها «علاقة زوجية»، حيث قال: «إنها بالفعل متزوجة إن لم يكن منهما شخصيا، فمن قضيتهما». ومن الشيّق الاستماع اليها وهي تتحدث عن مقدار حبها لهما، حديثاً شجناً ومحرجاً بعض الشيء: إنه ذلك المزيج من المشاعر الذي ينتاب المرء وهو يصغي الى صديق حميم يتحدث متيّماً عن ولهه برفيق روحه! --- لتبديد الالتباس والخوف الذي يكتنف جاريت، لا بد من النظر في أي النواحي من هويتها هي موضع ردود الفعل.
إنها امرأة سوداء، وهذا يقدم تصوراً إلزامياً حول مسألة «اللون» في صفوف كبار موظفي البيت الأبيض، وهم ما زالوا في غالبيتهم من «البيض». وفوق ذلك، هي مولودة في إيران حيث عمل والداها لفترة من الزمن في مدينة شيراز، بينما جدها الأكبر كان يهوديا.
إن هذه الخلفية الشخصية أخذت منحى طاحناً داخل مطاحن اليمين الأميركي الميّال الى الأخذ بنظرية المؤامرة. وحتى في وقت مًبكر من عام 2008، نشرت صحيفة «ذي أميريكان سباكتايتور»، في تعليقها بعنوان «المتربِص»، وصفا لها بأنها «المستشار الغامض الذي تفضل حملة أوباما أن لا تعرف عنه شيئا». ومنذ ذلك الحين أصبحت الأحاديث التي تتناولها بمثابة «فانتازيا حفلة الشاي»: المرأة السوداء بصورة الغريب الأجنبي الأبدي، المعادي لأميركا، المعادي للرجل الأبيض، المعادي للمسيحية، المسلم السرّي، والحليف في أوقات الفراغ لعشيرة يهودية. ومن التغريدات النابية على الإنترنت واحدة تعود بالمسألة الى عام 1979 عندما كتب والد زوجها السابق الصحافي الراحل فيرنون جاريت مقالاً عن تمويل دول في الشرق الأوسط لطلاب سود في الكليات الأميركية.
والاستنتاج من ذلك أن الدراسة الجامعية لكل من جاريت وأوباما قد تم تمويلها بالكامل بمال إسلامي كجزء من مؤامرة شرق أوسطية لاستخدام كل شخص أسود في أميركا من أجل إقامة دولة فلسطينية. ويتخذ هذا القائل بنظرية المؤامرة دليلاً على ذلك توصيف ليون تروتسكي للثورة البروليتارية ليقول: «إذا وضعنا كلمة الإسلام بدلا من الثورة البروليتارية تأتيك الصورة بأوضح ما يكون»! قطعاً، ولمَ لا؟ الحقيقة هي أنك إذا أبدلت كلمة «التنانين» بكلمة «فاليري جاريت»، فقد تصبح هذه المقالة برمتها الدفعة الجديدة المنتظرة من «لعبة العروش». --- من جهة ثانية ليس هناك دفاع جيد عن جاريت، كامرأة أولا، ثم كامرأة تقدمية، وكامرأة في موقع داخل السلطة يحسدها عليه كثيرون من الديموقراطيين داخل البيت الأبيض وخارجه. كما أن الاتهامات البشعة التي تساق ضدها من قبل اليمين باتت متمادية ويسمح لها بالتسرب والتغلغل الى الحديث العام من غير عائق أو اعتراض. --- هناك معضلة تناقض في سمعة جاريت: نصف التلطيخات وعبارات التشهير التي تتناولها تطلق للتقليل من شأنها بتصويرها على أنها الأم الحانية العديمة الكفاءة المفتقرة الى المهنية التي وجدت من يدعوها الى البيت الأبيض لمجرد أن تمسك بيد الرئيس.
أما النصف الآخر فإنه مخصص لتصويرها على أنها شخصية مهيمنة، تتمتع بسطوة شريرة. فإذا علمت أن إحدى التهمتين تساق في معرض التهمة الأخرى ينتج من ذلك منطق مدّوخ: إنها غير مؤهلة على الإطلاق لأي عمل سياسي، ومع ذلك فإنها تدير البيت الأبيض بقبضة حديدية. هي مجرد صديقة دلوعة تملأ علب الهدايا، لكنها في الواقع القوة الفاعلة وراء العرش. ومع أنه من الصعب الحصول على أدلة قاطعة حول تأثير جاريت في قرارات السياسة العامة، إلا أن بعض العارفين بما يدور وراء الستار في البيت الأبيض لديهم ما يقولون في هذا الشأن. فقد قال لنا صديق رفض أن نذكر اسمه إن جاريت كانت فاعلة في حمل أوباما على دعم «قانون ليلي ليدباتر» الذي كفل للنساء حماية الأجر العادل. كذلك أقنعته بإدخال إصلاحات على قوانين الهجرة وجعلها من الأولويات، ووقفت الى جانبه في صراعه مع المؤسسة العسكرية حول الانسحاب من العراق. --- لقد شهدت انتخابات عام 2012 تحولاً بدرجة غير مسبوقة نحو معالجة قضايا الخيار التناسلي وكيفية بلوغه. وقد شجعت جاريت الرئيس على مواجهة القضية مواجهة مباشرة.
ومن القضايا التي يعود لها الفضل فيها لجهة الخيارات السياسية المتاحة، قضية الزامية التأمين لتغطية تحديد النسل، وهي قضية تبناها أوباما في وجه معارضة شديدة من قبل الكنيسة الكاثوليكية واليمين المعارض. كان ذلك صراعاً سياسياً مشهوداً داخل البيت الأبيض بين جاريت واثنين من أبرز الشخصيات الكاثوليكية هما نائب الرئيس جو بايدن، ورئيس هيئة موظفي البيت الأبيض آنذاك بيل دايلي. ومن ذلك يمكننا أن نرى كيف تعتبر بعض الشلل السياسية عملها هذا بأنه قليل الأهمية من حيث العدالة العرقية والجنسية، بل أقل أهمية من من دورها في تنظيم حفلات المكتب.
أو حتى في هذا هناك من يرى أنها لا يجوز أن يكون لها مثل هذا القدر الضئيل من النفوذ! إن ما تمثله فاليري جاريت هو صورة المستقبل ، والى أين يتجه الحزب الديموقراطي ومعه الأمة الأميركية، سواء أرادت ذلك أم لم ترد، حيث من الصعب أن نتصور أحداً يتطوع لمثل هذا الموقع. وهذا بحد ذاته يمنحها قوة هائلة. أما الذين يتوخون قياد الحزب بعيداً عن مستقبل تقدمي، فإنهم لن يعدموا سبباً لإظهار امرأة تقدمية تتمتع بهذا القدر من السلطة على أنها مجرد فتاة غاوية حاولت أن تلعب مع رجال حقيقيين فلم يعد يحملها رأسها! الدكتور عودة أبو ردينة ، مقيم في واشنطن وهو أميركي من اصل عربي متخصص في شؤون الشرق الاوسط ، وسياسات دوله، وله مساهمات كتابية في مجالات الطاقة والنفط والغاز، إضافة إلى معالجات اقتصادية ومالية ومصرفية. وهذا المقال تنشره " إيلاف" باتفاق خاص مع " الديبلوماسي" التقرير الشهري الذي يصدره من لندن الصحافي اللبناني ريمون عطاالله - عدد ايلول/سبتمبر ٢٠١٣ - المجلد ١٧
إيلاف