أعرف أنى أطرح فى الثقافة أسئلة كثيرة لا أتمكن دائماً من الإجابة عليها كلها، ليس فقط لأن المساحة محدودة مهما اتسعت، بل لأن الثقافة ليست موضوعاً بسيطاً نجيب عليه بلا ونعم، وإنما هى قضية مركبة، كما سبق أن ذكرت، وعناصر متداخلة، وقوى متصارعة، وأسئلة تولد من أسئلة، ونجد أنفسنا معها فى متاهة أو غابة مترامية من علامات الاستفهام يأخذنا فيها السؤال إلى السؤال ويلح علينا فى أن نجيب عليه فنفعل أحياناً قبل أن ننتهى من الإجابة على السؤال الذى سبقه.
هكذا بدأت هذه المقالات بحديث عن الثورة، لكن أسئلة الثورة أخذتنى إلى الثقافة التى طرحت علىّ أسئلتها، وأولها هذا السؤال الملح عن علاقة الثقافة بالدولة. كيف تستقيم هذه العلاقة وكيف تنحرف؟ كيف تكون الدولة راعية للثقافة دون أن تفرض سيطرتها أو تلزمها باتباع سياسة بالذات؟ وكيف تتمتع الثقافة برعاية الدولة، دون أن تفقد استقلالها أو تضع نفسها فى خدمة الحكومة؟
ولقد كان هذا السؤال مطروحاً دائماً علينا منذ أنشئت وزارة الثقافة فى الخمسينيات الأخيرة من القرن الماضى، وأصبحت الدولة مسؤولة مسؤولية تكاد تكون كاملة عن النشاط الثقافى فى كل المجالات. فالكتب والمجلات تصدر عن وزارة الثقافة، والعروض المسرحية بكل أشكالها، والأفلام السينمائية والمتاحف والمكتبات، وفنون الأوبرا، والسيرك، وأكاديمية الفنون، وقصور الثقافة.
لكن السؤال الذى كان مطروحاً وملحاً فى العقود الماضية أصبح أكثر إلحاحاً فى السنوات الثلاث الأخيرة التى خرجنا فيها من نظام يوليو الذى شاخ وسقط كأنما سقط من نفسه، وتلاه نظام الإخوان الذى أسقطناه قبل أن يسقطنا، ونحن الآن فى مفترق الطرق: طرق السياسة وطرق الثقافة معاً، أو طرق السياسة المختلفة وثقافاتها المختلفة، فالطغيان ليس نظاماً سياسياً فحسب، وليس شرطة وإذاعة فقط، وإنما هو ثقافة أيضاً، كما أن الديمقراطية سياسة وثقافة فى وقت واحد.
كيف إذن نتخلص من ثقافة الطغيان، وهى تزوير وتلقين وتقليد وتشبث بالماضى وخلط بين الدين والسياسة، لنبنى الديمقراطية؟ وكيف نتعلم ثقافة الديمقراطية التى نحتكم فيها للعقل ونفصل بين الدين والسياسة ونندفع فى طريق المستقبل لنتخلص من الطغيان؟
أول ما يجب علينا ونحن نسعى لبناء الديمقراطية أن نحرر الثقافة من تبعيتها للسلطة الحاكمة. والفرق كبير بين السلطة والدولة، وبين رعاية الدولة للثقافة ووضعها تحت سيطرتها، وإذن فالسؤال هو: هل يمكن للثقافة أن تنال رعاية الدولة وتحافظ فى الوقت ذاته على استقلالها؟ وهل تستطيع الثقافة أن تكون هى نفسها سلطة مستقلة عن السلطة الحاكمة؟
طبعاً، تستطيع الثقافة أن تكون سلطة مستقلة، وأن تكون فوق ذلك سلطة فاعلة، وقد أثبتت الثقافة المصرية قدرتها على انتزاع استقلالها، وتحولت فى بعض المراحل إلى سلطة فاعلة تمثلت فى عدد من المثقفين المصريين الذين قادوا حركة النهضة المصرية فى كل مجالاتها، وجمعوا بين القدرة على التفكير والقدرة على التعبير والقدرة على التغيير.
الإمام محمد عبده جدد الفكر الإسلامى وشارك فى الثورة العرابية التى طالبت بالدستور والحكم النيابى ورفعت شعار مصر للمصريين. وخالد الذكر سعد زغلول لم يكن زعيماً سياسياً فحسب، بل كان قبل الزعامة السياسية تلميذاً من تلاميذ الأفغانى وكان كاتباً وخطيباً، وقاسم أمين حرر المرأة المصرية من سجنها الألفى، وفتح أمامها أبواب الحياة، وطه حسين حرر العقل، وعلى عبدالرازق أفسد سعى الملك فؤاد والأزهر لنقل الخلافة وتحويل الدولة المصرية الوطنية إلى دولة دينية.
لكن الثقافة المصرية فقدت سلطتها هذه فى العقود الستة الماضية وفقدت استقلالها، فهل كان السبب رعاية الدولة لها؟ وهل كانت وزارة الثقافة هى أداتها فى السيطرة على الثقافة وترويض المثقفين؟ أم أن الدولة كانت تستطيع بأدواتها الموروثة أن تسيطر على الثقافة دون أن تنشئ لذلك وزارة؟ وهل يمكن أن تقوم وزارة للثقافة فى ظل نظام ديمقراطى يرعى الثقافة ويحترم استقلالها؟
الدستور المصرى الجديد يجيب بالإيجاب.. فهو ينص على أن الثقافة حق لكل مواطن تكفله الدولة وينص أيضاً على أن حرية الفكر والإبداع مكفولة.
وفى التجارب العملية التى قدمتها بعض الدول الأوروبية ومنها فرنسا إجابة مماثلة، ففى الوقت الذى أنشأنا فيه وزارة للثقافة ـ الخمسينيات الأخيرة من القرن الماضى ـ أنشأ الفرنسيون مثلها وتولاها أندريه مالرو، وهو كاتب مرموق ومناضل أممى فى سبيل الحرية والديمقراطية، أنشأ الوزارة وحقق فيها الشرطين معاً: تقديم الخدمة الثقافية الرفيعة والمحافظة على استقلال النشاط الثقافى وعدم المساس بحرية الإبداع والمبدعين. وهذا ما لم نستطع أن نحققه نحن فى تجربتنا العملية، لأن النظام الذى أنشأ الوزارة عندنا وهو نظام يوليو كان نظاماً شمولياً وضع يده على كل المنابر وفرض عليها وصايته ومنعها من أداء رسالتها فى النقد والمراجعة وطارد المعارضين وصادر أعمالهم. وهكذا تراجعت الثقافة المصرية وانطفأت شعلتها وخسرت نفسها وخسرتها الدولة والسلطة التى أعماها الاستبداد وأفقدها صوابها ودخل بها فى سلسلة من المغامرات الطائشة انتهت بها إلى المصير الذى لقيه النظام العسكرى فى ثورة يناير ولقيه وريثه النظام الدينى الفاشى فى ثورة يونيو. وإذن فنحن الآن فى مفترق الطرق: وراءنا ماض لم نراجعه، ولم نحص ما كان فيه من أرباح وخسائر، وأمامنا مستقبل لا نملك من أدوات بنائه إلا الشعارات التى نرفعها دون أن نستكشف قدرتنا على تحويلها إلى واقع حى، ودون أن نحسب حساباً للرياح المواتية والمناوئة، وهو ما لا نستطيع القيام به إلا إذا وضعنا أيدينا على حقائق الماضى وقوانينه وتجاربه ودروسه المستفادة لكننا لم نفعل لأننا نقدس الماضى ولا نجرؤ على تشريح جثته، وهذا مرض قديم مستوطن يلقى بنا خارج التاريخ ماضيه وحاضره ومستقبله.
نحن لا نرى الماضى كما كان فى الواقع، بل نراه كما كنا نحب أن يكون، ومع أنه تحقق بالفعل وباستطاعتنا أن نقرأ أخباره ونستجوب أحجاره فنحن نخاف من معرفة الحقيقة ونهرب من التاريخ إلى الأسطورة.
ونحن لا نسلك هذا السلوك مع ماضينا القديم الذى بعد العهد بيننا وبينه فحسب، بل هو سلوكنا أيضاً مع ماضينا القريب الذى نخشى أن ننظر فيه حتى لا نرى ما نكره، وإلا فما الذى نعرفه عن نظام يوليو؟ ما الذى نعرفه عن القوى الظاهرة فيه والقوى الخفية؟ وعما ربحناه فيه وعما خسرناه؟ وما الذى نعرفه عن جماعة الإخوان وعن جماعات الإسلام السياسى بشكل عام؟
لقد كنا نعرف على الأقل أن هذه الجماعات حملت السلاح على الدولة والمجتمع، ولم تخف عداءها للدولة المدنية والديمقراطية التى رفع الثوار شعاراتها، ومع هذا استطاعت هذه الجماعات أن تصل إلى السلطة بأصوات الناخبين، فإذا كنا نجهل حقيقة هذه الجماعات التى لاتزال تتحرك بيننا وتعلن عن نفسها وتصرح بأهدافها، فكيف نعرف ما حدث لآبائنا وأجدادنا فى القرون الخوالى؟
وإذا كنا نجهل ما عشناه فى الماضى فكيف نعرف ما لم نعشه فى المستقبل؟ والمناخ الراهن ملبد بالغيوم، الأمن الآن قضية الساعة والخبز مطلوب قبل الحرية!
نحن إذن فى وضع لا نحسد عليه. واقفون خارج الزمن. الماضى مغلق فى وجوهنا، لأنه مضى وانقضى وأصبح أثراً بعد عين. والمستقبل مغلق لأننا لا نعرفه ولا نريد أن نعرفه، وإنما نريد أن نحوله إلى مسرح نلعب على خشبته مسرحية «أهل الكهف». نحن إذن لم نتخلص من ثقافة الطغيان!
نقلا عن المصري اليوم