كتب: عمرو الزنط | السبت ٢٨ سبتمبر ٢٠١٣ -
٤٢:
٠٢ م +02:00 EET
مرت الذكرى العاشرة للأكاديمى المصرى - الفلسطينى - الأمريكى إدوارد سعيد الأسبوع الماضى. أقول «مصرى»، رغم أنه لم يحمل الجنسية، لأنه قضى معظم طفولته هنا، ولأنى أعتقد أن تلك التجربة أثرت بعمق على فكره. فمثلاً، كتابه الشهير عن «الاستشراق» يبدأ باستعراض فقرات مطولة لمقولات وكتابات تدلل على النظرة الدونية التى تبناها بعض «الاستعماريين»، لكن هذه الفقرات تتعلق بمصر وليس فلسطين. ثم هناك وصفه- فى سيرته الذاتية، «خارج المكان»- لتجربته فى كلية فيكتوريا المرموقة، التى درس بفرعها القاهرى، الوصف الذى يسرد حالة صراعية تسود العلاقة بين هيئة تدريس «استعمارية» مسيطرة، مكونة فى معظمها من البريطانيين و«عملائهم» من التلاميذ، وبين بقية الطلاب «الشرقيين». هذا كان نفس إطار نظرة «سعيد» فيما بعد، للشعب الفلسطينى، كجماعة تم فرض عليها التفتت والشتات من قبل «أساتذة العالم»، ولم يسمح لها حتى بتمثيل نفسها والدفاع عن قضيتها فى المجال العام الغربى.
وهذه الخلفية الشخصية والفكرية تشرح أيضا انقلاب «سعيد» على صديقه عرفات فى مرحلة ما بعد أوسلو، عندما اتهمه بالتبعية للقوة المسيطرة، ليضمن لها الأمن فى أماكن التكتل السكانى بالضفة وغزة، فى حين لم تتعهد إسرائيل حتى بالحد من الاستيطان أثناء عملية السلام.. فى نهاية حياته تمسك «سعيد» بحل القضية الفلسطينية على أساس دولة علمانية ديمقراطية للفلسطينيين واليهود معا. وبعكس الكثير الذين تبنوا الفكرة كمجرد ذريعة لإنهاء الوجود اليهودى فى فلسطين تماما، أعتقد أن «سعيد» كان يؤمن فعلاً بجدوى حلم إنشاء مجتمع متعدد الثقافات. فرغم أوجه القصور التى عبر عنها، فكان لديه حنين وجدانى نحو المجتمع التعددى الذى عرفه وفقده فى مصر- فبدأ سيرته الذاتية بوصفها كتأبين لمجتمع قد اختفى- وللغة الفكر والفن الكونية التى تعلمها فيه، خاصة الموسيقى الكلاسيكية التى أتقنها وفهمها بعمق.. وفى هذا الإطار كانت تجربته مع المايسترو العظيم دانيل بارنبيوم وأركسترا «ديوان»، الذى جمع بين شباب من العرب والإسرائيليين، والذى اتهم بسببها «بالتطبيع».
رغم تزامن زمن النشأة، فمصر التى عرفها الكاتب المسرحى على سالم كانت مختلفة نوعياً عن التى عرفها «سعيد». فمدينة دمياط التى يتقابل فيها النيل بالبحر المتوسط، والتى عاش فيها «سالم»- كانت أيضا تتسم بالتعددية، لكن حياة البسطاء هناك خلت نسبيا من توترات علاقات النخبة، والتى انعكست فى رؤية «سعيد» المعقدة.
وربما لذلك اعتقد «سالم» أن فرصة التواصل بين الشعوب قد تزيل العقبات السياسية، ومن ثم يمكن قبول عملية السلام كخطوة أولى رغم أوجه القصور- على عكس «سعيد» الذى قبل فكرة التواصل مع رفض العملية السياسية المكرسة لدونية الوضع الفلسطينى فى نظره- فتحمس على سالم لاتفاقية أوسلو وزار إسرائيل وكتب كتابه عنها، فى محاولة لتكريس التواصل المزيل للعقبات فى رأيه. واعتبر أن ما جعل الفشل حتمياً فى النهاية كان تحالفاً ضمنياً بين من أراد إفساد العملية السياسية فى الجانبين.
فلأن على سالم ليس أكاديمياً إنما كاتب مسرحى، فنظر لانصياع الأطراف لأكثر القوى تشدداً فى مجتمعاتها- تحت تأثير وتهديد الضغط القبائلى، بما يحتويه من اتهامات بالتخلى عن التاريخ وخيانة الجماعة- كأساس للمأساة.
بصرف النظر عما أفشل تجربة «أوسلو» بالضبط، اعتقد أن نهج التهميش والتخوين- بلغته الإقصائية العنيفة، التى تبلورت عندنا فى إطار الصراع مع إسراىيل، والتى تعرض لها على سالم دون رحمة- قد يؤدى فى النهاية لإفشال المجتمع المصرى.. الذى صار مفتتاً فى فئات وجماعات متصارعة، تتهم بعضها بأبشع الألقاب وتتشابك دموياً أحياناً. إسرائيل لا تخسر شيئاً من ذلك العنف الفكرى والفعلى.. مجتمعنا هو الخاسر.
نقطة أخيرة عما يفصل المجتمعات التعددية الناجحة عن المجتمعات مأزومة: رغم نقد إدوارد سعيد اللاذع لسياسات الولايات المتحدة، بل وانتقاداته لأسس الحضارة الغربية الحديثة نفسها أحياناً، احتفت به جامعة كولومبيا وكرمته بأرقى مستوى الأستاذية فيها، وحصل على العديد من الجوائز فى الغرب، بل صار أيقونة فكرية لدى الكثيرين فيه.
على عكس ذلك- ورغم إبداعه الفنى المركزى فى تاريخ المسرح المصرى- فى أعمال مثل مدرسة المشاغبين وكوميديا أوديب وعفاريت مصر الجديدة- صار على سالم منبوذاً لأسباب سياسية، بينما يستخدم البعض لغة الشحن الهيستيرى غير المسؤولة ليصبحوا أبطال المجال العام المصرى، حتى إذا افتقدوا أى موهبة إضافية.. ومن المحزن أن يكون الحال كذلك - الحال الذى تجسد فى تجاهل إعلامى شبه تام عن حالة الكاتب الكبير، حتى عندما خضع لعملية جراحية خطيرة لاحقاً.
المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع