عاد ملف مكافحة الإرهاب ليحتل صدارة اهتمامات الرأي العام حيث خصصت له وسائل الإعلام المحلية صفحاتها الأولى، بعد حادثتي الأربعاء التي راح ضحيتها إرهابي انتحاري كان ينوي تفجير أحد النزل بمحافظة سوسة السياحية، فيما تم إلقاء القبض على الانتحاري الثاني الذي كان استهدف مقبرة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة بمحافظة المنستير التي لا تبعد كثيرا عن سوسة، مما أفشل مخططه وجنب البلاد كارثة بشرية حقيقية.
فالتونسيون الذين استفاقوا صباح الأربعاء على أخبار رعب بعد أن كان الاطمئنان عاد إليهم ولو نسبيا إثر نجاح قوات الأمن والجيش في إحكام قبضتها على أوكار الإرهابيين في الشمال والجنوب بعد سقوط ضحايا في صفوف الأمن على أيدي مجموعات مسلحة أمكن القضاء على البعض منها وإلقاء القبض على البقية، أضحوا يشعرون بالخوف من ارتياد الأماكن العمومية ويتحاشون التنقل بين المحافظات إلا للضرورة القصوى.
وأصيب كافة التونسيين من سياسيين وغيرهم بحالة ذعر شديدة جراء الانتقال النوعي للأعمال الإرهابية التي أضحت الخبز اليومي لعموم التونسيين في مختلف جهات البلاد.
ووفق أحد الخبراء الأمنيين، فإن الجماعات المسلحة دخلت مرحلة العمليات الانتحارية مستعملة في ذلك الدروع البشرية من شباب لم يتعد أعمارهم العشرين عاما، وذلك بسبب هششاشة أوضاعهم الاجتماعية وسرعة التأثير عليهم عبر غسيل لأدمغتهم الغضة.
فقد أفاد مصدر أمني بأن الشباب أصبح اليوم مهدد بالاستقطاب من طرف الجماعات المتشددة بسبب تراجع سلطة الأسرة وتضاعف نسبة البطالة والفراغ النفسي الذي يعيشونه مما جعلهم فريسة سهلة لقياديي التيارات المتطرفة التي تستبيح دم أبناء الوطن الواحد بدون مبرر.
ولم يعد الأمنيون يخفون خشيتهم من استفاقة الخلايا النائمة للإرهاب بعد اكتشافهم مخازن كبيرة للأسلحة والأحزمة النازفة في مناطق متفرقة من البلاد اثر كل عملية إرهابية تسجل أو حتى بمجرد عمليات تفتيش واسعة ودقيقة.
وبقدر التعاطي الأمني مع كل مشتبه فيه بالإنتماء إلى الجماعة الإرهابية المتخفية في جهات مختلفة، بقدر تمكن هذه العصابات من الإفلات من قبضة الفرق الأمنية المختصة والمنتشرة في كل مكان رغم تضييق الخناق عليها، إلا أنها تنجح في كل مرة في تنفيذ مخططها الجهنمي غير عابئة بالعواقب.
فلا أحد ينكر اليوم الأضرار الجسيمة التي لحقت ولا تزال بأمن الشعب وباقتصاد البلاد، فعمليتي الأربعاء وجهت ضربة قاصمة للسياحة التي تشغل قرابة 400 ألف تونسي ويعيش من مداخيلها قرابة المليونين، فوكالات الأسفار العالمية أقرت بتراجع الآلاف من السياح الغربيين عن حجوزاتهم في اتجاه تونس بعد يوم الأربعاء الأسود الذي تلى أربعاء أسود آخر حمل معه جثث 6 أعوان من الحرس الوطني قتلوا على أيدي إرهابيين قذرين في الجنوب التونسي من خلال كمين نصبوه لحراس الأمن.
وإزاء هذا التصعيد النوعي للعمليات الإرهابية وتغيير هدفها من إرباك المشهد الأمني الذي كانت العصابات تهدف إليه وتشتيت جهوده، وجهت سمومها وأسلحتها نحو النزل السياحية والمنشآت العمومية لتزيد من تخوفات الأمنيين من ردود فعل الجماعات الإرهابية على حملة الاعتقالات الواسعة على المتشددين منهم والضالعين في الأحداث التي تشهدها تونس منذ أشهر.
وكانت مصادر استخباراتية أمريكية وألمانية حذرت نظيرتها التونسية من أحداث إرهابية يقع التخطيط لها وتستهدف مؤسسات عمومية وفضاءات تجارية كبرى، قد استوجبت استنفارا أمنيا واسعا حيث انتشرت دوريات ثابتة ومتحركة في شوارع المدن وفي القرى والأرياف تحسبا لوقوع أعمال إرهابية قد تصيب البلاد في مقتل، خاصة والسياسيون غارقون في تجاذباتهم بخصوص اختيار رئيس لحكومة الكفاءات المستقلة الجديدة وفقا لخارطة الطريق التي تم الاتفاق بصددها خلال جلسات الحوار الوطني.
وكما كان منتظرا فقد القت العمليتين الإنتحاريتين بظلالها على مجريات الحوار الوطني الذي تتواصل أعماله بشكل حثيث، حيث ضاعفت من مخاوف الفرقاء السياسيين من تواصل الهجمات الإرهابية على البلاد وجعلتهم أكثر إصرارا على التوصل إلى توافق بشأن تنفيذ بنود خارطة الطريق التي اقترحها الرباعي الراعي للحوار ووافقت عليها القيادات الحزبية المشاركة فيه.
إلى ذلك انحسر السباق نحو منصب رئيس الحكومة بين شخصيتين فحسب بعد اعتذار شخصيتين لتقدمهما في السن وعدم قدرتهما على إدارة البلاد للأسباب صحية بحتة، فيما واصل طرفا الصراع، حكومة الترويكا والمعارضة، تمسكهما باختيارهما وترجيح كفة مرشح كل طرف لإعتلاء سدة الحكم.
أما الشارع التونسي الذي ضاق صدره بتلاعب السياسيين بمصيره دون مبالاة بالمخاطر المحدقة به، فقد انبرى يكيل الاتهامات للنخبة السياسية التي كانت، حسب رأيه، السبب في الأزمة السياسية الخانقة التي فجرت الإرهاب وساهمت بتجاذباتها في بسط نفوذه في البلاد.
وينظر المحللون السياسيون الذين باغتتهم التطورات النوعية للعمليات الإرهابية وأصابتهم بصدمة عنيفة، فقد اجمعوا على أن الإنفلات الأمني وتدهور صورة السلطة وضعف الدولة والمعارضة معا، إلى جانب غياب السلطة الأسرية بعد الثورة، كلها أسباب استفاقة الخلايا الإرهابية النائمة التي سخرت طاقاتها من أجل ادخال السلاح وتوزيعه على عناصرها المتشددة إضافة إلى مرورها إلى السرعة القصوى في تنفيذ مخططاتها الإجرامية.
خبراء العلوم الاجتماعية دقوا هم أيضا نواقيس الخطر محذرين من تنامي الفكر المتشدد ومزيد استقطاب الشباب المهمش واستغلال المساجد لنشر أطروحاتهم الهدامة دون أن تتمكن السلطة القائمة من صدهم وضع حد لنشاطاتهم.
ولا أحد يستبعد تواصل العمليات الانتحارية في ظل تقاعس الدولة على الضرب بيد من حديد على جيوب الردة الذين يبثون سمومهم في عقول الشباب العاطل عن العمل والذي يحتاج إلى احاطة اجتماعية وتربوية واسرية ليعود اليه رشده.
فخلق مواطن الشغل الذي كان هدفا لقيام ثورة الرابع عشر من يناير 2011 لم يجد طريقه إلى التنفيذ وظل آلاف الشباب من حاملي الشهادات العليا عاطلين عن العمل وبالتالي لقمة سائغة في ايدي اصحاب الفكر المتطرف يستقطبونهم بالدمغجة الإيديولوجية تارة وبالأموال الطائلة تارة أخرى، إلى أن اكتسبوهم كعناصر أساسية مهمتها تنفيذ المخططات الإرهابية التي تهدف إلى ضرب استقرار البلاد وزعزعة أمنها وادخالها في بوتقة الفوضى التي يصعب الخروج منها.