الأقباط متحدون - عمار على حسن يبدع وردة التحرير
أخر تحديث ٠٤:٢٤ | الثلاثاء ٣ ديسمبر ٢٠١٣ | هاتور ١٧٣٠ ش ٢٤ | العدد ٣٠٢٩ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

عمار على حسن يبدع وردة التحرير

ميدان التحرير
ميدان التحرير

بقلم:صلاح فضل
فى رواية مشهدية ضخمة، يقدم الباحث المبدع عمار على حسن نصاً توثيقياً يربو على ستمائة وستين صفحة، يتوزع على خمسة وسبعين فصلاً بعنوان لافت «سقوط الصمت» يسجل فيه ذاكرة ميدان التحرير الحافظة لأنفاس البشر وملامح الحجر، يبتكر «عمار» تقنية تستوعب كل ما يحرص على تركيزه وتكثيفه من حيوات وملامح إنسانية اشتدت فورتها وقذفت بزبدها فى بؤرة الميدان، الذى يلعب دور البطولة المطلقة بكل ما ينبت فيه من ورود ثورية وزنابق بشرية وطحالب سامة تفوح عفونتها فى نواياها الخبيثة ومساعيها المناهضة لروحه المتوهجة بالحب والسلام، وبقدر ما تحتضن الرواية المشهدية من نماذج يجمعها المكان ويؤلف بينها عشق الوطن وانفجار رغبة التغيير الجارفة، فإنها تظل متقطعة موزعة، يكاد كل فصل فيها أن يقدم نموذجاً أو لقطة مغايرة لا تتكرر فيها الوجوه ولا الأسماء إلا فيما ندر من الحالات الاستثنائية، بهذا تخالف الرواية ما نتوقعه من إقامة بناء متطور ممتد فى الزمن يرصد تحولاته ويتابع نموه وتعاقب أسبابه، ويمتلك مفاجآته، ومواطن الدهشة فى تدابير أقداره واحتدام صراعاته الدرامية وهى تشف عن ارتباط مصائر الأفراد بحركة المجتمع.

ويترتب على ذلك أن ما يكسبه النص من امتداد فى العرض يخسره لا محالة فى العمق ولأن عمار مبدع موهوب لا يطغى عليه الباحث الدؤوب، فإن حسه السردى المرهف الذى عهدنا تألقه فى عدد من الروايات والمجموعات القصصية السابقة، يمكنه من تحويل كل فصل إلى مشهد قائم بذات، يدور بطبيعة الحال فى جوانب الميدان خلال الأسابيع الأولى للثورة، لا يتجاوزها إلا قليلاً إلى الوراء ليتتبع جذور الغضب المكتوم فى تاريخ نماذجه البشرية، أو يتحرك ببطء إلى الأمام ليشير إلى ما ينتظر الثورة من انشطار بين حكم العسكر تارة، وحكم المرشد تارة أخرى، فإذا تأملنا تاريخ طبعتها الأولى خلال مايو 2013 ندرك أن الكاتب قبلها بشهور كان بوسعه أن يتوقع ويخشى ما تؤول إليه الأمور، فقد استطاع أن يرصد بدقة شعور الناس بأن الثورة قد سرقت منهم ولابد من استردادهاً ويناقش بحرية دور الجماعات الدينية فى التربص بالثوار والانقضاض على الثمرة الناضجة بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، بل يجعل رمز الثورة، وهو الشاب الأسطورى حسن عبدالرافع، الذى يمثل ذكره الخيط الرفيع المتقطع الواصل بين الفصول، يسقط صريع تآمر هذه الجماعات فى أغلب الظن، إذ لا يريد أن يقطع الشك باليقين بل يمضى فى التعمية إلى مداها، فيدفع رفيقته الثورية صفاء عليوة تدفن «الفلاشة» التى تحتوى على كل معلوماته وأسراره تحت نخلة فى حقلهم الصغير، بعد أن وضعتها فى علبة عاج وأحكمت غلقها ولفها فى كيس من البلاستيك لتحتفظ بها حتى اللحظة المناسبة، حين تدرك أن طريق العدالة مفتوح ونظيف وهكذا تضمر الرواية فى باطن الأرض أدلة ما تبثه من شواهد على سرقة التاريخ، لتحيلها إلى كنز شبه أسطورى، يضاف إلى الكنوز الأثرية التى ترقد فى جوف الوادى المقدس وتتعلق بها أفئدة المصريين.

الطيران المنخفض:

السمة المائزة للسرد التوثيقى أنه يطير على ارتفاع منخفض من الواقع لا يسمح لخيال المجنح أن ينطلق فى أجواز الفضاء، بل يظل مشاكلاً لما يحدث، قريباً من تضاريسه، فيمتلئ بالصدق الواقعى وهو يتلمس الإقناع الفنى والمشهد الافتتاحى لرواية «سقوط الصمت» هو مصرع حسن، وضارب الشهادات المقدمة عنه طبقاً لمنظور كل فريق، فبينما يصرخ من تعرف عليه من الثوار قائلاً «كان يهب نفسه للشهادة فى كل وقت، رأيته فى الصف الأمامى فى لحظة انطلاق الغضب الكبير، ويوم انهزم جهاز الأمن المتغطرس، فى موقعة الجمل، رأيته يطير من فوق متراس بجانب المتحف المصرى، ويسقط بلطجياً من على حصانه، ورأيته وهو يطارد واحداً خسيساً من الذين دفعتهم الأجهزة الأمنية ليتحرشوا بالبنات فى الميدان حتى يسيئوا لسمعته، قاوم ببسالة، وقدره أن يقتل الآن قبل أن يرى حلمه متجسداً أمامه ومحفوراً فى وجوه كل الناس الذين عاش من أجلهم».

وبينما تترى الصور والشهادات والمواقف والإشارات لتعميق هذه الرؤية المثالية لرمز الثورة وأيقونتها فى حياته ومماته، إذا بنا نرى ما يكتبه عنه أنصار الجماعات الدينية على صفحات التواصل الاجتماعى، التى لعبت ولاتزال أهم دور إعلامى: «مات العلمانى الكافر وسيدفن معه عاره، ويحترقان سوياً فى حفرة لا قرار لها من جهنم، وهذه هى نهاية كل من يتطاول علينا نحن رافعى راية الإسلام وحراس الشريعة، وهى بداية طريق التوبة لكل من أنكر أن هذه الثورة هى آية الله التى قدمها لنا نحن أصحاب الأيدى المتوضئة» ولم يكتفوا بذلك، بل أشاعوا فى ميدان التحرير أنه كان عميلاً لأجهزة الأمن، وأنه طالما جلس إلى الجنرالات يعرض عليهم خدماته، وكان دائم التسلل إلى السفارات الغربية ليفشى لهم كل ما وصل إليه من أسرار، ويستعديهم على الذين يحملون فوق ظهورهم عبء إعادة الشرق إلى مجده القديم، ومع أن فصول الرواية التالية ستتولى فى مشاهدها الدامغة تصحيح نسبة هذه الأفعال كلها إليهم بالوقائع المتواترة، فإن تصوير الهوة السحيقة بين الطرفين منذ البداية قد حدد منطقة الصراع الأيديولوجى فى الثورة، وهو صراع خارجى يمزق وحدة الصف، ولكنه لا يكشف عن تحولات الناس، وينسحب على جميع الأحداث التالية، موهماً بأنه يقع بين طرفى المعادلة بين الثوار والتكفيريين، بينما تفرض علينا مشاهد الميدان فى فصول الرواية تصويب هذه الرؤية، حيث لا تظفر الجماعات الدينية فى حقيقة الأمر إلا بنسبة ضئيلة من حزمة الضوء فى الميدان، ونتيجة لقرب مسافة التخييل تبرز بشكل فائق أشكال التعبير المجازى القليلة فى الرواية، ومن أطرفها ما يأتى على لسان الجمل والجمال فى الموقعة الشهيرة، فالغلام الراكب ينشد فى طريقه إلى الميدان موالاً مفعماً بالشجن، لو أدرك معناه لحول وجهته إلى الطرف المناضل:

«البيه جاب لى طبيخ حنضل وقال لى كل/ اشبع وفرق على الغلابة الكل/ من بعد ما كنت فى لمة وزاين الكل/ صبحت مسكين ومستحمل كلام الكل»

أما الجمل الذى يفقد ناقته فى هذه المعركة الخاسرة فقد «أخذ يتقدم، ثم بدأ يشعر بضربات متلاحقة من الغلام الذى يمتطيه وفجأة امتلأت عيناه بالأجساد الهائلة أو التى يراها هو هكذا، تباطأ حتى عاد الضرب المتلاحق فى سرعة جنونية يلهب عنقه، أخذ يعدو فى مساحات تتسع وتضيق، والتحمت به أجساد من الجانبين، ورأى أصحابها يشبون ثم يسحبون الغلام الراكب فوقه بعنف، فتحنت ظهره، ثم التفت فلم يجد صاحبته، لم يشغله شىء سوى أن يستريح قليلاً فتركوه يخور فى بطء وهدوء، ومهما كان طموح الراوى العليم يمتد ليشمل ما يدور فى خلد الحيوان أيضاً فإنه لا ينسى أن يتساءل عمن تقع عليه تبعة هذه المعركة المفصلية فى مسار الثورة فيؤيد احتمال قيام فلول النظام السابق بها ثم يرجح مسؤولية الإخوان عنها خوفاً من تراجع الحماس وتعرضهم لانتقام النظام المتداعى وعلى الرغم من السياقات السردية التى يحكم الكاتب بها تقديم كل مشهد فإن الاعتماد الكلى على روابط المكان مع تقطيع فواصل الزمن حرما المتخيل من إقامة صرحه الشامخ مكتفياً بشواهد مثبتة فى أركان الميدان.

سر تسمية الرواية بـ«سقوط الصمت»، فهى نفحة شعرية ثورية خلدت ميدان التحرير، واستشرفت غده، وجعلته سرة مصر، وآية حيويتها الدافقة، حينما نبضت بفن الشعر والغناء والموسيقى والرسم والفكاهة والتمثيل، ولن نستطيع أن نحصى عشرات المشاهد الثرية التى حفلت بها الرواية الجامعة ولا أن نشير إلى دلالاتها العميقة، فالكاتب قد جمع أطراف الثورة فأوعى، ووضع سجلاً لأبرز وجوهها، ووضع عليها غلالة شفيفة لا تكاد تحجب حقيقتها عمن كان هناك، أو سمع بما وقع، على الرغم من الثورية أو التسمية الجديدة، مثل حديثه عن صاحب دار النشر الذى جعل مقره موئلاً لمبيت الثوار المغتربين القادمين من أطراف الوادى، ومثل الدكتور عبدالبصير الذى ضج من علاج القلوب، عندما أدرك أن قلب مصر هو الذى ضج بالوجع، معترفاً بأن الشباب قد تجاوزوه فى مطالبهم الثورية. وحكاية نصبة الزايط للشاى، وكيف تبعتها النصبات الأخرى، ومثل الشيخ الأخطبوطى رأفت مغازى الذى يتطابق إيقاع اسمه مع نموذجه الواقعى، وكيف اعترف أحد شباب الإخوان المنشقين بخطورة القيادة القطبية لمكتب الإرشاد وسيطرتهم على مقاليد الجماعة بعد «أن تربوا فى حجر التنظيم الخاص الذى ارتكب قبل عقود من الزمن جرائم القتل والاغتيال، وكيف حاول «البنا» أن يتبرأ منها بعبارته الشهيرة «ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين» واعتناقهم فكر سيد قطب التكفيرى الذى يرى مجتمعاً غارقاً فى ظلام الجاهلية على أن ما اجتهد الباحث المبدع فى بثه فى ثنايا روايته بالتلميح والإشارة قبل يونيو قد شهدناه مجسماً فى سلوك الجماعة الإرهابى بعد ذلك، بما يضفى المصداقية التاريخية على المنظور السردى، ويزيد من قيمة الرواية التوثيقية، باعتبارها أهم الأعمال والشهادات السردية التى صدرت عن ثورة يناير حتى الآن، قبل أن تصححها الموجة الثانية فى 30 يونيو، وإن كانت طبعية تصححها كجدارية ضخمة تستوعب المشاهد والوجوه فى لقطات غير مضفورة ولا متنامية داخلياً تجعلنا فى انتظار الصرح المتخيل الشامخ الذى يستقطر فيه المؤلف خبرته المعتقة بروح الثورة ليجسد نبض التاريخ فى عمل ملحمى خالد.

نقلا عن: المصري اليوم


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع