الأحد ١٥ سبتمبر ٢٠١٣ -
٣٣:
١٠ ص +02:00 EET
بقلم: شمعى أسعد
كان العام 1517 م عاما محوريا فى تاريخ مصر، حين دخل سليم الأول إلى مصر غازيا محتلا، لتصبح مصر بعدها -ولمدة ثلاثة قرون من الجهل والضعف والتخلف- أسيرة الحكم العثمانى. كانت فترة الولاية التركية على مصر نموذجا خالصا للفشل الإدارى، ويمكن اختصار ما حدث لمصرعلى مدار تلك القرون فى كلمتين فقط «تجريف حضارى»؛ بسبب النظام السياسى الفاشل الذى حكم به الأتراك مصر -فعلها مبارك فى ثلاثة عقود فقط -، حيث كان كل همهم هو جمع المال من مصر، وإرساله للباب العالى فى الآستانة، وابتدعوا لذلك أنظمة غريبة لجباية الضرائب مثل نظام «الالتزام»، حيث يكون لكل "ملتزم" عدد من القرى أو الأقاليم؛ يقوم بجمع الضرائب منها مقابل أن تمنحه الحكومة بعض الأطيان تسمى «الوسية»، حيث يجبَر الفلاحين على زراعتها والعمل بها بنظام السخرة أى بدون أجر، وبمرور الوقت، وفى غياب أى محاولة لإصلاح الأراضى أو حفر الترع بها، هجر الفلاحون قراهم، وتدهور الريف المصرى، ولم يكن "الملتزم" يعمل وحده، بل كان جزءًا من نظام إدارى فاسد توغل فى الجسد المصرى يعاونه فى ذلك فلول المماليك إن صح التعبير، ليصدق فيهم قول نابليون «إن مصر بلد إذا أحسنت الإدارة فيه أكل العامر الصحراء، وإذا فسدت الإدارة فيه، أكلت الصحراء الأرض العامرة»
ثم جاء العام 1805 م الذى كان من أكثر الأعوام إشراقــًا فى تاريخ مصر الحديث، ليضع نهاية لثلاثة قرون عجاف، حيث تولى محمد على حكم مصر؛ بتأييد وطلب من الشعب نفسه بزعامة الشيخ عمر مكرم والمعلم جرجس الجوهرى، حدث ذلك بعد ثورة رائعة قام بها الشعب المصرى ضد الوالى السابق، أجبر المصريون فيها الحكومة التركية على عزل خورشيد باشا وتعيين محمد على مكانه، ولم يعجب هذا تركيا ـ وإن أجبِرت عليه تحت الضغط الثورى ـ فكيف تضمن ولاء الوالى الجديد الذى جاء به المصريون، فضلا عن كسر التقليد العثمانى الذى يقضى بأن يعيَّن والى مصر دائما من قبل الآستانة
وكان المشهد كالتالى: والٍ جديد أتى بإرادة شعبية غير مرغوب فيه من الحاكم التركى، خورشيد باشا -المعزول- معتصمًا فى القلعة مقتنعـًا أنه الوالى الشرعى للبلاد، إنجلترا تساند المماليك وتمدهم بالمعونة وتطمئنهم أنها لا تتخلى عن رجالها، وتحاول أن تدفع بمحمد بك الألفى خلفا للمعزول، المماليك أنفسهم كانوا يستعدون لمحاربة الوالى الجديد، وفوق ذلك كله ترسل تركيا أسطولا حربيا إلى مصر ليراقب الوضع عن كثب ويكون فى وضع استعداد وفقا لما تراه تركيا، وفى خلفية المشهد كانت تجرى المؤامرات والصفقات ضد مصر، حيث حاول الإنجليز الضغط فى اتجاه عزل محمد على بحجة أن بقاءه سوف يسبب الفتن ويستفز المماليك، الأمر الذى يجر البلاد إلى الفوضى والحرب الأهلية، وكانوا يرددون أن المماليك هم الأقدر على حكم مصر (وكأن ثورة لم تقم)، ومن جانبهم كان المماليك يستنجدون بإنجلترا ويطلبون منها أن تأتى بجيشها إلى مصر لنجدتهم ومساعدتهم فى الرجوع للسلطة، وبدا أن تركيا تميل لجانب محمد على (دائما هناك مستعمر وفصيل خائن وبلاد تبدو صديقة وهى ليست كذلك)
كانت أهم نقاط القوة لصالح محمد على أنه مؤيد من شعب مصر، ولولا هذا الدعم والتأييد لما استطاع ان يقف أمام ثالوث الشر (إنجلترا، المماليك، تركيا)، وفى المقابل كان رد فعل المماليك هو تدبير هجوم على القاهرة انتقامًا وإظهارًا لقوتهم أمام تركيا حتى تنحاز لهم وتعيدهم للحكم، وحاولوا بالفعل تنفيذ هجومهم فى أغسطس 1805 (أغسطس أيضا، يا للمفارقة!) ولكن محمد على كشف مخططهم، واستطاع أن يستدرجهم بأن جعلهم يتوهمون نجاح خطتهم، فتركهم يتقدمون إلى القاهرة ثم حاصرهم هناك وأغلق كل أبواب القاهرة ولم يدعهم يهربون، وكانوا كلما قصدوا بابا من أبواب القاهرة وجدوه مغلقا ووجدوا جند محمد على فى انتظارهم بالرصاص، ومن المفارقات أنهم قصدوا دار شيخ الأزهر محاولين استمالته إلى جانبهم لكنه طردهم، فأدركوا أنهم لم يعد لهم أى شعبية أو تأييد، وأن الشارع لم يعد معهم، وأنهم صاروا منبوذين مطارَدين حتى قال عنهم الجبرتى «لم يتفق للماليك أقبح ولا أشنع من هذه الحادثة، وطبع الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم وغلّ أيديهم»
هذا هو شعب مصر، فى تاريخهِ كما فى حاضره، يطرد كل جسم غريب، إلا من ذاب فيها وتمصر، ويرفض كل نبت شيطانى حتى لو خارجًا من أراضيه، منذ الهكسوس حتى المماليك، مرورًا بكل مستعمر وانتهاء بالمماليك وبكل صور المماليك فى كل عصر
مراجع المقال
عصر محمد على - عبد الرحمن الرافعى - دار المعارف 1989
محمد على وأولاده - جمال بدوى - مكتبة الأسرة 1999
موقع ويكيبيديا ب