بقلم : فاروق عطية
يظن الكثيرون أن المصريين شعب مستكين قانع بحياته لا يقاوم الظلم ولا يثور، وهذا فهم خاطئ لطبيعة المصريين.حتى المؤرخون المفترض فيهم الحيادية والتجرد قد خانهم التعبير ربما بقصد أو بدون قصد فأساءوا للمصريين. قال المقريزي أن المصريون إذا ساسهم غيرهم أذلاء ويغلب عليهم الجبن. وقال الجبرتي عن الفلاح المصري أنه مع المحتسب أذل من العبد المشتري. حتى علماءالاجتماعالمحدثينأيضا قد أدانواالشخصيةالمصريةووصفوهابالخنوع. فجمال حمدان صاحب كتاب "شخصية مصر"قد جاءفيكتابهمايكاديصلإلىحدالإدانةللشعبالمصريحيثيقولأنثوراتالمصريينلنتزدعنكونهامجردهبّاتوهوجاتوتمرداتعاجزةوفاشلة. الكل لم يفطن لحقيقة مصر وتأثرها بما حباها الله من طبيعة، فكلنا نعلم أن الطبيعة الجغرافية للسكان تشكل الكثير من طبائع البشر، والمصريون قد حبتهم الطبيعة بأرض خصبة سهلة الزراعة ونيل متدفق يبعث النماء والاستقرار، فهو شعب زراعي من طراز فريد. يلقى الفلاح البذور في التربة ويظل صابرا حتى تنبت ليقوم برعاية زرعه، فانعكست طبيعة مصر على سلوك المصريينوصاروا يمتازون بالهدوء والوداعة. فهم شعب مسالم طيب ودود صبور جدا ولكنه حين يتعرض للظلم يثور ثورة عارمة.فلم يكن الشعب المصري خاضعاً وخانعاًفي يوم من الأيام كما يشاع عنه، بل هو شعبصبور يتحمل الظلم وقسوة الحياة إلى حين، بعدها ينفجر غضباً فى ثورة عارمة حتى ينال حقه وينفذ مطالبه. ثورات المصريين عديدة وقديمة منذ فجر التاريخ وليست وليدة 25 يناير 2011. وفى هذا المقال أسلط بقعة من الضوء على أقدم تورة فى التاريخ المصري بل قد تكون أول ثورة فى تاريخ البشرية، ثورة المصريين على الفرعون بيبي الثاني.
في عام 2281 ق.م، قبل 4294 عاماً من الآن، خرج أجدادنا المصريون القدماء إلى ميادين مصر فى ثورة شعبية عارمة أتت علي الأخضر واليابس، وسميت ثورة “الرعاع أو الجياع”، منددين بحكم الملك الضعيف “بيبيالثاني” آخر ملوك الأسرة السادسة، وهم يرفعون شعاراتهم “تسقط المحاكم،تسقط المعابد، الأرض لمن يزرعها، الحرفة لمن يحترفها والكل سواء.” أضرب الناس عن دفع الضرائب وأحرقوا المنشآت الحكومية واعتدوا على قبور الملوك ونهبوها. انتشر قُطّاع الطرق في كل مكان وسادت حالة من الانفلات الأمني شبيهة بما حدث في عهد الموكوس مرسى, فما أشبه البوم بالبارحة، ففي عهد الموكوس الذى لم يف بتعهداته للشعب وحنث بالقسم وتحدى جميع القوى من جيش وشرطة وقضاء ولم بسمع لغير المحيطين به من الأهل والعشيرة حتى تردت أوضاع البلاد الاقتصادية بصورة غير مسبوقة، وانخفض الاحتياطيالنقدي، وتزايد عجز الموازنة، وارتفعت الأسعار بطريقة مجنونة, مع محاولة الحكومةرفع الدعم عن السلع الغذائية والتموينية, وتخصيص 3 أرغفة لكل مواطن يوميا رغم أن السجين يحصل على 5 أرغفة يوميا أقرها له حبيب العادلي – وزير الداخلية الأسبق ونزيل سجن طرة - في عصر الرئيس المخلوع حسنى مبارك, مما حدا بشباب مصر رفع راية التمرد وجمع ملايين التوقيعات لتفويض الحيش بالخلاص من حكم الاخوان الفاشي الفاشل. وكأن شباب التمرد الآني قد استلهم ما حدث في الماضي البعيد، فقد كانت أسباب ثورة الجياع الفرعونية تشبه تقريبا أسباب ثورتنا الآنية.
اندلعت هذه الثورة في آخر عصر بناة الأهرام أو ما يطلق عليه نهاية الدولة القديمة، تعد ثورة “الجياع” في عهد بيبي الثان أول ثورة اجتماعية يخرج فيها المصريون على حاكمهم الذي يعتبرونه حلقة الوصل بينهم وبين الإله. كانت فترةحكمنفر كارع بيبي الثاني أطول فترات الحكم في مصر القديمة فقد حكم البلاد حوالي أربعة وتسعين عاماً وتوفى عن مائة عام، وكانت أمه "انخسينمينريرعالثانية"وصية عليه في البداية حيث تولى الحكم بعد موت أبيه وعمره لا يتجاوز الست سنوات. وكان حال مصر في بدايات عهده مُزدهر، وفي أواخره شهد العالم أول ثورة في التاريخ.كانت أشهر أعماله في مرحلة الشباب إرسال حملات إلى الجنوب كذلك بعض الرحلات التجارية إلى بيبلوس في الشمال، وكان يرسل البعثات الحربية فى مختلف الأقطار وكان النصر حليفهفي مختلف الحروب.وكان لطول مدة حكمه أثره في ضعف الأسرة، وفي النهايةبسبب كبر سنه أصبح غير قادر على كسب طاعة أمراء الأقاليم الأقوياء الذين زادت سلطتهم وتمردوا عليه، ولم يدينوا له بالولاء، وامتنعوا عن دفع الجزية، وظهر عدم الاستقرار وعدم الأمن فسادت الفوضى في كل مكان، وأهملت القوانين وانهار الصرح الاجتماعي، وطرد الموظفين من وظائفهم وزاد السلب والنهب. ولضعف الملك وكبر سنه وذهوله عما يجري وتسليمه بأكاذيب المنافقين من حوله، استقل حكام الأقاليمبأقاليمهم واستبدوا بالأهالي، فرضوا المكوس الجائرة، ونهبوا الأقوات، واهملوا اي اصلاح للري والارض،وانضم إليهم الكهنة حرصا على أوقافهم،يبيحون لهم بفتاواهم الكاذبة كل منكر، غير مبالين بأنّات الفقراء وما يعانون من قهروذل وجوع، وكلما قصدهم مظلوم طالبوه بالطاعة والصبر ووعدوه بحسن الجزاء فيالعالم الاخر، وبلغ الياس غايته، فلا حاكم يعدل، ولا قانون يسود، ولا رحمة تهبط. وتزامنت عوامل الطبيعة لتزيد من تفاقم الوضع المتردي ليس في مصر وحدها ولكن على مستوي الشرق الأوسط كله محدثة مجاعة وفقر شديد وهذا ما أكدّه المسح الجيولوجي للعصر الهولوسيني الحديث حيث تمّ تأكيد حدوث ظاهرة انخفاضفي منسوب النيل في مصر وكذلك جفاففي عدّة مناطق أخرى على مستوى الشرق الأوسط منها بلاد العراق والجزيرة العربية وشمال أفريقيا ككل. ونتيجة لكل هذه العوامل انطلق الشباب الثائر بين الناس يدعونهم للعصيان ومحاربة الظلم بالقوة،وسرعان ما استجابت الجماهير الغفيرة الى النداء، فحطموا حاجز الخوف والتقاليد البالية، ووجهوا ضرباتهم القاتلة الى الطغاة والظالمين، وسرت النار المقدسة الى جميع البلاد وانطلقت قذائف الغضب الاحمر على الحكام والموظفين ورجال الدين والمقابر.قام المصريون بعمل إضراب عام شمل البلاد وشل حركتها تماماً،واعتصموا في أكبر المعابد كي يلفتوا النظر إليهم، وقاموا ببعض الأعمال التي من شأنها إجبار الملك على سماع مطالبهم كالوقوف على أبواب المعابد والهتاف بصوت عال وانطلق الكثير من المظلومين يدعون الناس إلى العصيان ومحاربة الظلم، فحطموا حاجز الخوف والتقاليد وسرعان ما استجاب باقي الشعب إلى النداء، فـاشتعلت نار الثورة في كافة أنحاء مصر. فانقلبت الأوضاع في المُجتمع رأساً على عقب وانهارت الدواوين والمحاكم ونُهبت سجلاتها وانتشرت عصابات السرقة والقتل، وأفلست الخزانة العامة، ولم يعد أحد يخشى رجال الأمن ولا النبلاء ولا الكهنة ولا الأسر المالكة، ونهب الفقراء الأغنياء واللصوص صاروا أغنياء وأصبح السادة عبيداً وتخلى الناس عن خدمة الطقوس الجنائزية وعجز الناس عن دفن جثث ذويهم فألقوا بها في النيل حتىأصبحت التماسيح ضخمة بسبب التهامها لهذه الجثث، وأصبح السادة السابقون عبيداً لعبيدهم السابقين. وتخلى القوم عن خدمة الطقوس الجنائزية الفرعونية القديمة. وظلت فالطقوس والفراعنة والأهرام والهياكل وكل ما عرفته المملكة القديمة من الأجهزة الفرعونية ثقيلة العبء، شوهت سمعته، وعاشت مصر بلا حُكام لمدة ست سنوات. والجدير بالذكر أن أحداث هذه الثورة قد جاءت في مدونة كتبها مؤرخ اسمه (ايبوير) في بردية بعنوان (صرخة نبي)، وكذلك حسب ما ورد في حجر جنوب سقّارة وهرم بيبيالثاني ونصوص الأهرام التي وجدت في أهرامات عائلة الملك بيبيالثانيفي جنوب سقّارة.