أفكر مليا فى المشهد المصرى كله.. أحزن تارة.. أكاد أبكى أخرى.. يغمرنى اليأس أحيانا.. يجتاحنى الأمل فى بعض الأوقات.. أرى أن القاسم المشترك للحياة فى مصر هو الفوضى والعشوائية فى كل شىء.. نوبات الإقصاء المتبادل تصيب مصر بالصرع السياسى.. لا أحد يطيق أن يحكم بجوار الآخر.. يبدو أن مصر هى بلد الإقصاء المتبادل.. شعار كل فصيل سياسى هو شعار الألتراس «النصر الكامل لفريقى والهزيمة الكاملة للمنافسين».. كلما حكم مصر فصيل سياسى ألغى معارضيه تماما من الحياة السياسية، وكأن شعار الجميع «كلما حكمت أمة أقصت أختها».
مشهد العنف والدماء هو السيد فى مصر.. تراه فى سيناء وفى القاهرة وفى الدلتا وفى كل مكان.. خلق الله الدماء باللون الأحمر ليرتدع الإنسان عن سفكها.. ولكن دون جدوى.. ترى الدماء تنزف من الإسلاميين تارة ومن الشرطة أو الجيش أخرى ومن العوام مرات ومرات.. وكأن الأصل هو إراقة الدماء بعكس كل الشرائع السماوية والأرضية التى تقول «إن الأصل هو عصمة الدماء».
تهدر الأموال الطائلة فى الصراع السياسى.. يا ويل مصر من المال السياسى الحرام.. لقد أنفق الفرقاء السياسيون المليارات والمليارات من أجل كراسى السلطة.. ولو أنفقوا نصف هذه المبالغ على التعليم والصحة والتنمية فى مصر لكان لنا شأن آخر.. وأنفقت الحركة الإسلامية أيضا المليارات على الانتخابات والمليونيات والاعتصامات والمظاهرات.. ولو أنفق نصفها على رعاية اليتيم والفقير والأرملة والمسكين وعلى هداية الخلائق- «لكنا إلى الله أقرب ومن السجون أبعد». إن أزمة الحركة الإسلامية الكبرى أنها تعتبر أن معركة إعادة الشرعية التى تخوضها معركة الأمة كلها.. ولابد أن تجيّش الأمة كلها من أجلها ولا مانع لدفع أى ضريبة ولو باهظة من أجل استعادتها.. دون أن تدرك أن السلطة هى جزء يسير من المشروع الإسلامى.. وأنها ليست أصله.. فهو مشروع هداية ورشاد وصلاح وحفظ للدماء والأعراض والأموال ومشروع للعمران فى المقام الأول.
والسلطة جزء من كل ولا يطغى الجزء على الكل.. ولا يلغى الجزء الكل أو يهدمه.. والسلطة وسيلة وليست غاية.. ولا يمكن أن تتحول فى يوم من الأيام إلى غاية تبذل من أجلها آلاف المهج البريئة وتسال من أجلها الدماء الزكية ويتمزق الوطن كله من أجلها.. حتى لو ظُلمت وبُخس حقك فلا تحاول أن تعيد هذا الحق بمصيبة أو كارثة أو مفسدة أكبر من مصلحة الحق الذى ضاع منك؛ وفقا لفقه الأولويات وفقه المصالح والمفاسد.
والكارثة أنه بعد تدفق هذه الدماء الغالية من طرفى الصراع لم تعد الشرعية ولم تحقن الدماء ولم ينعم الوطن بالخير.
والشرعية غير الشريعة.. وحتى لو كانت جزءا من الشريعة فهى لا تستحق كل هذه الدماء.
لقد ساقت الحركة الإسلامية أبناءها فى محرقة مروعة فى الشوارع والميادين، وظن الشباب الطاهر أن غياب د. مرسى عن الحكم سيقضى على الإسلام نفسه.. إنه دخل المعركة على أنها المعركة الفاصلة فى التاريخ.
لقد تحول الصراع السياسى الآن فى عقل الأكثرية إلى صراع دينى أيديولوجى.. صراع كفر وإيمان.. مع أن الصراعات السياسية لا يمكن أن تتحول من ظنىّ إلى قطعىّ، ومن مختلف عليه إلى متفق عليه.
لقد انقلب الجيش على الملك فاروق؛ فغادر البلاد فى صمت؛ حقنا للدماء مع إدراكه وأنصاره أنه صاحب الشرعية.. ولكنه رأى أن الدماء أغلى وأعظم من كرسيه.
لقد سيق الجميع إلى المحرقة من أجل «كرسىّ ممزقٍ واهٍ فانٍ» دون أن يتبصر الفريقان أنهما دفعا ثمنا غاليا لـ«سَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً».
تقلا عن المصري ليوم