الأقباط متحدون - ليلة بلا قـمـر
أخر تحديث ٠٧:١٨ | الثلاثاء ٥ نوفمبر ٢٠١٣ | بابه ١٧٣٠ ش ٢٦ | العدد ٣٣٠٣ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

ليلة بلا قـمـر

قصة قصيرة 
أحمد الخميسي
 

أمام مربط الخيول علقوهم. تحت سماء بلا قمر. عشرون رجلا كتفا إلي كتف. ظلال ترتجف على الأرض. دفقة أخيرة من دفء أبدانهم تطفو في الجو. ثلاثة خفراء تربعوا بالقرب من المشانيق حول قش مشتعل وسيوفهم بجوارهم. 
 
كانوا يغمسون لقم البتاو تحت ظلال الموت في صحن مش أزرق، يمضغونها بقوة وإصرار ملتزمين الصمت. أحسوا بالشبع فارتدوا بظهورهم إلي الوراء، وأطلق أكبرهم سنا زفرة " ليس من السهل أن تعلق في ليلة عشرين رجلا". أرجح النحيف رأسه يؤيده" ليس سهلا". تثاءب ثالثهم القصير ذو الرأس الحليق المدور فاغرا فمه. وبخه العجوز" اغلق فمك. إنه طريق الشيطان إلي المؤمن". ثبت النحيف إلي العجوز نظرة متسائلة. جرجر العجوز صرة معقودة بالقرب من ساقه. وضعها في منتصف الحلقة بينهم. حل عقدتها فظهرت خواتم بفصوص كريمة ومسامير من الذهب أطرافها مشتبكة بنسيل خيوط من عمائم المشنوقين. أخذت المجوهرات تتوهج وتنطفيء على نور الشعلة. مسد العجوز ذقنه البيضاء مشغولا بخاطر. سادت لحظة صمت. بسمل العجوز ورفع الجزء الأكبر من المجوهرات وأعاده إلي الصرة وعقدها قائلا " هذا حق أتابك العسكر يأخذه في الصباح" . بقيت على الأرض عدة خواتم ومسامير. زحزح إلي كل من الرجلين حصة ودس نصيبه في كيس مدلى من رقبته.   
 
 قبض القصير على نصيه ونهض. التقط سيفه وشده إلي خصره. سار مبتعدا ليقضى حاجته وراء نخلة. سرعان ما هرول راجعا مضطربا " يا جماعة. ثمت مشنوق ناقص".انتفض العجوز والنحيف واقفين. قال القصير" مرتين أحصيتهم بعيني من وراء النخلة. تسعة عشر". أضاف مكروبا" ثمت مشنوق ناقص يا أخوان". ارتجف صوت العجوز" ما الذي تقوله؟ قام أتابك العسكر بتسليمنا عشرين رجلا؟! ". هتف القصير" لابد أن الحبل لم يكن محكما على رقبة أحدهم، أو أن الأهالي تسللوا خسلة ونزعوا أحدهم. ثمت واحد ناقص".  
 
 اندفع الثلاثة معا إلي الأمام بغضب ويأس. توقفوا في مواجهة المشنوقين. مر كل منهم بعينيه على الرجال يحصي عددهم. مرة. اثنتين. العدد تسعة عشر. تهدلت كتفا النحيف " إذا جاء أتابك العسكر ووجد فردا ناقصا سيأمر بضربنا بالمقارع حتى الموت". تمتم القصير" فلنقرأ الشهادة على أرواحنا إذن". حدق العجوز بالفراغ المعتم ثم قال من بين أسنانه المهشمة " سنجثم في الظلمة. ننتظر إلي أن يرزقنا الله بعابر طريق". هرول القصير إلي الشعلة. أطفأها بضربات متتالية من قدمه. عاد مسرعا إلي الرجلين المحتجبين بالنخل. 
 
 انقضت ساعة تحت السماء الغائمة. أبصارهم مثبتة إلي الطريق من دون أن يتبادلوا كلمة واحدة. ساعة أخرى تعلو صدورهم وتهبط بأنفاسهم ولا شيء. أخيرا تناهي إليهم دق سنابك على الأرض. انتبهوا. تبادلوا نظرات سريعة تلمع كالبرق. كتموا أنفاسهم. بعد قليل لاحت على الطريق مهرة على سرجها فتى لا يتجاوز السادسة عشرة بتلفيحة على عنقه. رفع القصير كفيه للسماء" لك الحمد والشكر يا أرحم الراحمين". حاذتهم المهرة فخرج الثلاثة إليها وقد رفعوا سيوفهم. ارتبك الفتى وشد اللجام متوقفا. نظر إلي اليأس والإصرار في وجوههم فانقبض قلبه وألقى عليهم السلام دفعا للخطر. 
 
    قبض العجوز على اللجام"اهبط". تلعثم الفتى وخطف الخوف وجهه " ذهبتُ بأمي إلي خالي لأنه على فراش الموت وعائد إلي داري". كرر القصير بحزم" قال لك اهبط فاهبط إذن"، ولم يمهله، أمسكه من ساقه وجذبه بقوة إلي أسفل فانزلق الفتى من على السرج منكفئا على وجهه. لملم نفسه من على ألأرض ونهض واقفا. بدا قصير القامة بساقين مقوستين مثل مهرج ضخم الرأس وعيناه زائغتين. أخذ يشرح كالمعتذر" ذهبتُ بأمي وأعود لداري". أمعن النظر في الوجوه الثلاثة الصلبة المغلقة. قال لنفسه " ثمت شيء غلط . شيء مرعب". تلفت حوله باحثا عن بادرة أمل، فلم يجد سوى سكون وعتمة تتدفق بريح سوداء. ارتد بصره إليهم متمتما " خذوا المهرة. والله ما معي شيء. أنا فقط ذهبتُ بأمي".    
 
    جره القصير من رقبته بالقوة إلي الأمام، بينما كان العجوز والنحيف يحثانه على السير بلكمات من الخلف. كاد أن يقع على وجهه. اعتدل وأدرك أن أمامه فرصة واحدة صغيرة أن يتودد ويتقرب إليهم. قال لهم" أنا نقاش. من حارة الطبق. جئت من بلدنا إلي خالي ليعلمني الصنعة. لكن والله ما معي شيء ياجماعة" واصلوا دفعه للأمام وهو يواصل " حارة الطبق بيعت بيوتها في المجاعة بطبق من الخبز. كل دار برغيف. فسميت حارة الطبق. أنا من هناك. والله ما معي شيء يا إخوان". صده صمت حجري فتمتم بيأس" أنا فرج. إسألوا عني في الحارة . خذوا المهرة. أنا في حالي". دفعوه إلي الأمام. تشبث نعله بالأرض وهو يرى أنه يدنو من الموت " أنا في حالي". زغده القصير في كتفه" امش وأنت ساكت". جرجروه عدة خطوات فلاحت أمامه جثامين المشانيق المعلقة. غرز عقبيه في الأرض. توالت اللكمات القوية على وجهه ورقبته. التفت ذراعاه على ساق نخلة. فك القصير ذراعيه وأعاده إلي الطريق. نظر إلي المشانيق " ثمت غلطة ". عكف على ركبتيه يزحر" لم أفعل شيئا ياجماعة". هبط خدر ثقيل عليه، وصارت خطوته بطيئة. تدفقت إلي ذهنه دوامة منهكة من صور ساطعة غير مكتملة واستولت عليه رغبة وحشية في أن يصرخ بقوة. صاح " ثمت غلطة. لست أنا من تبحثون عنه". زجره القصير" بل أنت. تقدم للأمام". بلغوا به سلما خشبيا صغيرا من درجتين يصعد إلي المشنقة. رفعوا قدمه ووضعوها على السلم. الآن يشعر أنه يمشي على الحد الدقيق الفاصل بين عالمين متجاورين، يراهما في لحظة واحدة. 
 
عندما رفعوه إلي أعلى ورأى الأنشوطة تتأرجح أمامه في الهواء تهدم وعيه مثل بيت يتساقط. قرأ الشهادة " أشهد ألا إله إلا الله". قيد القصير يديه من الخلف بحبل غليظ قائلا " لو أنك مؤمن حقا لألهمك إيمانك أن تتخذ طريقا آخر"وشد وثاقه بقوة. الآن تأكد أنه لا أمل، فلم يعد قادرا على تذكر الكلمات لملاحقة مايدور في ذهنه." ذهبت بأمي. فرج. أشهد ألا إله إلا الله". أسقط العجوز الأنشوطة حول رقبته وزجره قائلا " المؤمن الحق يفرح بالموت لكنك مذعور". برق في عينيه ومض ملتاث. اندفعت إلي رأسه بضغط عنيف صور مفتتة مثل وعي يتمزق، ذكريات، كلمات، أصوات، روائح. رفع العجوز إحدى ساقيه لأعلى وغرز قدمه في خصر الفتى ودفعه في الهواء. تأرجح قليلا وضربت ذراعاه الهواء أمامه وفي عينيه لمعة الجنون. 
 
 مكث الرجال الثلاثة صامتين يراقبون أطراف الفتى تهتز في الجو. هبطوا وابتعدوا خطوات قليلة. توقف العجوز ومر ببصره على المشانيق.
قال      "عشرون". لاحظ النحيف" لكن جثمان الفتى أقصر من الآخرين بكثير". عقب العجوز " أقصر أطول المهم أنهم عشرون". 
    ساروا ببطء نحو شعلة القش. تربعوا من جديد وألقوا سيوفهم بجوارهم. حمحمت الخيل في مربطها تضرب الأرض بقلق. مسح العجوز وجهه بكفيه ورفع رأسه لأعلى " لك الحمد والشكر". 
 
 
 
 
 
 
 
 

 


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter