بقلم د. رفعت السعيد
تعيش مصر زمناً تعانى فيه المرأة من تهميش وعدم تقدير. زمن لم نزل نناقش فيه بدهيات تجاوزتها البشرية، أقصد البشرية العاقلة التى تُعمل العقل واكتمال الحقوق المتكافئة. ولم تزل مصر تتلفت بحثاً عن ثقب إبرة تحشر فيه وعبره تمثيل «ملائم»، وهو وصف سخيف أرهقت لجنة الخمسين نفسها فى البحث عن كلمة تعبر عن أقل القليل فلم تجد أقل منها لكى تتمثل المرأة فى البرلمان.
وفى زمن ارتددنا فيه لنعود فنناقش حق المرأة فى العمل ـ مجرد العمل - وحقها فى التعليم، وباختصار عاد بنا الظالمون الظلاميون المتأسلمون ألف ألف خطوة إلى الوراء. وليس هذا هو الجرح الوحيد فى الجسد المصرى الملىء بالجراح، فهناك التمييز الدينى، والاستبعاد الدائم والمستمر للحقوق التى تليق بالمواطنة المتكافئة. فكم رأينا ولم نزل نرى حرمانا للمسيحيين من أبسط حقوقهم فى المساواة، وكم رأينا ولم نزل نرى صفوفاً من التمييز تثير الغثيان وصلت إلى حد أن وزيراً حالياً أتى بعد ثورة ٣٠ يونيو ليمارس التمييز الأسوأ من تمييز حكم مرسى البائد، فحرم مهندساً كبيراً من حقه فى تولى رئاسة هيئة السكة الحديد، وبرر ذلك وعبر ابتسامة صفراء بأنه يخشى عليه من خطورة المسؤولية، وهكذا تتدهور آليات المساواة والمواطنة المتكافئة لتهزم كل ممكنات الديمقراطية والتقدم. تتدهور بنا لنتدهور إلى مستوى أدنى حتى من أكثر دول أفريقيا تخلفا، فالمرأة الأفريقية تملأ رحاب البرلمان والوزارات، وأهم المناصب رغم تخلف مختلف مظاهر الحياة الأخرى، لأن أفريقيا السوداء اكتشفت أن المرأة المسؤولة فى أى منصب يمكن أن تكون بلسماً لأى جراح. أما التمييز على أساس من الدين فهو الرمز الأكثر فداحة للتخلف وافتقاد المساواة. ورغم أن مصر والمصريين يتحدثون طويلاً وكثيراً وبكلمات سميكة عن الديمقراطية والليبرالية والحريات والمساواة فإن مصر تظل فى ذيل القائمة، سواء قائمة احترام إنسانية المرأة أو احترام الحق المقدس لإنسانية المسيحيين وحقوقهم فى المشاركة الفاعلة والمتكافئة، أقصد المتكافئة تماماً فى كل مناحى الحياة، بحيث لا تكون قيوداً على التوظف ولا على ممارسة العبادات ولا بناء دور العبادة ولا الانتساب إلى كليات بعينها، بحيث يظل ذلك المصرى المسيحى محاصراً بإذلال باطنى يستشعر فيه دوماً أنه الأقل شأناً لا لذنب إلا لأنه مسيحى.
وفى مناخ كئيب كهذا تلمع نسمة عطرة بالعبق المصرى الأصيل فتنهض منى مينا، طبيبة مصرية مسيحية تجاوزت بشخصيتها الآسرة ونضالها المستميت من أجل مصر والشعب وحقوق الأطبا،ء كل عوامل التمييز المركبة، داست على التمييز ضد كونها امرأة، وركلت دعاوى رفضها لأنها مسيحية، وصعدت لتسمو فوق كل دعاوى التخلف والمتخلفين والتعصب والمتعصبين، فتتولى المنصب الرفيع فى نقابة الأطباء. تأملت امرأة بهذه المقدرة ومسيحية بهذا الإصرار وأحنيت رأسى احتراماً لها وللعراقة المصرية التى تستطيع أحياناً أن تدوس على التخلف الظلامى. ثم تساءلت هل هى حالة نخبوية وسط نقابة نخبوية؟ وتأتى الإجابة من الذاكرة فهناك عود سيسبان أخضر وأنيق هو العمدة إيفا، امرأة أيضاً، ومسيحية أيضاً، تتخطى كل عوائق التمييز لتصبح عمدة قرية «كومبوهو» فى أعماق الصعيد بمحافظة أسيوط. تعرفت عليها وأدركت كيف يستطيع الإنسان أن يتحدى الظلام وسخافة التمييز، وأن يدوس على ذلك كله لينهض.
ويبقى أن نتأمل معاً جوهر المأساة لنكتشف أن مصر الأصلية صحيحة الجسد وصحيحة العقل. وأن الخلل إنما يأتى من عقلية متخلفة ودعاوى متأسلمة هيمنت على مصر الحالية لتراكم على جسدها الأصيل صدأ التخلف والتعصب والتأسلم.. فتعالوا لنجلو هذا الصدأ لتعود مصر إلى جوهرها الأصيل الجميل.. وتعالوا لنحنى رأسنا احتراماً لـ«منى» و«إيفا».. ويا مسيحيى مصر وكل نساء مصر تعلموا من منى وإيفا.