بقلم: ماجد كامل
يمر علينا اليوم أثني عشر عاما علي رحيل نيافة الحبر الجليل الانبا غريغوريوس (13 اكتوبر 1919- 22 اكتوبر 2001 ) ؛وبهذه المناسبة سوف نبحر في هذا المقال في رحلة عبر كتاباته المتنوعة في مجال التراث القبطي ؛فلقد عشق نيافته هذا التراث حتي النخاع ؛ حتي أنه سجل رسالة الدكتوراة في جامعة مانشستر في موضوع ( Greek Loan Words IN Coptic ؛ الكلمات اليونانية في اللغة القبطية ) وكانت تحت إشراف عالم القبطيات الألماني الشهير "والتر تل " وكان يعمل استاذا زائرا بجامعة مانشستر بإنجلترا ؛ اما عن الانبا غريغوريوس نفسه فأسمه بالكامل كما ورد في شهادة الميلاد هو ( وهيب عطا الله جرجس ) ولد في يوم 13 اكتوبر 1919 بمدينة أسوان ؛ حصل علي شهادة البكالوريا في يوليو 1936 .
وبالرغم من انه كان من أوائل الناجحين ؛الا ان رغبته الشديدة في حياة التكريس دفعته الي الالتحاق بالكلية الاكليركية فدخلها وتخرج فيها عام 1939 بتقدير عام إمتياز؛ ولكنه أصر علي الإلتحاق بالجامعة المصرية ؛فدرس الفلسفة بكلية الأداب جامعة القاهرة عام 1940 وحصل منها علي درجة الليسانس عام 1944 بتقدير عام جيد جدا ؛ وألتحق بعدها بمعهد الآثار المصرية "كلية الآثار فيما بعد " وحصل علي دبلوم المعهد عام 1951 بتقدير عام جيد جدا ؛ سافر بعدها الي انجلترا للحصول علي درجة الدكتوراة في العلوم القبطية Coptology من جامعة مانشتسر بإنجلترا وحصل علي الدرجة عام 1955 ؛ عاد بعدها إلي مصر .
رسم رئيسا للشمامسة عام 1959 ؛ وأشتاقت نفسه إلي حياة الرهبنة ؛فترهب بدير السيدة العذراء المحرق عام 1962 تحت أسم "باخوم المحرقي" ؛ وعين سكرتيرا لقداسة البابا الراحل كيرلس السادس (1959- 1971 ) للشئون الدينية ؛ ثم رقاه إلي درجة "الأسقف العام للدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي " في يوم 10 مايو 1967 ؛ عمل عضوا بالمجالس القومية المتخصصة "شعبتي الثقافة والتراث الحضاري والآثاري " ؛ كتب ما يقرب من حوالي 90 كتابا عدا عشرات المقالات والدراسات المتنوعة جمعت حتي الآن في 43 مجلدا ؛ شارك في العديد من اللجان والمؤتمرات العلمية ؛حتي رحل عن عالمنا الفاني في يوم الأثنين 22 اكتوبر 2001 ؛ورأس قداسة البابا شنودة –نيح الله نفسه في فردوس النعيم - الثالث الصلاة علي جثمانه الطاهر في يوم الأربعاء 24 اكتوبر 2001 .
اما عن كتاباته في التراث القبطي فسوف نبدأ أولا بالأديرة والكنائس الأثرية؛ فلقد أصدر نيافته كتابا ضخما بعنوان "الدير المحرق :- تاريخه – وصفه – كل مشتملاته " بين فيه أهمية الدير المحرق في التراث القبطي ؛فهو المكان الذي قضت فيه العائلة المقدسة أطول مدة أقامتها في مصر ؛ كذلك كان المحطة الأخيرة في رحلتها إلي أرض مصر ؛ وعن سبب تسمينه بالدير المحرق يذكر نيافته أربع نظريات ؛النظرية الأولي تقول ان الدير كان بعيدا عن الماء في معظم أيام السنة بسبب نضوب مياه الفيضان فيه قبل غيره فتحصل تحاريق في الأرض ؛فسميت الأرض بالمحرقة ؛وسمي الدير تبعا لذلك بالدير المحرق . النظرية الثانية تقول ان الحوض الزراعي الذي أقيم في وسطه الدير كانت تنمو فيه أعشاب الحلف بكثرة ؛فكانوا يجمعونها ويحرقونها بالنار ليتخلصوا منها .
النظرية الثالثة تقول أن الدير اعتدي عليه البدو واللصوص وهدموه بعد أن أحرقوه ؛ثم أعيد بناؤه بعد ذلك . النظرية الرابعة تقول أن حربا نشبت بين حاكم مقاطعة الأشمونين وحاكم القوصية ؛أنتصر فيها حاكم الأشمونين وأحرق قسقام فصارت المنطقة كلها تعرف بالمحرقة ؛وللدير المحرق عدة أسماء منها دير السيدة العذراء نسبة الي العذراء مريم التي زارت المكان وأقامت فيه ؛ التسممية الثانية جبل قسقام ؛وقسقام كلمة قبطية معناها مدفن الحلفا ؛والسبب في هذه التسمية أن فقراء المنطقة كانوا يكفنون موتاهم بالحلفاء ؛ثم عرض نيافته بعد ذلك للتطور التاريخي لعمارة الدير ؛ ورؤساء الدير عبر العصور المختلفة ؛كذلك قدم وصفا تفصيليا لمكتبة الدير ومخطوطاته ؛ ثم عرض أخيرا للنشاط الإجتماعي للدير .
كذلك أصدر نيافته كتيبا صغيرا عن القدديس سمعان الشهير بالانبا هدرا الأسواني وديره ؛ وهو دير أثري يرجع إلي القرن الخامس أو السادس لميلاد المسيح ؛وتشرف عليه هيئة الآثار المصرية رسميا وإداريا ؛وبتصريح خاص من هيئة الآثار المصرية تقيم الكنيسة القبطية قداسا إحتفاليا بكنيسة الدير في يوم 12 كيهك الموافق 21 ديسمبر من كل عام ؛وهو تذكار وفاة القديس سمعان الانبا هدرا ؛بعد ذلك ذكر نيافته المصادر التاريخية المختلفة التي كتبت عن الدير سواء كانت عربية أو أجنبية ثم قدم وصفا معماريا شاملا لكنائس الدير وسائر مبانيه ؛وفي موسوعة الانبا غريغوريوس الجزء 24 وفي ص 170 ؛171 يوجد مقال عن دير الانبا برسوم العريان ؛وهو دير أثري بني في عهد الحاكم بأمر الله ابن العزيز (985-1021 م ) وفي عهد البابا زاخارياس البابا الرابع والستون من بابوات الكنيسة القبطية ؛وعرف أولا بدير القديس مرقوريوس ابو سيفين ؛ثم سمي بعد ذلك بدير "العريان " وذلك نسبة إلي القديس الانبا برسوم العريان (1257- 1317 م) الذي أقام فيه فترة من حياته ودفن به .
ولقد قدم نيافته مذكرة مكتوبة إلي وزارة السياحة بتاريخ 18 نوفمبر 1972 قدم فيها بعض المقترحات العملية للنهوض بالسياحة الدينية في مصر ؛وأرفق بها مذكرة تتضمن ما يلي :-
اولا :- أهم المحطات في رحلة العائلة المقدسة إلي أرض مصر
ثانيا :- بيان بالأماكن التي كانت مقرا للكرسي البطريركي
ثالثا:- بيان بالكنائس الأثرية التي لها شهرة خاصة
ثم قدم بعض المقترحات التي يري أهميتها وضرورتها للنهوض بالسياحة الدينية في مصر نذكر منها :_
أولا:- بعض الأماكن يحتاج إلي تنظيف وترميم وتوسيع مع الحفاظ علي طابعها القديم
ثانيا :- تعبيد الطرق إلي بعضها بحيث يمكن الوصول اليها بالسيارات
ثالثا:- الإهتمام بالإضاءة بالكهرباء وتوصيل المياه النقية إليها
رابعا:- وضع علامات إرشادية علي طول الطريق المؤدي إلي الدير
خامسا:- تزويد بعض الأماكن بإستراحات مناسبة خصوصا في الأماكن البعيدة
سادسا:- وضع دليل مفصل باللغات العربية والأجنبية لكل الأماكن الأثرية ؛مع شرح موجز لتاريخها وبيان قيمتها الأثرية
سابعا:- وضع نبذ وكتيبات صغيرة لكل دير أو كنيسة وتزود بالصور الملونة عن معالم الدير
ثامنا:- الدعاية عن هذه الأماكن الأثرية في كتب وزارة السياحة ومجلاتها ؛كذلك عمل أفلام تسجيلية عنها ؛وتوزيعها في جميع أنحاء العالم
تاسعا:- تعيين إخصائيين في كل موقع بالتنسيق مع البطريركية للشرح العلمي والفني والترحيب بالسائحين بصورة مشرقة جذابة
عاشرا :- تبدي أسقفية البحث العلمي والثقافة القبطية إستعدادها للتعاون مع وزارة السياحة في هذا المجال
وفي مقال بعنوان "تراث الكنيسة القبطية هو التراث المصري القديم " نشر في كتاب بعنوان "مصر في المسيحية " كتب يقول ان التقويم القبطي الحالي هو بعينه التقويم المصري القديم ؛فلقد قسم المصريون القدماء السنة الزراعية إلي ثلاثة فصول كبيرة هي :-
1- فصل الفيضان (آخت)
2- فصل البذر والزرع (برت)
3- فصل الحصاد (شمو)
كما قاموا بتقسيم السنة إلي اثني عشر شهر ؛كل شهر منها ثلاثون يوما؛ وأضافوا المدة الباقية وهي خمسة أيام وربع ؛وجعلوها شهر قائما بذاته :- أما أسماء ومعاني الشهور القبطية فهي :-
1- توت :- نسبة إلي العالم المصري "تحوت" إله العلم والكتابة عند المصري القديم وهو الذي وضع التقويم ورصد النجوم
2- بابه :- يرتد اسمه في الغالب الي هابي أو جعبي
3- هاتور :- وهو أسم الإلهة المصرية "هاتهور" إلهة الحب والجمال
4- كيهك :- قيل انه نسبة إلي اجتماع الكا مع الكا (والكا هو القرين في اللغة المصرية القديمة)
5- طوبة :- قيل نسبة الي إله المطر ؛ومنه أخذ الأسم"طيبة" او الأقصر حاليا
6- أمشير :- ويقال أنه أسم إله الشياطين ؛ سمي كذلك نظرا لكثرة الزوابع في هذا الشهر
7- برمهات :- سمي كذلك نسبة إلي إله الحرارة
8- برمودة :- قيل انه نسبة إلي إله الموت ؛وهو رموتة الأفعي المقدسة
9- بشنس :- ويسمي أيضا باخون نسبة إلي الإله خونو ابن الإلهة موت
10 بؤؤنة :- ومعني أسمه "الحجر " وقيل أنه إله المعادن ؛نظرا لأن المعادن تستوي في هذا الشهر بسبب شدة الحرارة فيه
11- أبيب :- قيل انه أسم إله الفرح
12- مسري :- ومعناه "ابن الشمس " وفيه كانوا يحتفلون يميلاد الشمس
13- النسيء – ويعرف بالقبطية بالشهر الصغير
واللغة القبطية هي بعينها اللغة المصرية القديمة كما كان المصريون القدماء يتكلمونها ويكتبونها ؛ومازالت آثار هذه اللغة تعيش في بعض مفردات اللهجة العربية الدارجة مثل :-
(ليلي Leli ياعيني :_ – بمعني( أفرحي ياعيني )
امبو :_– ماء
أيوحا :_ التي يهتف بها الأطفال في شهر رمضان بمعني القمر
بخ :_ بمعني الشيطان
ولقد كتب نيافته في نفس الكتاب مقالا عن الموسيقي القبطية ؛جاء فيه أن الموسيقي القبطية هي الوريث الشرعي للموسيقي المصرية القديمة ؛احتفظ بها الأقباط في أعيادهم ومناسباتهم الدينية المختلفة ؛مع تغيير الكلمات والألفاظ حتي تتفق مع العقيدة المسيحية ؛فلحن "بيكثرونوس " الذي ترتله الكنيسة في يوم الجمعة العظيمة ومعناه "عرشك ياالله إلي دهر الدهور " هو في الأصل زفة يزف به الفرعون عند موته ؛فينزل من القبر إلي مركب الشمس ليدور مع الشمس في الخلود ؛والحياة الأبدية . كذلك لحن "غولغوثا" الذي يرتل في الجمعة العظيمة اثناء دفن صورة السيد المسيح كوسيلة إيضاح لدفن جسد السيد المسيح ؛هذا اللحن هو بعينه نفس اللحن الذي كان يستخدمه الكهنة الجنائزيون في أثناء تحنيط جثة الملك ودفنها
وفي مجال الفنون والعمارة القبطية ؛كتب نيافته مقدمة الترجمة العربية لكتاب الفريد بتلر الشهير "الكنائس القبطية القديمة في مصر " Ancient Coptic Churches of Egypt " فلقد رسم الفنان القبطي عيون القديسين متسعة كرمز وإشارة إلي الطهرة والنقاوة ؛كما كان المصري القديم يرسم عيون الملوك والملكات ؛ كذلك في العمارة ؛فالخصائص التي كانت تتميز بها العمارة الفرعونية مثل "سمك الحوائط في المعابد المصرية القديمة كذلك في الكنائس والأديرة كوسيلة للتكييف صيفا وشتاءا ؛كذلك قلة الفتحات والنوافذ ؛والنوافذ المغطاة بالزجاج الملون ؛بحيث يتوافر بالكنيسة الضؤ الخافت الذي يثير الخشوع والرهبة ؛والتركيز في الصلاة فقط . ونحن في ذكراه العطرة نهدي لروحه الطاهرة هذا المقال الذي هو من وحي كتاباته في التراث القبطي .
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع