فوزية سلامة | الخميس ١٦ يناير ٢٠١٤ -
٥٣:
١٠ ص +02:00 EET
بقلم فوزية سلامة
هل سألت نفسك يوما ماذا يبكيك؟ ما الذي يحرك في نفسك الحزن والشجن فتفعل الغدد الدمعية فعلها؟ لقد حاولت أن أفك هذا اللغز ففشلت؛ لأنني أبكي أحيانا من الفرح، وقد أبكي لذكرى عزيز رحل، ولذلك وسعت دائرة البحث وفتشت في ذاكرتي عن مواقف أبكت غيري لعل هذا القدر من الحياد يوصلني إلى الإجابة التي أبحث عنها. وليتني ما فعلت. فقد تمثل أمامي وجه أبي الذي لم أره باكيا إلا مرة واحدة، وكان ذلك يوم سفري من الوطن للدراسة في الخارج. ولا أنكر أن لتلك الذكرى لسعة مثل لسعة عقرب سامة، إن لم تسرع بعلاجها قتلتك. ففيها خليط من سم الإحساس بالذنب لأنك تسببت في فرض هذا الأسى على أبيك، وفيها إدراك بأن هذا الأب رحل عن عالمنا، وفيها نظرة شمولية إلى واقعك تفضي إلى سؤال تطرحه على نفسك: لو عاد الزمن إلى الوراء هل كنت تفارق من تحب بحثا عن مستقبل أفضل؟ أسئلة تتقاطع، وأخرى تدور حول نفسها في حركة لا تنتهي. وفي النهاية أستخلص من الذكرى إجابة تفيد بأن اشتياق الوالد للمولود أعمق بكثير من اشتياق المولود للوالد.
وهنا أطل على وجه جدتي لأمي. كنت أهابها كثيرا. كانت إذا جاءتنا زائرة لاحظت أنها لا تبتسم إلا قليلا. كان الجميع يعتبرها امرأة ذات بأس لأنها ترملت وهي في شرخ الشباب، ورغم انتمائها لبيئة ريفية لا تستسيغ أن تبقى امرأة بلا زواج لم تتزوج، بل أصرت على إدارة الثروة الصغيرة التي تركها زوجها وتربية بناتها الأربع حتى تزوجن. وكانت أمي ثالثة البنات تصغرها أخت واحدة.
أتذكر إحدى زيارات جدتي إلى بيتنا، كانت شديدة النحافة، بيضاء الوجه، لا تلبس إلا ملابس بيضاء بعد أن أدت فريضة الحج. أتذكر تلك الزيارة بالتحديد لأنها تزامنت مع سفر خالتي الصغرى إلى مدينة بعيدة في صعيد مصر برفقة زوجها بسبب انتقاله للعمل هناك. كانت قليلة الكلام وقليلة الحركة، تجلس إلى جوار النافذة وتسرح ببصرها بعيدا، وكنا نحن الصغار نمتثل لأوامر مشددة بألا نزعج الحاجة لأنها لا تحب الدوشة.
في صباح أحد الأيام كنت أجلس إلى ألعابي في مكان غير بعيد عن جلسة جدتي، وكان المذياع في زمن ما قبل التلفزيون هو سيد الموقف. كان فريد الأطرش يغني: «أحبابنا يا عين ما هم معانا.. رحنا وراحوا عنا، ما حد منا اتهنى، عيني يا عيني».
وهنا كانت المفاجأة. فقد تفجر حزن جدتي بكاء وشهيقا يهتز معه جسدها النحيف. ولم أجرؤ أنا في سن الثامنة على الاقتراب منها، بل عدوت بكل عزم إلى حيث كانت أمي لأخبرها بما كان. فهرعت إليها أمي واحتضنتها بقوة وقالت لها: لا تبكي يا حاجة.. فاطمة بخير وهي في حمى زوجها وسوف تعود لك بالسلامة في عطلة الصيف.
فهمت سر دموع جدتي آنذاك وما زلت أتذكر وجهها البيضاوي النحيف كلما هزني الشوق إلى ابنتي.
منذ أسبوعين سافرت لأداء عمل. وانشغلت بعملي إلى الأمس حين اعترتني حالة الشوق الغريب والتي لا يمكن توصيفها بدقة. كفى أن أقول إنها لحظة تشبه في وقعها هول المفاجأة التي نجرب إذا تعثرنا أثناء المشي. لحظة ما قبل السقوط مخيفة ولكنها تزول. بكيت اشتياقا إلى ابنتي فامتدت يدي نحو الهاتف رغبة في وصالها ثم عدلت. منعتني الكبرياء. ولكن كرم الله عظيم. فقد رن الهاتف بعد دقائق وجاءني صوتها عبر الأثير: ماما.. كيف حالك؟ وهنا ذابت كبريائي فأجبت: بخير يا حبيبتي. كم اشتقت لك.
نقلأ عن الشرق اللأوسط
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع