بدأ استئصال الأقباط من الحياة السياسية المصرية، مع استيلاء ضباط يوليو 1952 على الحكم، فرغم أن أساس ذلك العصر، وما تلاه من عصور هي امتداد له، كان مصادرة الحياة السياسية بصورة عامة، وحصرها على دائرة المغامرين الذين نجحوا في القفز إلى كراسي السلطة، إلا أن مبدأ توظيف "أهل الثقة" وليس "أهل الخبرة"، الذي ساد بصورة تامة في الحلقة الأولى من انقلاب يوليو 52، وهي الحقبة الناصرية، أدى إلى استبعاد الأقباط تماماً من الحياة السياسية، إذ لم يكونوا "أهل ثقة"، بالنسبة للضباط المغامرين، الذين انتمى الكثيرون منهم لجماعة الإخوان المسلمين.
فرغم أن عصر عبد الناصر اتسم سياسياً واجتماعياً بمظهر علماني، صاحبه مسحة من التسامح، إلا أن وضع الأقباط كان أقرب لتوصيف "أهل الذمة"، أو "مواطنون درجة ثانية"، حيث لم يتم استهدافهم بخطاب أو فعاليات عدائية، كما حدث بعد ذلك في عهدي السادات ومبارك، لكنهم ظلوا كمن يتحرك تحت سقف منخفض، ولا يفكر هو أساساً في رفع رأسه، حتى لا يصطدم به، وربما لهذا نسمع الآن من البعض، تعليقاً على مطالبات الأقباط، أن "الأقباط قد رفعوا صوتهم أعلى مما ينبغي". هكذا بدأنا منذ عهد عبد الناصر نسمع عن صداقة وود متبادل بين رئيس الجمهورية وبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، صاحبة الأغلبية من المسيحيين المصريين.
وكان هذا إيذاناً ببداية عصر اختزال الأقباط في شخص واحد، هو شخص "سيدهم البطريرك". وبداية الإرهاصات الأولى لتحول خطاب الكنيسة، ولتوسع نشاطها المجتمعي الخدمي. لتحل لدى الأقباط محل "الوطن المفقود" أو "المُنتزع منهم". ما تفاقم في عهد السادات، بسبب نزوعه لتوظيف قوى الإسلام السياسي لتكون ظهيراً له. وإعلانه أنه "رئيس مسلم لدولة إسلامية يسكن فيها أقباط". وتصادف وجود بطريرك على الكرسي المرقسي، ذي شخصية
كاريزمية ومثقفة وطموحة. فقرر أن يشاركه حكم البلاد، بأن يكون هو الرئيس الديني والسياسي معاً للأقباط. وكان من الطبيعي أن يثير هذا ثائرة السادات. ما أدى في النهاية إلى قرارات 5 سبتمبر 1981. رغم ما حدث للأقباط من استهداف دموي ومعنوي في عصر مبارك، كان آخره مذبحة كنيسة القديسين بالإسكندرية، مع الدقائق الأولى من العام الذي انطلقت فيه الثورة على نظام مبارك بعد خمسة وعشرين يوماً من بدايته. إلا أن موقف قطاع كبير من
الأقباط من الثورة، يشير لتأقلم الأقباط مع الحالة المباركية. التي رأوا فيها جانب حمايتهم مما هو أسوأ وماثل رأي العين، رغم هول ما كانوا يعانونه. وكانت صيحاتهم قد أخذت تعلو، رافعة شعارات مثل "رفع الاضطهاد" و"محاربة التمييز". ما جاء في سياق منحى عام بالبلاد، وتوصي به القوى
العالمية، ينشد التغيير من داخل النظام. ما واجهه مبارك وأصحابة بعناد وغباء يفوق الحد. لتكون النتيجة ما شهدناه، ومازلنا نشاهد عرضه على خشبة المسرح المصري، وربما يستمر ذات العرض لسنوات قادمة، لا نستطيع أن نحدد لها الآن عدداً. لاشك أن جزءاً من شباب الأقباط كان مشاركاً أصيلاً في ثورة 25 يناير، لكن الكتلة التقليدية للأقباط، ومعها الكنيسة بلاريب، وقفت من الثورة ما بين موقف الرافض الصريح، وبين المشفق المتشكك فيما يمكن أن يحدث، من قفز الإخوان على السلطة، بما يترتب عليه ما اختبرناه جميعاً بعد ذلك. وبالطبع لم ينفرد الأقباط وحدهم بهذا الموقف من الثورة، فقد اشتركوا فيه مع سائر قوى ومؤسسات المجتمع المصري التقليدية، ليضمهم جميعاً ما قرر أنصار الثورة أن يطلقوا عليه لفظ "الفلول". هؤلاء الذي صوتوا في الانتخابات الرئاسية للفريق/ أحمد شفيق، من هدد "الثوار" المتحالفين مع الإخوان والسلفيين، بإحراق البلاد في حالة وصوله إلى كرسي الرئاسة. بعدما تحقق لتحالف
"الثوار" والإخوان ما أرادوا، وكان ما كان من أداء الإخوان السياسي والإداري والاقتصادي، وجد "الثوار" أنفسهم بجانب "الفلول" بمختلف تصنيفاتهم، يهبون في ثورة ثانية لاستعادة البلاد من أهل الجهالة والتخلف والفشل، ولم يكن مصادفة أن يقوم الأقباط بنصيبهم كاملاً غير منقوص، للمرة الأولى في
تاريخ النضال الوطني المصري، مشاركة في فعاليات ثورة 30 يونية و26 يوليو. الآن تحالف ثورة 30 يونيو بدأ يتصدع، فمن نطلق عليهم، أو يطلقون على أنفسهم لقب "ثوار"، كثيرون منهم من المتأثرين بالأفكار اليسارية والناصرية والعروبية، ونسمع منهم هتافات ولعنات تنصب على رأس الجيش والإخوان معاً، ومن يتفحص خطابهم، قد يخلص إلى أنهم أقرب للفوضويين العدميين، والحقيقة أنه من غير المستهجن وجود أمثال هؤلاء في ثورات
