بقلم: نبيل المقدس
كنت اسكن مع صديق عند عائلة مجرية لكي احصل علي الدبلومة في تخصص نادر جدا وجديد في علم الكهربا , هذه العائلة كانت لا تمتلك جهاز تليفزيون لأن الشعب المجري في هذا الوقت كان فقيرا وكان تحت الحكم السوفيتي ... وليست كل العائلات لديها القدرة لإقتناء جهاز تليفزيون . وفي يوم ما دخل عليّ صاحب الشقة وكان لا يتكلم لأنه كان مصابا بالشلل , كان حاملا راديو صادر منه اصوات صريخ وصويت .. لكن كان الصوت ضعيف جدا جدا وكانت الموجة متقطعة لم أستطيع أن أميز شيئا من هذه الأصوات والصراخ . أخذت الموضوع ببساطة , لكن لاحظت عليه أنه إشمئز مني لأنني لم انفعل أو أعطي اي إهتمام ... فخرج حاملا الراديو وعلي وجهه علامات الدهشة والإستغراب.
ثاني يوم في الصباح وكالعادة أخذت نفسي وركبت المترو إلي المعهد الذي كنت ادرس فيه .. وإذ أتفاجيء بإحدي السيدات تقول لي : هو انت عربي ؟ ... أجبتها أنا مصري ... قالت لي كان لازم ترجع حالا لمصر... قلت لها وما هو السبب ؟ قالت رجل عظيم مثل عبد الناصر يموت امس ولسه سيادتك قاعد هنا في المجر ؟؟! كان المفروض تسافر تشارك الجنازة الرهيبة . وقتها علمت ماذا كان يقصد صاحب البيت الذي اسكن طرفه . وصلت المعهد وانا في منتهي الحزن والزعل , وتقابلت مع زملائي لكي نواسي ونعزي بعضنا البعض . وجائنا مدير المعهد لكي يعزينا وقال كلام جميل علي مدي قوة شخصية هذا الزعيم . وبالليل نظمت السفارة حفل تأبين دعت فيها جميع سفراء العالم لديها والجاليات المصرية والعربية.
كان جمال عبد الناصر علي حسب ما تعودنا أن نطلق عليه "الولد إللي جابته البلد" ... و كلمة الولد هنا لا تدل علي صغر السن , أو علي أعمال صبيانية تخرج من رجل بالغ ... لكن بالنسبة للمصريين أصحاب التعبيرات الجميلة فلها مدلولات أخري تختلف جدا عن معناها الأصلي , وربما يفهمها غير المصري علي أنها تقليل من شأن الشخص البالغ . لكن بالعكس نجد أن جميع شعوب الدول العربية تتمني وتتغني بها, بعد أن لقطوها منا ويحاولون بل يعشقون أن يكونوا من ضمن المتكلمين بها , وكثيرا أجد في شوارع القاهرة بعض الأشخاص العربية يحاولون تقليد لغتنا الجميلة لكنها تخرج من بين شفايفهم بأسلوب فيه شيء من الكوميديا... ومهما حاولوا سوف لا تخرج جميلة لهجة او لفظا َمثلما يتكلم بها المصري الأصيل.
معني الولد بالنسبة لنا سياسيا هو الشخص الذي يستطيع أن يقود ويوجه ويتعاون ويحب وطنه اولا واخيرا .. ومستعد أن يقدم كل جهوده لشعبه ولوطنه. ويستطيع أن تكون لديه الأفكار السريعة التي بدونها تحدث اخطار عظيمة لوطنه ... وانا أتفق تماما أن أطلق علي الرئيس جمال عبد الناصر بإسم " الولــــــــد" وبالرغم أن هذا الإسم هو اسم بسيط إلا أنه يحمل صفة الزعامة والشجاعة .. ومعروف أن مصر هي بلد ولاّدة أي انها تنجب عظماء الرجال في جميع المجالات , ولدينا الكثير منهم علي مستوي العالم.
وبالنسبة أننا نعيش هذه الأيام في ذكري وفاة أحد اولادها الشجعان وهو الزعيم " جمال عبد الناصر " نجد أن التاريخ خلده , وذلك لأنه كان قريبا من شعبه عمل لكي يرفع من مستوي معيشة الفقراء .. لذلك كنا نسمع كثيرا ونردد كثيرا في احاديثنا واغانينا بـأنه "حبيب الملايين" . فلقد شهد له انور السادات وهو في عز مجده وفخره بانتصار اكتوبر بأن جمال عبد الناصــر لم يمت .. وأن كل واحد مصري أصيل هو عبد الناصر". والغريب بل والمدهش تجد محلات و شركات كثيرة ترفع صور جمال عبد الناصر حتي الآن .. وأي مناسبة وطنية تأتي نلاحظ ان هناك صورا له مرفوعة علي أعمدة الإنارة التي تتواجد في الميادين وفي الشوارع وفي القري وفي النجوع حتي يومنا هذا .
وقد قرأت جملة جميلة تفوه بها الدكتور عاصم الدسوقي وهو استاذ التاريخ الحديث المعاصر " أن جماهير عبد الناصر مازالت تحلم بوجوده حتي في أجيال لم يعاصروا عهده "... ومن شدة تأثير أعماله علي الشعب وعلي العالم فقد قام الكثير من المتظاهرين برفع صوره في ثورة 30 – 6 - 2013. تشبها بأنها ثورة حقيقية مثلها مثل ثورة 23 يوليو 52. وهذه حقيقة فثورة 23 يوليو تشبه تماما ثورة 30 أغسطس في المطالب و في إلتفاف الشعب بالملايين حول جيشه..
قال عنه "كلوفيس مقصود" الكاتب والمفكر إن عبد الناصر كان شخصية عالمية كاملة..وكان تأثيره قادرا على اقتحام حدود وحواجز بعيدة يصل وراءها إلي أكثر مما تصل إليه سلطة الدولة التي كان يحكم فيها. كان جمال عبد الناصر أمام العالم الخارجي تعبيرا ظاهرا عن الرأي الغالب في أمة عربية بأسرها. وكان جمال عبد الناصر داخل الأمة العربية نقطة اللقاء الكبرى للإرادة الواحدة لهذه الأمة. كان جمال عبد الناصر في وجوده وبطبيعة دوره التاريخي يستطيع أن يكوّن وحدة دائرة الحوار وقد أثبت ذلك فعلا في مواقف حاسمة في قصة نضاله وأعماله..ويجب أن تكون هذه النقطة أيضا موضع دراسة مستفيضة عندما يجئ الوقت لاستكشاف الأبعاد الرحبة لهذه الشخصية الضخمة. كان جمال عبد الناصر هو "التجسيد لسلطة الشعب".
وبعد رحيله فان تجسيد سلطة الشعب لا يمكن أن يكفلها غير ضمان الدستور والضمان القانوني. إن جمال عبد الناصر كان شخصية تاريخية، ومن بعده فليس هناك أشخاص تاريخيون.
أما "نيلسون مانديلا" قال عنه : عند تكريمه في جامعة القاهرةعام 1995 لو كان زعيمكم عبد الناصر على قيد الحياة ودخلت مصر المنافسة أمام جنوب أفريقيا على شرف إستضافة كأس العالم لكرة القدم 2010 لأنسحبت جنوب أفريقيا على الفورالوقوف أمام مصر ولكن الظروف تغيرت الأن ومصر لم تعد مصر عبد الناصر .
أنا لا أتكلم عن الأعمال العظيمة والتي ميزت عبد الناصر مثل تحدي امريكا وتصميمه أن يبني السد العالي .. أو تحديه العالم في فتح باب المندب , نعم خسرنا معركتنا مع اسرائيل , لكنه بدأ يلم شمل الجيش وكان هو أول من غيّر في سياسة مصر وعلاقتها بالخارج قبل أن يتوفاه الله , فقد إستلم السادات مصر وهي علي الطريق الجديد من عبد الناصر بطرق سياسية مختلفة نوعا ما , لكي يكمل السادات مشواره في تحرير الأرض.
كان عبد الناصر "بُعبع الجماعات الإرهابية" بجميع حركاتها وخصوصا الإخوان المسلمين , والذين لم نكن نسمع الكثير عنهم . كان بفعل الكاريزما التي كان يتصف بها تعمل حكومته بأيادي ثابتة وليست بأيادي مرتعشة . كانت القرارات التي تخرج من حكوماته جريئة وفيها تحدي وكان دائما مستعدا ان يتحمل هو نتائجها مثل نكسة 67 .
الآن نحتفل بذكري وفاته , فقد راح الولد ... ونحن نعيش السنة الأخيرة بنفس الظروف التي بدأ بها عبد الناصر . لكنني لا أخاف علي مصر .. لأن الرب حاميها وأتي بنا بالولد الثاني الذي وقف مع شعبه يمارس اقل واجباته وهي حماية مطالب الشعب .. وأدرك أن هناك تنظيم عالمي أول مهامه هو تدمير مصر , ثم تدمير باقي الدول العربية لكي تحمي اسرائيل مقابل إقامة خلافة إسلامية . نعم جاء الولد الذي انتظرناه 30 سنة واكثر لكي يكسر شوكة اللعب بالدين في السياسة .
فقد جاء السيسي ونسف كل النظام الفاشي السابق .. الداخلي والعالمي ... وافشل اكبر حركة تواجدت علي الأرض وهي الحركة التي ارادتها كل من تركيا وقطر , وهللت لها امريكا واوربا لإرضاء اسرائيل وتصبح مصـــر دولة مثلها مثل دولة افغانستان والصومال.
اهلا بالسيسي رئيسا لمصـــر ... وهذا ليس طلب مجموعة قليلة من الشعب .. بل هي آماني اغلب الشعب المصري ..
فعلا مصــر ولادة ... راح الولـــد الزعيم ... لكن جانا الولـــد العظيم.
وتسلم الأيــــــادي ... يا حفيــــــــــد حبيب الملايين !!