الأقباط متحدون - «شعبٌ لا يَهابُ المَوت»
أخر تحديث ٠٤:١٩ | الأحد ١ ديسمبر ٢٠١٣ | هاتور ١٧٣٠ ش ٢٢ | العدد ٣٠٢٧ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

«شعبٌ لا يَهابُ المَوت»

ارشيفيه
ارشيفيه

 بدأنا فى المقالة السابقة الحديث عن «دقلديانوس قيصر» الذى يُعد من الأباطرة الأَكْفاء فى حكم روما، وأنه أشرك «مكسيميانوس» فى الحكم لإدارة المقاطعات الغربية، ثم عيَّن «جالريوس» قيصرًا مساعدًا له، و«قنسطنطيوس» كذٰلك لمكسيميانوس.

 
أمّا عن مِصر، فذكرنا أنها كانت تحت حكم «دقلديانوس». ويذكر «المقريزى» أنه «جعل مكان مُلكه مدينة أنطاكية، وجعل لنفسه بلاد الشام ومِصر إلى أقصى المغرب». وقد تعرضت مِصر لكثير من أعمال العنف والوحشية بعد محاولة حاكمها الاستقلال بالحكم؛ حتى إن المؤرخين وصفوا هٰذه الأيام بالفظيعة: «وكانت أيامه كلها شنيعة إلى أقصى درجة، قتل فيها أصنافًا من الأمم». وقد شن «دقلديانوس» اضطهادًا شديدًا لم يكُن له مثيل ضد المسيحيِّين فى جميع أنحاء المملكة، ونالت مِصر النصيب الأكبر من هٰذا الاضطهاد، حتى إنها قدمت عددًا لا يُحصى من أبنائها شهداء. وقد بدأت سلسلة الاضطهادات بعدد من المنشورات الملكية ـ كان أولها فى فبراير من عام ٣٠٣م ـ عُلق على جدران قصر «دقلديانوس»، جاء فيه:
 
١- يجب هدم الكنائس وإزالتها من الوجود.
 
٢- يجب حرق جميع الكتب المقدسة التى للمسيحيِّين.
 
٣- يُطرد فورًا جميع المسيحيِّين الموظفين بالدولة.
 
٤- حرمان العبيد من الحرية إن ظلوا مسيحيِّين.
 
٥- يجب على الجميع تقديم الذبائح والبخور للآلهة، ويعاقَب كل من يخالف أوامر الإمبراطورية، ويعرض نفسه لأشد أنواع العقاب والعذاب حتى الموت.
 
أعقب هٰذا إصدار منشورين آخرين فى مارس، ثم منشور رابع فى إبريل. ثم قام مكسيمينوس دازا- ابن أخى «جاليروس»- الذى جعله دقلديانوس قيصرًا عام ٣٠٥م، وترك له حكم مِصر وسوريا- بإصدار منشور خامس: بالإسراع فى بناء المذابح الوثنية، وتقديم الشعب كله رجالًا ونساءً وأولادًا- حتى الرضَّع- ذبائح للأوثان! وقد استمرت نيران الاضطهاد فى سائر أنحاء المقاطعات الرومانية عشر سنوات، بدأها «دقلديانوس»- الذى بالرغم من اعتزال الحكم وإقامته فى مقاطعاته الخاصة استمر الاضطهاد فى عهد «جالريوس» مساعده، وابن أخيه «مكسيمينوس دازا» حتى عام ٣١٣م.

وبحسب ما يذكر المؤرخون، فإن الاضطهادات فى الشرق كانت أكثر عنفًا وأشد وطأة مما فى الغرب. ومِصر بالأخص كان لها تاريخ مميَّز وسجل حافل بهٰذه الأحداث عن سائر مقاطعات الإمبراطورية الأخرى، حتى إن الإمبراطور حين كان يرغب فى تعذيب أحد بشدة، كان يرسله إلى وُلاة مِصر القساة المشهور عنهم تفننهم فى تعذيب المسيحيِّين، مثل: «أرمانيوس» والى الإسكندرية، و«أريانوس» والى أنصنا.
 
■ مِصر والاضطهادات:
 
منذ فجر التاريخ والمِصرىّ شامخ يرفض التنازل عن كرامته وإيمانه، فهو لم يستطِع الوقوف ساكنًا مسلوب الإرادة أمام من يحاول حرمانه الحياة بحرية أو ثَنيه عن إيمانه، فهو ينتمى إلى شعب لا يهاب الموت، ويرفض أن يحيا مُهانًا. وقد برز ٰهذا فى سجل حفَل بمقاومة كل من حاول أن يحنى ظهره أو يَكسِره أو يستعبده أو يَُجبُِره على إيمان أو معتقد لا يريده.

وفى مقالات «مصر الحلوة»، عرضنا كيف أنه- وقبل أن يتعلم العالم كله معنى «الوطن»- رفَض المِصريون القهر والتسلط عليهم، وثاروا أمام كل القوى التى تريد هدم وجودهم وإيمانهم على مدار الزمان. فسواء نجحوا أو فشلوا، لا تراجع لديهم عن الحرية، ولا قبول عندهم للمهانة. وسطِّر المصريون شجاعتهم واحتمالهم فى صفحات مضيئة وهّاجة من خلال الاضطهاد الذى أعلنه «دقلديانوس»، فقد عاشت مِصر سنوات عَشْرًا من أصعب السنوات وأكثرها دقة فى تاريخها. ومع هٰذا تمسك شعبها بإيمانه الراسخ الذى يفوح عبقه من جذور تاريخه، مفضلًا الموت عن الحياة فى ضعف أو إنكار لما يؤمن به، حتى لو كان الثمن حياته.
 