الشعوب، فهم أشبه بشمعات الاشتعال في محركات الاحتراق الداخلي، ولولاهم ما قمت ثورة، وما استمرت حتى تكمل أهدافها. أما "الفلول" أو قوى المجتمع التقليدية بكل مكوناتها، فهي خالصة النية الآن في التسليم لحاكم يعيد الاستقرار للبلاد، حتى ولو على حساب ما تعتبره طائفة "الثوار" مكاسب الثورة، ولا يرى "الفلول" فيها غير التخريب وانعدام الأمن وانهيار الاقتصاد. لكن بعض الأقباط وليس جميعهم، بجانب موقفهم المتضامن هذا مع سائر قوى المجتمع التقليدية، بدأوا يعودون لنغمة المطالب الخاصة بهم وحدهم، مشابهة لتلك التي كانت في أواخر عهد مبارك، مضافاً إليها أحاديث عن بنود في الدستور
تختص الأقباط بكوتة في مقاعد المجالس النيابية، وعن بنود تحميهم مما تجره عليهم تلك البنود التي يسمونها بنود الهوية، والتي يصر السلفيون والأزهر معاً على تضمينها في بنود الدستور وديباجته. مثل ما يقال عن تضمن الدستور مفاهيم "دين الدولة الإسلام، مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، والمبادئ هى الأحكام قطعية الثبوت والدلالة والأحكام المجمع عليها ويتعين على المشرع أن يلتزم بالأحكام الاجتهادية والأصول والقواعد
الضابطة وصون المقاصد الشرعية". وكأن هذا لن يرخي الظلام على الوطن بكامله، ولن يؤدي لاستعباد شعب بأثره، وليس فقط أصحاب الدين المختلف عن "دين الدولة". أتعجب كيف يتصور أحد أن الفرد أو الأقليات كالأقباط، يمكن أن يعيشوا حياة كريمة حرة في وطن فاشل، تسوده الفاشية ورفض كل آخر، وتجريم كل فكر مختلف. فقليل من العقلانية تدفع للقول أن على الأقباط أن يتوقفوا تماماً عن الحديث عما يسمونه "حقوق الأقباط"، ويركزوا جهودهم مع سائر إخوة الوطن، ليؤسس الجميع وطناً حراً وأمه مستنيرة. يسودها الإيمان الحقيقي بالأخوة الوطنية. فهذه الروح وحدها كفيلة بمساعدة الأقباط على مقاومة التيارات المتعصبة الكارهة لهم وللحياة.
لكن الحقيقة مع الأسف أن خطاب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، يشبه خطاب الإخوان المسلمين، من حيث تجاوزه للوطنية، لحساب الانتماء الديني، ويزيد عليه الحث على تجاهل الحياة في العالم عموماً، تطلعاً للوطن السمائي، والذي تعد الكنيسة تجلياً أرضياً له. هنالك نوعان من مطالب الأقليات، مطالب إيجابية وأخرى سلبية. تصنف المطالب بأنها إيجابية إذا كانت الأقلية تطالب بامتيازات تختص بها عن سائر أبناء الوطن. مثل مطالب الأكراد للحصول على إقليم خاص وحكم ذاتي، وإقرار اللغة الكردية كلغة رسمية معترف بها.
وهناك مطالب سلبية، تستهدف رفع الظلم والتمييز، لتتساوى الأقلية مع سائر مكونات المجتمع. وأوضح مثال على تلك النوعية من المطالب المشروعة للأقليات، هي مطالب الأقلية المسيحية في مصر. فهم في الحقيقة لا يريدون أي شيء، سوى أن يكونوا مواطنين مصريين عاديين، بلا أي امتيازات خاصة، وبلا انتقاص من مواطنتهم. بالطبع إنكار أن الأقباط أقلية يعد هزلاً لا جد فيه، وقد يستهدف حرمان الأقباط من حقوق الأقليات المعترف بها عالمياً. لكن يوم يدرك الأقباط معنى الوطنية وقيمة الوطن، سيكفون عن طلب كوتة في المجالس النيابية، وستكون مطالبهم الطائفية جزءاً من منظومة الأمل في وطن حديث قادر على التطور. ولن يتم هذا بغير فصل الدين عن الدولة، وهو التوجه الفكري والثقافي الذي لابد أن يبدأ من الإنسان الفرد، ويتصاعد حتى قمة الهرم الاجتماعي والسياسي. ليس بالكوتة في المجالس النيابية إذن، يتأتى للأقباط المشاركة في الحياة السياسية وصنع القرار. بل بتغير ثقافة الإنسان القبطي، فيكف عن اعتبار أن الكنيسة بيته،
وأنه ليس من "هذا العالم الذي وضع في الشرير"، وأنه له وطناً ثانياً في السماء. فينشط في الحياة السياسية والاجتماعية، كما هو الآن ناشط وناجح في التجارة. فكما لم تنجح الفاشية الدينية السائدة في طرد الأقباط من عالم الاقتصاد، بسبب تصميم الأقباط على التواجد، والمشاركة الاقتصادية مع سائر أبناء الوطن، فإن نفس هذا سيحدث في عالم السياسية والعمل الأهلي المدني، يوم يؤمن الأقباط حقاً بمركزية الوطن، وليس أحادية الكنيسة.
إيلاف