تتناول الحلقة الثالثة من السلسلة معلومات شخصية عن الدكتور "أشرف مروان" أو العميل "حوتيئيل"، وهي المعلومات المتوفرة لدى الموساد الإسرائيلي عن المرحوم "مروان"، والتي قد تكون صائبة أو كاذبة، ولكنها بالقطع المعلومات المتداولة والواردة في ملفه لدى جهاز المخابرات العامة الإسرائيلي "الموساد"...
وننتقل الآن إلى التفاصيل
من هذا الـ "حوتيئيل"؟ على مدار السنين نشر عدد لا حصر له من الألغاز والأحاجي حول هويته. الواضح أنه كان الشخص المقرب للغاية من النخبة الحاكمة المصرية والقيادة العامة للجيش المصري. لكن ثمة أحد لم ينجح في اختراق حصن السرية الذي أحاط بهويته الحقيقية. الصحفيون لقبوه بالعميل "بابل"، ونسبوا له صفات أسطورية، وكان موضوعاً لعدد كبير من التقارير الصحفية وكتب الجاسوسية الخيالية.
لسنوات طويلة حمل اللواء إيلي زعيرا في قلبه مشاعر الإحباط الشديد. كان مصمماً على إثبات براءته، وقرر أن يعرض للعالم روايته. جلس اللواء وألف كتاباً. واضطر في كتابه للتعاطي مع السؤال: لماذا رفض تحذيرات حوتيئيل؟
كتب اللواء أن حوتيئيل لم يكن أكثر من عميل مزدوج، تمت زراعته في الموساد من قبل المصريين الأذكياء لتضليل الإسرائيليين.
قفز الكثير من الصحفيين على تلك المقولة وكأنهم عثروا على غنيمة كبيرة، وسارعوا بالقول إنه كان عميلاً مزدوجاً وفقاً لأفضل التقاليد السوفيتية. وأوضحوا أن دوره هو أن ينقل للعدو معلومات دقيقة موثوقة لكسب ثقته، وعندما يأكل الطعم يقدم له تقريراً كاذباً يؤدي إلى انهياره.
كانت هذه حقاً قصة رائعة فسرت كل شيء، أو تقريباً كل شيء.
لقد تجاهل زعيرا ومريديه معلومة صغيرة واحدة: كل تقارير حوتيئيل كانت حقيقية من التقرير الأول حتى الأخير، أين التضليل إذاً؟
عندما كان بمقدوره أن يضلل إسرائيل فعلاً وتهدئة مخاوفها من انتشار الجيش المصري، اختار العميل المزدوج تحديداً أسلوباً آخر. أولاً، قبل الحرب نقل لمساعد زامير رسالة "فجل" بمعناها الدراماتيكي، ثم سافر إلى لندن، وحذر زامير من الهجوم الوشيك.
لكن زعيرا ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. في عام 2004، عندما صدرت طبعة جديدة من كتابه، كشف هوية حوتيئيل. لم يكتف زعيرا بذلك، ولكن أفصح مرة أخرى صراحة عن اسم أشرف مروان في سلسلة مقابلات صحفية، وفي برنامج تليفزيوني ذو شعبية "موساف هموسافيم" الذي يقدمه الصحفي "دان مرجليت".
أثار الاسم دهشة كبيرة لدى كل من يعرف الساحة السياسية المصرية. لم يكن بمقدورهم تصديق أن مروان بالفعل كان جاسوساً إسرائيلياً. من كان مروان؟ من كان كبير الجواسيس؟
على ملعب التنس في هليوبوليس التقت في عام 1965 فتاة لطيفة وخجولة بشاب صغير وأنيق من أسرة طيبة. الفتاة، منى، هي الابنة الثالثة في أسرتها، لكنها لم تكن الأذكى بينهم. اختها هدى كانت أكثر ذكاء منها، وتميزت في دراستها بالمدرسة في الجيزة، لكن منى كانت ساحرة، وكانت المحببة لدى والدها. الشاب ابن الـ 21 عاماً الذي قابلته منى، جاء من أسرة ثرية ومحترمة، وكان قد حصل للتو على درجة البكالوريوس في الكيمياء، ثم تجند في الجيش. وسرعان ما وقعت منى في غرامه.
بعد فترة قصيرة أرادت أن تعرفه بوالدها: وهكذا تعرف العاشق الشاب بأسرة الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
كانت منى حقاً هي الابنة المدللة للزعيم المصري.
تشكك ناصر كثيراً أن تكون هذه هي الخطبة المناسبة لابنته، إلا أن الأخيرة لم تترك أمامه خياراً آخر. وفي النهاية دعى الرئيس والد الشاب، والذي كان ضابطاً كبيراً في الحرس الجمهوري، وتحدث الاثنان عن زواج أبنيهما. بعد مرور عام، في يوليو 1966، تزوج الخطيب الشاب ومنى ناصر ابنة الرئيس، وبعد فترة قصيرة من التحاقه بالخدمة في قسم الكيمياء بالحرس الجمهوري، وفي نهاية العام 1968، نقل إلى مكتب الرئيس.
اسم صهر الرئيس هو أشرف مروان.
صحيح أن الشاب تزوج زيجة طيبة، مثلما يقولون، لكن منصبه لم يرضي طموحاته، لذا طلب الحصول على موافقة بالسفر إلى لندن لاستكمال دراسة الماجيستير. حصل على الموافقة، واستقر في العاصمة الإنجليزية، تحت رقابة مشددة من قبل السفارة المصرية.
ويبدو أن رقابة السفارة لم تكن مشددة بالقدر الكافي. أحب أشرف مروان حياة الترف والبذخ، والمتعة والمغامرات- ولندن في نهاية الستينيات وفرت له كل هذا على نطاق واسع. لم تمر إلا أيام معدودة حتى أنفق الصهر الشاب كل مصروفه، وبدأ رحلة البحث عن مصدر مالي جديد لتمويل رغباته.
وسرعان ما وجد الممول.
الممول يدعى سعاد، وهي زوجة الشيخ الكويتي عبد الله مبارك الصباح. سحر أشرف القرينة الرومانسية ومنحها السعادة، بينما أغدقت عليه هي بالمال بلا حساب. لكن هذه التسوية لم تصمد طويلاً. فقد تكشفت في النهاية علاقة الغرام بين الاثنين، وأمر ناصر بإعادة الصهر المارق إلى مصر. وطلب من ابنته أن تطلق من هذا الزاني، لكنها رفضت بشدة. وفي النهاية قرر ناصر بقاء مروان في مصر والسماح له بالسفر إلى لندن فقط من أجل تقديم أعماله الأكاديمية. وأجبره على إعادة المال للسيدة الصباح. بدأ مروان العمل في مكتب ناصر وتم تكليفه بعدة مهام وأعمال صغيرة.
في عام 1969 سافر أشرف مروان مرة أخرى إلى لندن لعرض عمله الأكاديمي. إلا أنه سافر إلى هناك وفي نيته تقديم شيء آخر: خيانة ناصر. فقد كان محبطاً ومستائاً بشدة من الإهانة التي تعرض لها من قبل الرئيس المصري. ولذا، اتصل هاتفياً بالسفارة الإسرائيلية، وطلب التحدث مع الملحق العسكري. عندما رد عليه أحد ضباط الجيش الإسرائيلي الموجودين هناك، عرف نفسه بأنه أشرف مروان، وقال صراحة إنه يريد العمل لحساب إسرائيل. وطلب رفع عرضه على المسؤولين. لم يتعامل الضابط الإسرائيلي معه بالجدية اللازمة وتجاهل طلبه، وكذلك الحال بالنسبة للاتصال الثاني من جانب مروان، حيث لم يتلق رداً فورياً، إلا أنه في هذه المرحلة وصلت المعلومة إلى ممثلي الموساد. رئيس بعثة الموساد في أوروبا شموئيل جورن تلقى مكالمة هاتفية من مروان، وقد عرف أن مروان هو صهر الرئيس ناصر، وأدرك على الفور مدى أهمية الرجل، وطلب منه ألا يتصل بالسفارة مرة أخرى، وأعطاه رقم هاتف بديل- وسارع باستدعاء قيادات الموساد.
وصل الخبر في إسرائيل إلى رحافيا فيردي، رئيس شعبة "تسوميت"، شعبة تجنيد العملاء بالموساد، وكذلك وصل إلى رئيس الموساد تسفي زامير. شكل الاثنان طاقماً خاصاً لبحث عرض مروان. وهنا، أشارت كل القرائن إلى مناورة من العدو: رجل مقرب من النظام يعرض نفسه متطوعاً، ولم تبذل أي جهود لتجنييده. بدى ذلك مريباً للغاية، لعله يكون عميلاً مزدوجاً؟ ربما أرسل كطعم من قبل الأجهزة السرية المصرية؟
من ناحية أخرى- ربما تفسر تلك المعادلة بطريقة مختلفة تماماً: رجل مقرب من النظام يعرض نفسه متطوعاً. لا شك أن لديه قدرة على الوصول لمواد سرية للغاية لا يستطيع أحد الوصول إليها، ناهيك عن العملاء الإسرائيليين الذين يعملون اليوم في مصر. كما عرض على طاقم التحقيق تفاصيل ومعلومات حول شخصية مروان- شاب طموح، محب لحياة الترف والبذخ، ومحب للمال أيضاً. الإغراء كان كبيراً.
عاد جورن إلى لندن والتقى مع مروان. وقد رأى أمامه شاباً أنيقاً مهندم الثياب، يحرص على مظهره. قال له مروان صراحة إنه أصيب بإحباط شديد من جراء هزيمة مصر في حرب الأيام الستة، وإنه يريد مساعدة إسرائيل، والوقوف مع الجانب المنتصر. لكن فضلاً عن هذا التفسير الأيديولوجي، أشار مروان إلى رغبته في المال: فقد طلب الحصول على 100 ألف دولار مقابل كل لقاء يبلغ فيه مشغليه الإسرائيليين بتقرير هام حول ما يجري في مصر.
مال جورن لقبول هذا العرض، رغم الثمن الباهظ الذي طلبه مروان. مبلغ كهذا لم يدفع لعميل بالموساد قط. إلا أن جورن كان في حاجة أولاً لدليل دامغ على أن مروان مستعد للعمل، وطلب منه أن يحضر له وثائق سرية تثبت مدى قوة مروان ورغبته في مساعدة إسرائيل. إحضار تلك الوثائق كان من شأنه ربط مروان بالموساد، حيث أن هذا ينطوي على إدانة ذاتية، ويمثل دليلاً قطاعاً على أنه أصبح الآن عميلاً إسرائيلياً، وبالنسبة لمصر عميلاً للعدو.
لم يتردد مروان كثيراً وسارع بإحضار الوثيقة الأولى للموساد. النص الكامل للمناقشات التي أجراها ناصر في موسكو في 22 يناير 1970، والتي طلب فيها من السوفيت تزويده بقاذفات متطورة ذات مدى عمل كبير وقادرة على ضرب العمق الإسرائيلي.
أدهشت الوثيقة قرائها، والآن أصبح قادة الموساد على قناعة بأن كنزاً كبيراً قد سقط في أيديهم. وأرسلوا "دوبي" إلى لندن، وكلفوه بتشغيل حوتيئيل، ووفروا له كل الوسائل التقنية: استئجار شقة آمنة للقاءات في لندن، وتجهيزها بأجهزة تسجيل وتنصت، وتأمينها، وإعداد صندوق منفصل لتمويل أجر حوتيئيل. وهكذا، أصبح من الممكن بدء العمل.
جرت اللقاءات بناء على طلب مروان، ووفقاً للإجراءات المتفق عليها مع دوبي. اعتاد مروان الاتصال هاتفياً بأشخاص وسطاء (يزعم البعض أنهم كانوا في الغالب نساء يهوديات مقيمات في لندن)، وهؤلاء عملوا على نقل المعلومات للموساد. نقل مروان معلومات كثيرة ووثائق سرية للغاية ذات طابع سياسي وعسكري، وفي بعض اللقاءات شارك العقيد مائير، رئيس وحدة 6 (شعبة الجيش المصري) في شعبة المخابرات العسكرية الإسرائيلية. اعتاد مائير على السفر إلى لندن باسم مستعار، وملابس وأغراض منزوعة الماركات لإخفاء أي إشارة تدل على هويته. واعتاد التجول في لندن مترجلاً وبالسيارات للتخلص من أي مراقبة محتملة، وفي النهاية كان يصل إلى البناية السكنية، ويصعد للطابق السادس. وهناك وجد شخصاً أنيقاً-وإن لم يكن لطيفاً بصفة خاصة-
وساخراً للغاية ينظر إليه باحتقار شديد. لم يلطف مروان سلوكه إلا عندما اتضح له أنه يجلس أمام شخص غزير المعرفة والخبرة. في إحدى المرات طلب من مائير أن يسلم لمروان شنطة مغلقة، وعندما سأل ماذا بداخلها، قالوا له "شقة في الميدان الرئيسي للدولة"، ملمحين له بالأموال الطائلة الموجودة بداخلها. وفقاً لحسابات الموساد، كلفت تقارير مروان الموساد خلال السنوات التي عمل فيها لحسابه أكثر من 3 مليون دولار.
توفي ناصر في 28 سبتمبر 1970، وخلفه في المنصب أنور السادات، الذي سخر الكثيرون من ضعفه وتردده. البروفيسور شمعون شامير، أحد كبار الخبراء الإسرائيليين في الشئون المصرية، حلل شخصية السادات لحساب شعبة الاستخبارات العسكرية. رجل ضعيف ورتيب، قال شامير في سبتمبر 1970، مؤكداً أنه لن يستطيع الصمود كثيراً في السلطة ولن يشن حرب. هكذا اعتقد أيضاً الكثيرون في مصر. لكن مروان قرر الوقوف إلى جانب السادات، وأخذ من زوجته مفاتيح خزينة والدها، وأخذ من هناك الوثائق السرية الخاصة بناصر وأحضرها إلى مكتب السادات.
بعد بضعة أشهر وقف إلى جانب السادات مرة أخرى في مايو 1971، عندما دبرت مجموعة من الزعماء المصريين خطة للانقلاب. وكان ضمن مخططي الانقلاب (ذو الطابع السوفيتي) عدد من الأسماء الشهيرة: على صبري، نائب الرئيس سابقاً، ومحمد فوزي وزير الحربية سابقاً، وشعرواي جمعة وزير الداخلية، وعدد من الوزراء والشخصيات السياسية الرفيعة.
المتآمرون خططوا لاغتيال السادات أثناء زيارته لجامعة الإسكندرية، لكن السادات وجه ضربة استباقية لهم واعتقلهم جميعاً. لقد ساعده مروان بإخلاص شديد، ووقف إلى جانبه عند قمعه هذا التمرد. وهكذا، ارتفعت مكانة مروان لدى الرئيس، وتم تعيينه سكرتيراً للرئيس لشئون المعلومات والمستشار الخاص للرئيس. كما صاحبه في سفرياته للعالم العربي، وكذا شارك في اللقاءات السياسية.
مع علو شأن مروان تحسنت تقاريره أيضاً. في عام 1971 سافر السادات عدة مرات إلى موسكو لإجراء لقاءات مع زعمائها، وقدم إلى ليونيد بريجنيف قائمة بالأسلحة التي تريدها مصر لمهاجمة إسرائيل. وقد شملت القائمة طائرات ميج 25. وبدوره، سلم مروان لمشغليه بالموساد تلك القائمة، وعندما طلب هؤلاء النص الكامل للمحادثات بين السادات وبريجنيف أحضرها لهم مروان أيضاً. تأثر تسفي زامير بشدة من المادة التي أحضرها مروان وقابله شخصياً . المادة الخام التي أحضرها مروان للموساد تم توزيعها في عدة المكاتبات بين مسئولين كبار بشعبة الاستخبارات العسكرية والموساد، ورئيس الأركان العامة حاييم برليف(والذي خلفه دافيد اليعازر) ونائبه اللواء يسرائيل طال. وعلى صعيد القيادة السياسية تم توزيع المادة على رئيس الوزراء جولدا مائير ووزير الدفاع موشيه ديان والوزير بلا حقيبة يسرائيل جليلي.
انتظروا الحلقة الرابعة....
(4) أشرف مروان وعلاقاته الدولية
علاقات مروان بالمخابرات الأمريكية والإيطالية والليبية ودول الخليج
تنوية هام: الموقع غير مسئول عن صحة أو مصدقية أي خبر يتم نشره نقلاً عن مصادر صحفية أخرى، ومن ثم لا يتحمل أي مسئولية قانونية أو أدبية وإنما يتحملها المصدر الرئيسى للخبر. والموقع يقوم فقط بنقل ما يتم تداولة فى الأوساط الإعلامية المصرية والعالمية لتقديم خدمة إخبارية متكاملة.