د.عبدالخالق حسين
من المقرر أن تُجرى الانتخابات البرلمانية المقبلة يوم 30 نيسان 2014. والانتخابات في الأنظمة الديمقراطية هي أشبه بالثورات لتبديل الحكام، ولكن يستخدم فيها الناخبون ورقة الاقتراع بدلاً من الرصاص (Ballot instead of Bullet) وبدون سفك دماء. وعادة تسبق الانتخابات فترة يقوم خلالها المتنافسون بحملات دعائية وإعلامية، أحياناً تكون شرسة، للترويج عن أنفسهم وبرامجهم، كل يعرض بضاعته للشعب.
وفي البلدان الديمقراطية العريقة المتحضرة يتنافس قادة الأحزاب المتنافسة في كسب الناخبين عن طريق نشر بيانات انتخابية واضحة غير قابلة للتأويل، يطرحون فيها برامجهم لحكم البلاد وتقديم الخدمات فيما لو فازوا بالسلطة، كما ويعملون على كشف سلبيات الخصوم إنْ وجدتْ دون اللجوء إلى الأكاذيب و الافتراءات، وإلا فالناتج ستكون معكوسة على مخترع السلبيات الكاذبة.
وفي العراق، يمكن اعتبار المناسبات الانتخابية، رغم ما يشوبها من مشاكل وإثارة، وأحياناً اضطرابات وتجاوزات، إلا إنها على العموم هي عبارة عن دورات دراسية عملية للجماهير والتنظيمات السياسية لتعلم قواعد لعبة الديمقراطية.
وبما أن الديمقراطية جديدة في العراق، ومجتمعنا متشرب بثقافة العنف، ومن تجارب السنوات الماضية منذ أول انتخاب برلماني عام 2005 وإلى الآن، فقد لاحظنا لجوء المتنافسين ليس إلى إبراز ما عندهم من إيجابيات في كسب الناخب بتقديم أفضل ما عندهم للصالح العام، بل التفنن في اختلاق السلبيات ضد الخصوم والعمل على تشويه سمعتهم، أي الاعتماد على الدعاية السلبية بشن حملات تسقيطية.
في الحقيقة، إن القوى السياسية هي في حالة حملات انتخابية دائمة تبدأ بعد تشكيل الحكومة مباشرة، فما هذه الصراعات بين الكتل السياسية داخل البرلمان و خارجه، وفي وسائل الاعلام، إلا حملات انتخابية غير معلنة، ولكن تتصاعد حدتها قبل الانتخابات بأشهر قليلة، أغلبها تسقيطية، فكل كتلة تحاول النيل من الكتل المنافسة لها، بحق أو بدونه، وحتى اللجوء إلى كيل الافتراءات والتلفيقات. وبالطبع، ستنال كتلة رئيس الحكومة حصة الأسد من هذه الأكاذيب والتهجم، ويبقى الرئيس مُراقَباً في جميع تنقلاته وسفراته وأفعاله وأقواله، والسعي لتحويلها إلى سلبيات ضده. وحتى إذا كانت نشاطات رئيس الوزراء في صالح الشعب ومن صلب واجباته الدستورية، فإنهم يطرحونها في وسائل الإعلام بأنها لأغراض انتخابية إلى حد أن امتنعت كتل نيابية التصويت على قوانين التنمية والإعمار، وتسببت في تعطيل الكثير من القوانين الضرورية نكاية برئيس الوزراء. بينما المفروض بهؤلاء المسؤولين المنافسة على خدمة الشعب لكسب الناخبين، وليكن لأغراض انتخابية، فإذا فازت كتلة سياسية بسبب ما كالت من الوعود المعسولة للشعب ومن ثم حنثت بتنفيذ وعودها فهذه الكتلة ستنتهي سياسياً في الانتخابات اللاحقة. كذلك للشعب حس غريزي يعرف تمييز الوعود الصادقة الممكن تحقيقها من الوعود الزائفة والتي هي من أجل الانتخابات ليس غير.
والملاحظ أيضاً، أنه مع كل دورة انتخابية جديدة هناك تصعيد في الدعايات السلبية التسقيطية. وقد بدأت بوادر هذا العنف الإعلامي التسقيطي منذ أشهر، تم فيها الطعن بالخصم إلى حد كسر العظم كما يقولون، استخدموا فيها حتى الأطفال لأغراض سياسية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، استلمتُ قبل أسابيع فيديو يظهر فيه طفل بريئ في عمر الروضة، تم تدريبه بمهارة ليقول ما لقنه به الكبار لأنه يكون أكثر تأثيراً على المتلقي مما لو خرج من أفواه الكبار. وفعلاً استلمت هذا الفيديو من بعض المعارف وهم من المثقفين لا يشك بوطنيتهم وعدائهم للبعث الفاشي، والمفترض بهم أن يدركوا الحيل والأساليب الخبيثة التي يلجأ إليها مرجو هذا النوع من الدعايات المضادة المضللة والأغراض السياسية منها. ولكن مع الأسف الشديد يتلقاه هؤلاء بحسن نية وبدون أي سؤال، معتقدين بأن ما قاله الطفل أمام الكاميرا هو من عنده أو"إلهام رباني"! وحقيقة غير قابلة للشك، و كأن هذا الطفل متابع للأحداث السياسية. بل استغل أحدهم فيديو آخر من هذا القبيل فكتب مقالة "عصماء" وبعنوان مثير، تعليقاً على ما قالته طفلة بريئة أنطقوها أقوالاً مفادها أن حياة العراقيين الآن هي جحيم لا يطاق أسوأ بآلاف المرات مما كانت عليه في عهد صدام!!. وقد رد عليه القارئ الكريم أحمد عبدالله بتعليق جاء فيه: "ألا تعتقد أن هذه الطفلة تم تلقينها لساعات وساعات بهذه الدعاية المضادة فهناك مؤلف ومدرب وملقن ومخرج، ومحطة تلفزيونية، دربوها على هذا الإلقاء المثير حتى أنت وغيرك تكتبون ما تكتبون من أجل التأليب على المسؤولين؟
في الدول المتحضرة يمنع استخدام الأطفال للدعايات السياسية، ولكن في العراق هذا العمل مباح وما تقوله الطفلة بعد تلقينها يعتبر حقائق ثابتة. هذه آخر ما تفتقت به عبقرية البعثيين في الحرب الدعائية التسقيطية... لا استبعد أن يأتوا غداً ببغاء ويلقنونه بهذه الكلمات لتقول: ألا تخجلون من أنفسكم حتى الببغاء يرفضكم؟ أجل، حتى الأطفال لم يسلموا من استغلالكم لهم في حملات الدعاية المضادة." انتهى
حقاً، إنه لأمر محزن محاولة استدراج ناس كانوا من ضحايا البعث وتسخيرهم لترويج الدعايات البعثية المضللة. ولا بد أن الكاتب قد اطلع على فيديو ظهر فيها إسلامي متطرف يستخدم طفلاً في شتم اليهود والدعاء عليهم بالهلاك، وبالتأكيد استهجن الكاتب هذا السلوك، فلماذا يقبله في الحالة العراقية لمجرد أنه للتأليب على خصومه السياسيين؟
فالمطلوب من قادة التنظيمات السياسية التي خسرت في الانتخابات السابقة أن يعملوا على إقناع الجماهير بالمنطق وبالتي هي أحسن للتصويت لهم في الانتخابات القادمة، وذلك بطرح البديل الأفضل من برامج انتخابية عملية قابلة للتنفيذ، وليس باستغلال الأطفال في الدعاية والتلاعب بمشاعر الناس بكيل الأكاذيب والافتراءات لتشويه سمعة الخصوم السياسيين في الدعاية المضادة، لأن هذه الأساليب الرخيصة هي اهانة لذكاء الناس.
وهذه الجهات هي نفسها بدأت تمطرنا هذه الأيام بالدعايات التسقيطية، فثروة الدكتور إبراهيم الجعفري بلغت مائة مليار دولار، والسيد علي الأديب، وزير التعليم العالي، أغنى رجل في العالم، أما ثروة الأخوين النجيفي فقد بلغت 22 مليار دولار. وآخر ما تم تعميمه هو صورة فوتوغرافية لـ"تقرير" زعم كاتبه ومصوِّره أنه نشر في صحيفة ليبراسيون الفرنسية، مفاده أن السيد أسامة النجيفي اشترى 50% من شركة سامسونغ الكورية بمبلغ 11 مليار يورو (=15 مليار دولار). يعني أن النجيفي استثمر كل ثروته التي نهبها من الشعب العراقي في شركة واحدة. وبلغة المستثمرين، وضع جميع بيوضه في سلة واحدة!! وهذا غير ممكن. نسي مؤلف هذه الكذبة أن الحكومات لا تسمح لأي أجنبي أن يستحوذ على نسبة قريبة من 50% من أسهم أية شركة في بلادها. ورغم غباء الكذبة إلا إنها عبرت على البعض للأسف الشديد.
كذلك هناك نوع من التحايل والتفنن في استخدام اللغة الطائفية لتسقيط قادة سياسيين وبدوافع طائفية مفضوحة وبالأخص من السياسيين الشيعة، ويستخدم لهذا الغرض كتّاب من نفس الطائفة، وأحياناً لكتاب يستعيرون أسماءً شيعية مثلما طلع علينا أخيراً كاتب باسم (عبدالحسين الملا لعيبي، وآخر باسم قاسم السهيل، وثالث باسم أحمد الحسيني... الخ)، يبدأ هؤلاء عادة بمناحة على الحسين وأهل البيت ومظلومية شيعتهم عبر التاريخ!!، ليستدرجوا القارئ إلى أن يصل إلى بيت القصيد وهو تسقيط السياسيين الشيعة ووصفهم بـ "اللصوص الحرامية الذين استغلوا أبناء طائفتهم لأغراضهم الشخصية...الخ". بطبيعة الحال لا ننكر أن هناك لصوص وحرامية، ولكن هذا ليس حصراً على سياسيين من طائفة واحدة، والشيعة تحديداً، بل هم موزعون على جميع المكونات الدينية والمذهبية والعرقية. والمقصود من هذه الكتابات ليس الفاسدين واللصوص الحقيقيين، بل الشرفاء من السياسيين فقط، أي بحرق الأخضر بسعر اليابس.
لا أجافي الحقيقة إذا قلت أن معظم الحملات الإعلامية التسقيطية موجهة بالأساس ضد شخص واحد وهو السيد نوري المالكي، لتصفيته سياسياً واجتماعياً، وإن تمكنوا، حتى جسدياً، للتخلص منه لأنه أثبت كفاءة وجدارة وحرصه الشديد على إنجاح العملية السياسية والديمقراطية، وخدمة الشعب والحفاظ على أمواله. وخصومه يسعون لإزاحته عن الساحة واختيار شخص ضعيف بديلاً عنه يستطيعون توجيهه وفرض إراداتهم عليه كما يشاؤون. أما إذا جاء البديل من التيار الصدري، كما تردد مؤخراً اسم (قصي السهيل، نائب رئيس مجلس النواب) فعندئذ ستكون مصيبة المصائب واقرؤوا على العراق السلام. فقبل أسابيع وجه السيد مقتدى الصدر نقداً لاذعاً للسهيل، مما اضطر الأخير إلى تقديم استقالته من منصبه لولا تدخل زملائه وثنيه عن قراراه. وهذا يعني أنه إذا اختير رئيس الوزراء من التيار الصدري فمصيره بيد السيد مقتدى، واستمراره في رئاسة الحكومة يعتمد على مزاجية ونزوات السيد مقتدى وليس على قدرته في إدارة السلطة ودعم البرلمان له، أشبه بسيف ديموقليس معلقاً على رأسه بشعرة واحدة من حصان!!
على أي حال، أتوقع أن الحملة الانتخابية المقبلة ستكون شرسة جداً وقذرة جداً، يستخدمون فيها الأديان والمذاهب وكل ما في اللغة من مفردات قذرة لتشويه صورة الخصم وتلويث سمعته، لا يتورعون فيها عن استخدام الأطفال والحيوانات والببغاوات، وحتى رواديد اللطميات في مواكب العزاء.
نتمنى على أصحاب الشأن يكون قد تعلموا دروساً من التجارب السابقة، وأن يترفعوا عن الإساءات، وأن يتمسكوا بالقواعد الأخلاقية وتجنب الوسائل الرخيصة المبتذلة، وأن يضعوا أسساً صحيحة وشريفة في منافساتهم السياسية وبروح رياضية نزيهة، وأن لا يعتبروا الخسارة في الانتخابات الديمقراطية جريمة مخلة بالشرف.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/