الداهية نعرفه، أعماله تدل عليه.. ليس فى حاجة إلى إضافة شىء إليه حتى يتأكد لنا دهاؤه وإخراجه للمشهد على الوجه الذى يريده.. وهو داهية من نوع خاص، فارق هائل بين رقة حديثه ونعومة ألفاظه والهدوء الساكن بين عينيه، وما يقوم به ويقف وراءه من أحداث من شأنها إعادة تشكيل وجه مصر من جديد.. فأنى لرجل يسير بين الناس ويتحدث معهم بعذوبة شديدة، يكون هو نفسه من يجمع بين يديه كل الخيوط ويدير الأمور بصلابة وقوة وعنفوان قائد عسكرى لا يرحم.
أما الهلفوت فيحتاج إلى بعض الرتوش التى نضعها بين يديه.
كلمة الهلفوت فى الأساس لها أصل فرعونى.. مكونة من مقطعين، الأول «هال» ومعناها النصاب، والثانى «فوت» ومعناها يهرب.. وعلى الإجمال يكون الهلفوت بالفرعونى هو النصاب الذى يسرق ويهرب.. وأعتقد أن محمد مرسى يعبر عن هذا المعنى جيدا، فقد احتال هو وجماعته للفوز بالانتخابات الرئاسية، وبعدها قرر أن يخطف مصر كلها لتكون فى خدمة جماعته.. لكن الله سلم، فقد خرج من يقطع عليه طريقه قبل أن يحكم سيطرته على كل شىء.
مضى الهلفوت عبر العصور، فتعامل معه الرومان على أنه من القوادين وتجار الرقيق، ونظر له العرب على أنه من الغجر والشحاذين، ولما أصبح الإنسان يستمد قيمته من لقبه فى عهد محمد على وأسرته، فهذا باشا وهذا بك وهذا أفندى.. أصبح من لا صفة اجتماعية له مجرد هلفوت.
فى الذهنية الشعبية المصرية وبعيدا عن كل هذه المعانى، يستقر الهلفوت على أنه الرجل التافه الذى بلا قيمة، وهى أمور تحددها الأفعال.. ويترجمها محمد مرسى الذى كان مجرد تابع فى جماعة الإخوان، نفخوا فيه من أرواحهم ليكون رئيسا -هؤلاء الذين قال قائلهم يوما: «لو رشحنا كلبا ميتا لانتخبه الناس»- ليس لأنه الأكفأ ولا الأفضل، ولكن لأنه الأكثر قابلية للسيطرة وطاعة الأوامر وعدم المناقشة.. وحتى نهايته -التى يريد أتباعه الإشارة إليها على أنها بعض من آيات البطولة، فهو لا يزال صامدا- تشير إلى أنه ليس إلا تافها وبلا قيمة.
فبالله عليكم كيف لرجل أصبح رئيسا لدولة كبيرة مثل مصر وبالانتخاب ووراءه جماعة ضخمة تدعمه.. أن تنزع منه هذه الدولة فى أقل من ثلاث دقائق، هى تقريبا الفترة التى استغرقها بيان الفريق أول عبدالفتاح السيسى فى 3 يوليو 2013 الذى استجاب فيه لهتاف الملايين برحيل الرئيس الإخوانى وخلص به مصر والمصريين من مرسى ورفاقه.
قد تقول إن نتيجة المواجهة محسومة.. فأنت تضعها بين ثنائية «الداهية والهلفوت».. وعليه فليس من العدل أن نقيم مباراة بينهما.. لكن ماذا نفعل ودراما العلاقة بين السيسى ومرسى تفرض نفسها علينا.. دراما بدأت بما يمكن أن نسميه الإعجاب والارتياح وانتهت بالصدام العنيف الذى لم يبق وراءه شيئا ولم يذر.. دراما تسجل من بين ما تسجل جزءا مهما من تاريخ مصر.
تحت السطح كثير مما لا نعرفه.. وأعتقد أنه من حقنا أن نعرف.. على الأقل حتى نفهم بعضا مما جرى.. نعرف لماذا يصر مرسى وجماعته وإخوانه على أن ما حدث انقلاب؟.. ولماذا
يصر الشعب والجيش فى المواجهة على أن ما جرى كان ثورة حقيقية؟
فى هذه الحلقات بعض من الإجابة.
إذا بحثت عن أكثر خمسة فى مصر يعرفون الإخوان المسلمين جيدا فسيكون السيسى واحدا منهم، وإذا بحثت عن أكثر ثلاثة يعرفون الجماعة جيدا فى مصر فسيكون السيسى واحدا منهم، وإذا بحثت عن أكثر من يعرف أبناء حسن البنا وما يريدون وما يخططون له فى مصر فسيكون السيسى.
لا تضع هذا الكلام على هامش حالة الهوس الجماعى بالفريق أول عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع، فهو عن حقيقة لا يمكن أن يتجاهلها أحد، فلو لم يكن يعرفهم ويدرك ما يخططون له، لما حمل رأسه على كفيه وتحمل مسؤولية دعم ومساندة ثورة كان هدفها ليس إزاحة مرسى من حكم مصر فقط، ولكن إخراج الإخوان المسلمين من المشهد السياسى تماما.. ثورة فشلها لم يكن له سوى معنى واحد هو إعدامه وتعليق رقبته فى ميدان التحرير.
لكن كيف عرف الفريق السيسى جماعة الإخوان المسلمين؟
كيف تعرف تحديدا على صقور الجماعة الذين تولوا قيادتها فى الفترة التى أعقبت ثورة
يناير، وحتى خروج الجماعة برئيسها خروجا مذلا بثورة يونيو؟
عندما تخلى مبارك عن السلطة فى 11 فبراير 2011، وتكليف المجلس العسكرى بإدارة شؤون البلاد، لم يكن اللواء عبدالفتاح السيسى بعيدا عن قلب الحدث، صحيح أنه لم يكن وجها إعلاميا بارزا.. لكنه كان حاضرا حضورا بالغا من وراء الستار.
تقريبا لم يتحدث إلا مرة واحدة خلال الفترة الانتقالية عندما اعترف بإجراء فحوص كشف العذرية معللا ذلك بأنه لحماية رجال الجيش ولحماية من يتم القبض عليهن، وكانت هذه شجاعة نادرة منه، فقد اعترف بينما أنكر آخرون من رجال المجلس العسكرى.
وتقريبا لم يأت الإعلام على سيرته إلا مرة واحدة.. لكنها كانت صاخبة ومدوية، وذلك عندما وضع بعضهم اسمه فى جملة مفيدة متهما إياه بأنه رجل الإخوان المسلمين فى المجلس العسكرى، وهو ما لم يعلق عليه السيسى وقتها ولم يهتم به من الأساس.
البعد عن الضوء لم يكن معناه أنه بعيد عن التأثير، كان السيسى - المولود فى 19 نوفمبر 1954 - أصغر أعضاء المجلس العسكرى سنا، لكنه كان أكثرهم أهمية، فطبيعى أن يكون رجل المعلومات الأول فى المجلس بوصفه مديرا للمخابرات الحربية هو من يحدد التوجهات والسيناريوهات وربما القرارات.. فهو من يعرف، ثم أنه كان يحظى بثقة المشير محمد حسين طنطاوى.. الذى كان قد عينه قبل ذلك رئيسا لفرع المعلومات والأمن بوزارة الدفاع.. وهو منصب بالمعايير الأمنية والعسكرية يعتبر الأهم داخل الوزارة.
تعرف السيسى على قيادات الإخوان الكبار - لم يكن مرسى من بينهم بالطبع - عن عمد، أما المعزول فقد تعرف عليه وزير الدفاع مصادفة، أو لنقل أن الأقدار وضعتهما وجها لوجه فى لحظة يمكن أن نؤرخ بها لمشوار امتد لما يقرب من العامين.
أما ما أقصده بالمعرفة عن عمد، فهى تخص معرفة عبدالفتاح السيسى بمحمد بديع مرشد جماعة الإخوان المسجون فى طرة الآن ونائبه الأول خيرت الشاطر الذى يجاوره فى نفس السجن، فقد كان يستضيف بديع والشاطر فى مكتبه بمبنى المخابرات الحربية، وعقد معهما عدة اجتماعات بالفعل فى حضور المشير طنطاوى والفريق سامى عنان.. وهى الاجتماعات التى كانت تفرضها طبيعة الأزمات التى جمعت بين الإخوان والمجلس العسكرى خلال الفترة الانتقالية.
السؤال: لماذا كانت تعقد تلك الاجتماعات فى مكتب عبدالفتاح السيسى بمبنى المخابرات الحربية، ولا تعقد فى مكتب المشير طنطاوى أو مكتب الفريق عنان فى وزارة الدفاع.. ولماذا لم يحضرها من الأساس بقية أعضاء المجلس العسكرى، وهل كان هناك فى الأمر ما ينبغى إخفاؤه؟
والإجابة: أن اختيار مكتب عبدالفتاح السيسى لعقد هذه اللقاءات كان لسبب بسيط، وهو أن مدير المخابرات الحربية كان المكلف بإدارة ملف الجماعات الإسلامية ومن بينها الإخوان المسلمين بعد الثورة، وذلك بحكم نشاط الجهاز المعلوماتى وقدرته على متابعة نشاط هذه الجماعات التى تشظت وانتشرت بعد الثورة، ولم يكن أحد يعرف على وجه التحديد أولها من آخرها.
أما لماذا لم يحضر آخرون؟
فربما تكون هناك تفاهمات من نوع ما جرت فى هذه الاجتماعات، وإن كنت أرجح أنها كانت تفاهمات من أجل المرور بمصر من المرحلة الانتقالية بسلام، وكان طنطاوى وعنان مقتنعين بالفعل أن جماعة الإخوان المسلمين هى الجماعة الأكثر تنظيما والأكثر قدرة على العمل، ولا أعتقد أن اللواء عبدالفتاح السيسى وقتها كان بعيدا عن هذا التصور، فكل الطرق كانت تؤدى إليه، خاصة أن المجلس العسكرى كان قد دعم الأحزاب الجديدة، وخاصة تلك التى أسسها شباب الثورة، ومن بينها حزب العدل الذى أسسه ورأسه مصطفى النجار، للدرجة التى كان المجلس العسكرى يدفع فيها تكلفة الإعلانات عن الحزب فى الصحف دعما له ومحاولة لتسويقه شعبيا، لكن فى النهاية لم يستطع أحد أن ينافس الإخوان المسلمين.
فى الاجتماعات التى كان الفريق السيسى يحضرها عندما كان مديرا للمخابرات سواء فى المجلس العسكرى، أو فى مكتبه مع قيادات جماعة الإخوان المسلمين، كان يضع ما لديه من معلومات أمام الموجودين، ويشرح سيناريوهات التعامل مع المواقف، ثم يترك المجتمعين ليأخذوا هم القرار.. ويشهد له من يعرفه أن من بعض دهائه أنه كان دائما ما يعرض ما لديه من معلومات ويشرح ما يمتلكه من سيناريوهات بالطريقة التى تدفع المجتمعين إلى اتخاذ القرار الذى يريده هو، والذى حدده مسبقا.
كان الفريق السيسى سببا فى امتصاص كثير من غضب جماعة الإخوان وتوترها.
وأعتقد أن البداية كانت من هنا.
فى 15 إبريل 2012 كان المشير طنطاوى قد دعا إلى اجتماع يحضره ممثلو القوى السياسية المختلفة، وبحضور عدد من نواب مجلس الشعب المستقلين.. لمناقشة أزمة إعادة تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور بعد حكم محكمة القضاء الإدارى الذى قضى بحل الجمعية.