بقلم : أحمد الخميسي
قضية التمويل الأجنبي عقدة تجتمع فيها المواقف المتضاربة لمختلف الأطراف السياسية بكل أطيافها. الدولة والحكومة طرف يستفيد من التمويل الأجنبي لكنه يندد به إذا ارتبط بتحرك مضاد للنظام. المتمولون بكل دكاكين حقوق الإنسان والجمعيات المدنية والمؤسسات الثقافية المشبوهة طرف يدافع بشراسة عن التمويل على أساس الشعارالتاريخي" أعطني مالا أعطيك نضالا ".
هناك أيضا فريق ثالث يخشى أن التصدي للتمويل الأجنبي يصب في طاحونة النظام. هناك ديمقراطيون جدد لا يرون في التمويل عيبا لكنهم يطمحون لربط التمويل بالشفافية والمحاسبة. الحديث عن التمويل إذن كالمشي على حبل رفيع لابد لك أن تحفظ توازنك وأنت تخوض فيه لكي لا تميل وتقع على غير موقفك. لهذا سأحاول أن أستل بدقة خيوط موقفي من عقدة المواقف المتشابكة، لكي يبقى في يدي وفي ذهن القارئ موقفي وحده. بداية أقول إن موقفي واضح من تلك القضية ولي مقال بهذا الصدد منشور في مطلع مارس 2005 بعنوان " التمويل الأجنبي عمالة صريحة"، ومازلت عند ذلك الموقف الذي سبب لي الكثير من وجع الدماغ.
كتبت بوضوح ضد مركز ابن خلدون وضد حافظ سعدة وضد المتمولين جميعا من أقصى اليمين إلي أقصى اليسار، ثم غمر التمويل العقل المصري واشترى بأبخس الأثمان أفضل الأماني الوطنية. ونجحت المخابرات الأمريكية تحت أقنعة ثقافية متعددة في شراء أكبر شريحة من العقل المصري يقتصر عملها على بلبلة العقل الوطني وطحن إرادته واقتياده لأهداف وقضايا جانبية وتفتيت الوعى بالقضايا الكبرى المشتركة إلي وعي جزئي بقضايا جزئية كحقوق الطفل، وحقوق المعاقين، وماشابه ، بحيث يتحول حق الوطن في الحرية والكرامة والاستقلال إلي مجموعة حقوق فئوية صغيرة لايربطها رابط. يقول البعض إن الهجوم على التمويل وعلى جماعة 6 أبريل الآن بعد تسريب التسجيلات الخاصة بتمولهم يصب في مصلحة الحكومة والنظام. ويقول البعض إن تسريب تلك التسجيلات تم بإيعاز من الحكومة، كما أن تسريب التسجيلات انتهاك لحقوق قانونية ودستورية. وسأوافق على كل ذلك، لكن هل يسقط موقفنا من التمويل لمجرد ان للحكومة مصلحة خاصة في مهاجمته الآن؟.
لقد كان ملف التمويل ومازال أحد أخطر الملفات وكان ومازال رصاصة أصابت العقل الوطني وشوهت ذكرياته وجرفت إرادته وحطمتها. يقولون إن الحكومة أيضا تتمول، فإذا كانت الحكومة تبني السجون للشعب فهل يعني ذلك أن أبني السجون للشعب؟!. الفرق بين النظام السياسي المتمول عبر صندوق النقد والمساعدات المشروطة وبين فرق المثقفين المتمولين من العملاء أن الحكومة لا تدعي أنها " ثورية " وأنها تفتقد تلك المقدرة التي يتمتع بها المثقفون على بلبلة الناس وتكسير الأهداف الكبرى إلي مجموعة مصالح صغيرة.
يقولون أيضا إن المقصود بتسريب التسجيلات هو تشويه انتفاضة 25 يناير و30 يونيو. والحق أنه ما من تشويه لتلك الانتفاضات أضخم من المجموعات الممولة التي تحشو جيوبها بالمال ثم تتقدم الصفوف لتحشو عقول الناس بالمخططات الأمريكية. التمويل الأجنبي مهانة وعار لا يرتضيه كل من لديه قدر من الكرامة واحترام النفس. علاوة على ذلك فإن الحركة الوطنية المصرية التي كافحت كل أنواع الاستعمار وجيوشه لم تعرف أبدا نضالا بفلوس إلا في العقود الأخيرة ! وإذا كان للحكومة أو أية أطراف أخرى مصلحة خاصة في تسريب التسجيلات أو الهجوم على مجموعة بعينها فإن ذلك ليس سببا يمنعنى من الإعلان عن موقفي وتكرار أن التمويل الأجنبي رصاصة موجهة إلي العقل والضميروالإرادة.