ومن العجيب أنه على مدار التاريخ المِصرىّ، كان الشعب جميعه برجاله ونسائه وأطفاله يهِبّ، ويقف أمام الطغيان بثبات دون اهتزاز. يقول المؤرخ يوسابيوس القيصرىّ الذى شهِد هٰذه الفترة من الاضطهادات: «لم تكُن النساء أقل من الرجال بسالةً فى الدفاع عن تعاليم الكلمة الإلٰهية، إذ اشتركن هن والرجال فى النضال». إن الاستشهاد فى المسيحية الذى شهِدته مِصر كان انعكاسًا لأصالة شعب أبَى إلا أن يتخلى عما يؤمن به.
 
وقد تنوعت العذابات التى تعرض لها المسيحيِّون: فكان منها الاضطهادات الأدبية مثل الإهانة، والتحقير، والفصل من الوظائف، ومصادرة الأموال والممتلكات، وفقدان حقوق المواطنة، وسلب البيوت والأمتعة، وضياع حق التقاضى أمام المحاكم.
 
وكانت هناك أيضًا التعذيبات البدنية التى تعرضوا لها من سَجن، وجَلد، وحرق، وإغراق، وصلب، ووسائل أخرى يندى لها الجبين.
 
وكانوا يستخدمون أيضًا فى تعذيبهم أساليب الضغوط العاطفية على المعذَّبين من جهة أقربائهم، من آباء، وأمهات، وأزواج، وزوجات، وأطفال؛ حتى يتراجعوا عن ثباتهم.
 
ومع هٰذا كله، كنا نرى أُسرًا بأكملها تتقدم غير عابئة بالموت، مثل عائلة «قزمان ودميان وإخوتهما وأمهما»، التى كانت من مدينة «القيس» قرب بنى مزار، وقد مَثَلت بكل أفرادها أمام الوالى «لِيسياس» ولم يتزعزعوا عن إيمانهم، فعُذبوا عذابًا شديدًا ثم قُيِّدوا وأُلقُوا فى البحر. ولٰكنّهم عادوا جميعا سالمين إلى الشاطئ، ليبدأوا سلسلة جديدة من العذابات، وهٰكذا إلى أن ماتوا جميعًا بحد السيف.
 
وهٰذه الدماء المِصرية الذكية ما زالت تسرى فى عروق كل المِصريين مهما علا مركزهم، فنجد مِن ضمن مَن رفضوا التخلى عن إيمانهم، ووقفوا بثبات من أجل حرية الاعتقاد فى وجه الظلم والاضطهاد- وُلاةً، وقادةً، وجنودًا، ورجال دين، ورهبانًا وراهباتٍ، وشبابًا، بل أطفالًا أيضًا.
 
وعلى سبيل المثال لا الحصر: نجد من الوُلاة «مرقس» والى البُرُلُّس، والد الشهيدة «دميانة». كان «مرقس» واليًا على البرلس والزعفران بوادى السِّيسبان، وكانت تربِطه عَلاقة طيبة بالإمبراطور «دقلديانوس». وفى أثناء الاضطهاد ضعُف وبخر للأوثان. وما إن سمِعت ابنته «دميانة» بهٰذا الخبر، حتى خرجت من عزلتها لتلتقيه. وفى شجاعة نادرة وحزم قالت له إنها كانت تود سماع خبر موته عن تركه الإيمان! وسألته ألا يخاف الموت، وألا يجامل الإمبراطور على حساب إيمانه. وإذ تأثر «مرقس» بكلمات ابنته، للوقت تركها، وذهب إلى أنطاكية لمقابلة «دقلديانوس» معترفًا أمامه بثباته على إيمانه. تعجب الإمبراطور من هٰذا التحول، ولٰكنه لم يتسرع فى معاقبته، بل لاطفه، واستخدم وسائل كثيرة لجذبه وثَنيه عن رأيه. وإذ لم يتراجع «مرقس»، ثارت ثائرة «دقلديانوس»، وأمر بقطع رأسه. وعندما علِم أن «دميانة» هى السبب فى تحوله أرسل إليها بعض الجنود، ومعهم آلات التعذيب، للانتقام منها ومن العذارى الأربعين اللواتى كُنّ يعِشْنَ معها، فنالت على يديه ألوانًا من العذاب حتى قُطع رأسها ومعها العذارى. وحاليًا يوجد دَير باسمها فى برارى بلقاس.
 
ومن القادةِ العظام الشجعان وأشهر الشهداء المِصريِّين «مارِمينا» الملقب بـ«العجائبى». كان والده حاكمًا على أحد الأقاليم المصرية، وفقد والديه وهو فى سن الرابعة عشرة. التحق بالجندية، وأثبت فيها جدارة متناهية، ثم ترك الجيش، وتوجه إلى الصحراء، وصار يتعبد فيها لله خمْس سنوات. ثم عاد إلى المدينة لإعلان إيمانه، وهناك قُبض عليه، وعُذب عذابًا شديدًا، بعد أن رفض كل الإغراءات والعطايا الجزيلة ليترك إيمانه، فقُطعت رأسه بحد السيف، وهو فى الرابعة والعشرين من عمره. ويوجد حاليًا دير باسمه فى صحراء مريوط.
 
ومن الجنود نذكر «أبَسخِيرون القَلِّينىّ» من بلدة قَلِّين بمحافظة كفر الشيخ. انتظم فى الجندية حتى أصبح مِن جُند «أريانوس» والى أَنْصِنا، المشهور بوحشيته فى تعذيب المسيحيِّين. وعندما رفض «أبسخيرون» الانصياع إلى مرسوم «دقلديانوس» عذبوه بشدة حتى قُطع رأسه.
 
وأيضًا... وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى...!


نقلا عن المصري اليوم
 

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع