بقلم أحمد عبدالمعطى حجازى | الجمعة ٨ نوفمبر ٢٠١٣ -
١٨:
٠٢ م +02:00 EET
لم أستغرب حين قرأت فى الصحف أن شاعراً قطرياً لم أسمع باسمه من قبل حكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً بعد أن اتهم بكتابة قصيدة يحرض فيها على قلب نظام الحكم فى قطر.
وأذكر أن بعض الصحف المصرية نشرت هذا الخبر منذ حوالى شهرين، دون أن تعرفنا بالشاعر، ودون أن تقدم لنا القصيدة المتهمة، أو تقدم منها ما نستطيع به أن نحكم على قيمتها أو نفهم الأسباب التى دعت لاتهامها بالتحريض على قلب نظام الحكم وهل كان هذا التحريض كلاماً مباشراً؟ أم كان مجرد تلميح دون تصريح؟ وأذكر أنى انتظرت أن تتابع الصحف التى نشرت الخبر هذه القضية وتكشف لنا ما نجهله فيها، وتساعدنا على فهمها، وأداء ما يجب علينا إزاء الشاعر الذى بدا لنا حكم المحكمة بحقه بالغ القسوة. لكن أحداً لم يتابع القضية فى وقتها رغم ما أثارته من الفضول والرغبة فى معرفة ما حدث، ورغم أن مسرحها هو إمارة قطر التى أصبحت طرفاً فى قضايا تهم الجميع الآن، ولهذا تراجع الموضوع فى الذاكرة حتى أثير أخيراً من جديد، والفضل لشبكات المعلومات التى وفرت لنا ما كان يجب أن نعرفه عن الشاعر والقصيدة وعن المحاكمة والحكم الذى صدر ضد الشاعر وما أثاره فى أوساط عربية ودولية من اعتراض واستنكار، فباستطاعتنا الآن أن ننظر فى هذه القضية ونؤدى ما يجب علينا نحوها ونحو صاحبها.
وأنا لم أستغرب كما قلت حين قرأت الخبر، لأن المناخ العربى السائد منذ عقود وعصور مناخ معادٍ لحرية التفكير والتعبير. وقد عشنا نحن المصريين سنوات طويلة فى ظل هذا المناخ الذى تعاونت فى صنعه قوى وأطراف مختلفة فى مقدمتها أجهزة السلطة وجماعات الإسلام السياسى، والمؤسسات والمعاهد الدينية، وحتى المجالس النيابية والمحاكم، وأجهزة الإعلام والصحف، وما علينا إلا أن ننظر قليلاً للوراء ونتذكر قانون الحسبة وفتوى طارق البشرى فى مجلس الدولة، والجرائم التى راح ضحيتها فرج فودة، ونجيب محفوظ، ونصر حامد أبوزيد، وأن نعود لقطر لنرى ما حدث لرجاء النقاش على أيدى الوهابيين القطريين الذين حكموا عليه بالجلد، لأنه نشر فى المجلة التى كان يرأس تحريرها مقالة لم تعجبهم، وقد فر من قطر وعاد إلى مصر قبل أن توقع عليه العقوبة الهمجية ونحن نتلفت حولنا فنرى أن ما تعرض له المثقفون المصريون تعرض له ولأكثر منه المثقفون العرب فى كل أقطارهم، فليس غريباً إذن أن يلحق بهم شاعر من قطر لم يقرأ «كليلة ودمنة» ليعرف أن من خصال الرجل العاقل كما جاء فى وصية من الوصايا «طاعة الملوك والتحرى لما يرضيهم، وأن يكون على أبواب الملوك أديباً ملق اللسان، وأن يكون لسره وسر غيره حافظاً، وأن يكون على لسانه قادراً فلا يتكلم إلا بما يأمن تبعته، وأخيراً إن كان بالمحفل لا يتكلم إلا بما يسأل عنه!».
غير أن هذا المناخ العربى المعادى للحريات المؤيد بسلطات الدولة وقوانينها، وبالجماعات الدينية وفتاواها لا يمنعنا من التعبير عن تضامننا مع الشاعر القطرى الضحية، وعن استنكارنا للحكم الظالم الذى صدر بحقه، واعتباره دليلاً ساطعاً على أن النظام الحاكم فى قطر لا يفتقر للديمقراطية وحدها، بل يفتقر حتى لما يجب أن يتحلى به الطغيان من قدرة على ضبط النفس، وتوقع ردود الفعل وتجنب الضغط الشديد على الآخرين واستفزازهم ودفعهم لليأس الذى قد يخرجهم عن طورهم ويدفع بهم إلى أى مخاطرة تخلصهم مما يعانونه ولو كلفتهم حياتهم ذاتها.
هذه القسوة أو بالأحرى هذه «البلطجة» التى تعاملت بها السلطة القطرية مع الشاعر المعارض هى ما يستفزنا أكثر من غيرها، خاصة ونحن نرى كيف تلعب هذه السلطة دور الزعيم الواقف على حدود المنطقة يدعو شعوبها للثورة على الطغيان، موظفاً فى ذلك قاعدته الأمريكية، وثروته النفطية، وعلاقاته الإسرائيلية، وقناته الفضائية، ويوسفه القرضاوى رئيس الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين؟
ونحن الذين نجلس فى مقاعد المتفرجين ونتابع هذه التمثيلية لا نملك إلا أن نضحك، لا كما نضحك من عجز العاجز عن الوصول إلى غايته وعجزه فى الوقت نفسه عن الإقرار بعجزه والتسليم بفشله، فهو لا يكف عن المحاولة ولا يكف عن الفشل، بل نحن نضحك من هذه المفارقات التى لا تكف السلطة القطرية عن تقديمها لنا وهى تؤدى دورها المسرحى. أن تتصدى قطر لقيادة الشعوب العربية هذه مفارقة، وأن تكون الديمقراطية هى الراية التى ترفعها السلطة القطرية مفارقة أخرى، وأن تغنى قطر للحرية وترقص لها ثم تحكم بالسجن المؤبد على شاعر لم يفعل إلا أن غنى هو أيضاً للحرية مفارقة ثالثة، وأن تكون جماعات الإسلام هى الأدوات التى تستخدمها قطر فى دعوة الربيع وبناء الديمقراطية!
هذه كلها مفارقات مضحكة مثيرة للسخرية والاستهزاء تستفزنا قبل أن يستفزنا الحكم الذى صدر بحق الشاعر القطرى، وبحق قصيدته التى قرأتها أخيراً، وقرأت ما دار حولها وحول صاحبها فرأيت مفارقات أخرى عديدة.
لقد اتهمت هذه القصيدة بالتحريض على قلب نظام الحكم قبل أن تنشر، وكان صاحبها محمد بن راشد العجمى، الملقب بابن الذيب، قد كتبها ولم ينشرها فى أى صحيفة، ولم يلقها فى أى محفل عام أو فى أى جهاز من أجهزة الإعلام، وإنما اكتفى بقراءتها فى جلسة مع بعض أصدقائه فى شقته بالقاهرة، فسمعت بذلك السلطات القطرية وقبضت عليه بعد عودته وقدمته لمحاكمة سريعة انتهت بإدانته والحكم عليه بالسجن المؤبد الذى استأنفه فخفف إلى السجن خمسة عشر عاماً قضى منها عامين حتى الآن.
والقصيدة المتهمة مكتوبة باللهجة الخليجية التى لا أستطيع أن أتذوق ما ينظم فيها، ولا أستطيع الحكم عليه من الناحية الفنية، وإن فهمت من القصيدة أن صاحبها يهنئ تونس بثورتها- ثورة الياسمين- التى تخلصت فيها من حكم الطاغية بن على، ويتمنى للبلاد العربية التى ترزح تحت الطغيان أن تنال حريتها هى الأخرى.
لم يسم لا بلده ولا بلداً آخر، وإنما عمم الحكم على البلاد العربية كلها وله الحق، ثم تساءل «دامها تستورد من الغرب كل أشياءه ليه ما تستورد القانون والحرية؟!»، أى ما دامت تستورد كل ما ينتجه الغربيون، لماذا لا تنقل عنهم حكم القانون والديمقراطية؟
هل هذا شعر؟ ربما لكننا هنا لا نحكم على ما فى القصيدة من شعر، وإنما نحكم على ما فيها من سياسة.
طبعاً فى القصيدة فرح وتفاؤل بالربيع العربى، وفيها تحذير للطغاة العرب وتبشير بالديمقراطية، فهل يستحق صاحب هذه القصيدة أن يسجن خمسة عشر عاماً؟ وهل تكون السلطة التى قدمته للمحاكمة وألقت به فى السجن سلطة شرعية؟ وهل يجرؤ الذين تستخدمهم هذه السلطة على أن يرفعوا أصواتهم بعد اليوم بكلام عن الثورة؟! هل يجرؤ الشيخ القرضاوى على أن يتحدث بعد اليوم عن الحرية التى يدعى حبها وهو يخونها جهاراً نهاراً مع مشايخ الخليج؟ وهل نجرؤ نحن على أن نتحدث بعد اليوم عن الديمقراطية وعن حرية التفكير والتعبير والإبداع والاعتقاد إذا سكتنا عن مصادرة برنامج باسم يوسف، رغم ما قد يكون لنا عليه من تحفظات؟!
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع