فاروق عطيه
بانتهاء حكم الرومان بدأت فترة الحكم العربي الاستعماري الاستيطاني لمصر. بدأت بدخول عمرو بن العاص سنة641م وانتهت بقيامالدولة الطولونية المستقلة سنة868م. خلال هذه الفترة حكم مصر ولاة كمندوبين عن الخلفاء العرب، الذين أذاقوا المصريين أنواع العذاب والاضطهاد والاحتقار، واستنزفوا مواردهم بالجزية والضرائب والمكوس المختلفة. ولم يخطر على بال المستعمرين تعيين والى أو حتى من ينوب عنه من المصريين، واستمرت مصر بقرة حلوب لمصلحة الخلافة حتى بزوغ عصر الدولة الطولونبة سنة 868م حيث أصبحت مصر دولة مستقلة لا تدفع المكوس للخليفة وما تبع ذلك من رخاء وازدهار.
بدأ الاستعمار الإسلامي لمصر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، حيث قام القائد المسلم العربي عمرو بن العاص بضم مصر لدولة الخلافة الإسلامية فيما عرف بالفتح الإسلامي لمصر وكان قد انتزع فلسطين من يد الرومان قبلها، وكان الهدف من فتح مصر هو تأمين الفتوحات السابقة وعمل طوق محكم حول الرومان لاتقاء عودتهم. كان عمر بن الخطاب يخشى على الجيوش الإسلامية من الدخول لإفريقيا ووصفها بأنها مفرقة أما عمرو بن العاص فقد كان مغرما بمصر من قبل الإسلام وبعد أن حقق انتصارا على الروم في معركة أجنادين استأذن الخليفة في غزو مصر، لكن الخليفة أبدى الرفض في البداية وما لبث أن وافق بعد أن وصل عمرو بن العاص إلى العريش(لاريس) وعسكر غربها قائلا المسا عيد في 12 ديسمبر 639 (وسميت هذه المنطقة بالمساعيد) وأرسل له الإمدادات.وزحف على الفرما ابعد حصون مصر من ناحية الشرق واستولي عليها في 13 يناير 640م وهدّم اسوارها، واستمر زحفهحتى استولي على كل الدلتا وحصن بابليون ومنها إلى جنوب مصر حتى تم طرد كل البيزنطيين من مصر 17 سبتمبر642م. واستقبل المصريون الكارهون لكل ما هو بيزنطي الغزاة الجدد بكل ترحيب ظنا بأنهم سيكونون عونا لمصر بالخلاص. تم اجراء معاهدة صلح بين سيروس (المقوقس) وعمرو، انسحب البيزنطيون على أثرها من البلاد وأنتهي الحكم الروماني لمصر وبدأ الحكم الإسلامي بعصر الولاة وكان عمرو بن العاص أول الولاة المسلمين. فرض فيها على المصريين دفع جزيه سنوية مقدارها دينارين على كل رجل مصري بالغ (6 مليون رجل) بمقدار 12 مليون دينار مضاف إليها ضريبة على ملاك الأراضي (3 اردب قمح وقسطين زيت وقسطين عسل وقسطين خل)، ويلتزم المصريين بإعطاء كل عربي جبه صوف أو ثوب قبطي وخفين وبُرنس أو عمه وسراويل سنويا، وبنى العرب مدينة الفسطاط واعتبروها مركزا وعاصمة لهم وعن طريق دواوينها العربية تمت عربنة مصر خطوه خطوه. استمرت اليونانية كلغة رسمية لمصر حتى سنة 706م كما ظلت القبطية لغة المخاطبة حتى في مدينة الفسطاط نفسها.
اعترف المؤرخون العرب رغم أيدولوجيتهم الإسلاميةبالجرائم الوحشية التي ارتكبها العرب ضد شعب مصر بعد الغزو. اعترفوا بها كمدافعون عن العرب والإسلام، أمثال الطبريوالبلاذريوالسيوطي إلخ. ورغم حديث المقريزيعن ثورات المصريين ضد الاحتلالالعربي، ورغم أنه من مواليد القاهرة (تنتمي أسرته إلى بعلبك كانت تسكن بحارة المقارزة) فإنه وصف المصريون بالجُبن، بحجةأنّ مصرلا يوجد علىأراضيها الأسود فإنّ طبيعة المصريين أقرب إلى الأرانب والحمير (المواعظ والاعتباربذكرالخطط والآثار-ص43). عنجهيته العربية والإسلامية جعلته يتجاهل أنّ مصربها أسود وفهود عكس جزيرة العرب وللتذكير عندما قبض الخليفة مروان بن محمد على رجال الكنيسة المصرية وسجنهم،ألقي القديس الشهيد أغناطيوس إلى عشرة من الأسود (ساويرس بن المقفع-تاريخالبطاركة-ص198). ويتمادى المقريزيفي صفاقته فيلصق بالمصريين صفات الكيد والخبث والمكر، عندما كتب يُدين ثورات المصريين خاصة ثوارالبشمورالذين تحدوا سلطة الاحتلال العربي، قائلا:طباعهم أغلظ والبله عليهم أغلب وذلك أنهم يستعملون أغذية غليظة ويشربون من الماء الرديء (المواعظ والاعتبار-ص44). للأسف كتب المؤرخون العرب التاريخ من وجهة نظرهم المتحيزة للعروبة والإسلام ولم يراعوا الحيدة فيما يكتبون.
نعت المقريزي المصريين بأشد الصفات سوءًا، وفسر سُمرة المصريين بأنهم أولاد العبيد السود الذين نكحوا نساء القبط بعد الغرق واستولدوهن. بينما يري العرب أنفسهم أنهم أتم الناس عقولاوأحلامًا وأطلقهم ألسنة وأوقرهم أفهامًا (الألوسيفي بلوغ الأرب في معرفة أحوالالعرب-ج1ص 144) والنظرة العنصرية تحكمتْ فيالعربي المحتل، ليس من خلال نهب ثروات مصر فحسب، وليس بكل أشكال التعذيب البدني لمن كان يرفض دفع الجزية أوالخراج، وإنما ظهر في كلامهم كما قال ابن عباس (المكرعشرة أجزاء، تسعة منها في القبط، وواحد في سائرالناس) أما معاوية بن أبى سفيان فذهب إلى ماهوأخطرإذْ قال (أهل مصرثلاثة أصناف: فثلث ناس، وثلث يُشبه الناس، وثلث لاناس. فأما الثلث الذين هم الناس فالعرب. والثلث الذين يُشبهون الناس فالموالي، والثلث الذين لاناس المسلمة يعنى القبط) (المقريزي-المواعظوالاعتبار-ص56) وهذه النظرة العنصرية تتفق مع الحديث النبوي (لاتكون العرب كفؤا لقريش والموالي لايكونون كفؤا للعرب) (شمس الدين السرخسي– نقلاعن خليل عبدالكريم-الجذورالتاريخية للشريعة الإسلامية-ص16). حتى عمرو بن العاص نسي أنه ابن صاحبة الرايات (بيت دعارة) وأرخصهن سعرا، حين سُؤل عن مصر قال: "أرضها ذهب ونيلها عجب وخيرها جلب ونساؤها لعب ومالها رغب وفي أهلها صخب وطاعتهم رهب وسلامهم شغب وحروبهم حرب وهم مع من غلب"، نسي أن أمه قد واقعها خمسة رجال هم العاص وأبي لهب وأمية بن خلف وأبي سفيان، فولدت عمرا فألحقته بالعاص، سُؤلت في ذلك فقالت: إنه كان ينفق على بناتي. (عمر بن العاص-عباس العقاد ص10)
كتبيوحنا النيقوسي القبطي (ربما تزلفا أو خوفا): وساد المسلمون العربمصر. وكان عمرو بن العاص يقوى كل يوم ويأخذ الضرائب التيحدّدوها. ولم يأخذ شيئًا من مال الكنائس ولم يرتكب شيئا سلبًا أونهبًا وحافظ عليها طوال الأيام. والحقيقة أن إقرار السماحة التي ذكرها النيقوسي عن العرب قد مرّت عبرأهوال كثيرة تجرعها المصريون حتى خضعوا واستتبتْ الأمور للغزاة الجدد. وفهم عمروبن العاص أنّ التغاضي عن مال الكنائس هومفتاح خضوع الشعب القبطيالكامل المحب لكنيسته،رغم ما كتبه النيقوسيفي البداية: لما استولى عمرو بن العاص على الاسكندرية جعل نهرالمدينة يابسًا وزاد الضرائب قدرإثنين وعشرين عصا من الذهب، حتى اختبأ الناس لكثرة البؤس وعدموا مايؤدون.وكماجاء عن ابن عبدالحكم في كتابه (فتوح مصروأخبارها) أنّ عمروبن العاص قال "من كتمني كنزًا عنده فقدرتث عليه قتلته" وسمع عمروأنّ أحد أهالي الصعيد اسمه بطرس عنده كنزفلما سأله أنكرذلك، وعندما تبيّن لعمرو صحة ماسمع عنه أمر بقتله، فلما سمع بذلك الأقباط أخرجوا كنوزهم خوفـًا من القتل.
كما وقع أيضا مؤرخي العصرالحديث في نفس المطب نصرة للعروبة والإسلامعلى حساب الحقيقة والمنطق، نجد كاتبًا مثل الدكتور جمال حمدان هذا (المثقف) الذي قرأ آلاف الكتب وكتب العديد من المؤلفات،عاند العقل الحروابتعد عن الحيدة وكتب:الحقيقة أنّ الدولة العربية كانت امبراطورية تحريرية بكل معنى الكلمة. فهيالتي حرّرتْ كل هذه المناطق من ربقة الاستعمارالروماني أوالفارسي واضطهاده (الوثني) وابتزازه المادي (استراتيجية الاستعماروالتحرر دارالشروق-عام83-ص25، 26) هو هنا يعتبر الفرس والرومان واليونان والمغول الذين احتلوا مصر غزاة إلاّالعرب فهم مُحرٍرون، مغالطا أومتجاهلاحقائق التاريخبأنّ الغزاة العرب كان هدفهم الأول هونهب ثروات الشعوب المغزوة، متخذين من الدين ذريعة ليس إلا، بدليل ما أشار إليه ساويرس بن المقفع يأنّ الهروب من الجزية كان أكبرعامل على انتشارالإسلام، وبالرغم من ذلك ظل المصريين يدفعون الجزية رغم إسلامهم، كما ظلت الأرض كافرة.وذُكر المقريزي أنّ الخليفة عبد الملك بن مروان كتب إلى أخيه وواليه على مصرعبد العزيزبن مروان، أنْ يضع الجزية على من أسلم من أهل الذمة.ثم يُردّد جمال حمدان كلام الأصوليين مثل جمال الدين الأفغاني عن الرابطة الدينية فكتب: واضح إذن أنّ أخوة الدين كان يقابلها أخوة الأقاليم، وسواسية الناس كانت تترجم سياسيًا إلى سواسية الولايات والمقاطعات. والأكثرتضليلا قوله: الحقيقة أنّ الدولة العربية الإسلامية كانت شركة مساهمة بين كل أعضائها وأطرافها. وأنها كانت أول كومونولث في التاريخ وأنها لم تمربالمرحلة الاستعمارية المُشينة التي مرّبها كومونولث اليوم ويستمر في التضليل دون حيدة أو تدقيق.كما لم ينتبه للتناقض الذي وقع فيه عندما كتب عن (الصراع بين الرعاة والزراع) بأنه صراع بين الرمل والطين، ثم يُغالط نفسه عندما نصّ على أنّ الصراع بين الفلاحين والرعاة هوصراع أشباه أكثرمنه صراع أضداد. ولا أدري كيف غاب عنه التناقض بين الفلاحين المُستقرين الذين وفروا لأنفسهم الطعام والكساء والمأوى، وبالتالي لم يُفكروا في غزوشعوب أخرى، وبين الرعاة الذين اعتمدوا على غزو ونهب ثروات الشعوب وسبى أطفالها ونسائها؟