مرتفعاً عن الأرض، وضع لعالمه ملامح أخرى خارج حدود عالم البشر، قريباً من السحاب، ملاصقاً لكهف ناجى فيه سيدنا "موسى" ربه قبل لحظات التجلى، مواجهاً لتلال غطاها الجليد وخيم عليها الصمت، هو موقعه وحده بعيداً عن صخب الحياة التى تركها باختياره، ليستقر فوق قمة جبل موسى طوال 27 عاماً كاملة انفصل خلالها عم "سليمان سلامة" عن حال أهل الأرض، واكتفى بمتابعتها من أعلى فى عالم آخر لا يعرف سوى الصمت لغة، والسلام النفسى أسلوباً للحياة، قمة جبل موسى هى منزله المتواضع، وسور كهف المناجاة هو موضع فراشه وصالونه البسيط لاستقبال زوار القمة.
أسند ظهره إلى الكهف معتدلاً على فرشة مهترئة، بجانبه وضع بعض العلب لمأكولات بائسة يبيعها لمن نجحوا فى استكمال الصعود بين رحلة وأخرى، أصوات متداخلة وضحكات لأفواج من الزائرين تخرجه عن شروده للحظات اعتادها لكسر ساعات الصمت يعود بعدها "عم سليمان" لواقعه الهادئ، شاى أو قهوة، تبغ بدوى أو حفنة من الأعشاب الجبلية يحركها عم سليمان فى ماء ساخن، هى ما يعرضه عليك أثناء التقاط أنفاسك بعد الوصول، أريكة خشبية اعتلاها الكليم، وبقايا فحم مشتعل فى محاولة للتدفئة ليلاً هى كل ما يملك بجانب ابتسامته الصافية وعروضه على الزائرين بقضاء الليلة فوق الجبل،
ببساطة يمكنك جذب أطراف الحديث مع "عم سليمان" حول كوب من الشاى الممزوج بالأعشاب "يا مرحب بالمصريين منورين الجبل"، تنتهى ضجة الزائرين، تخفت الأصوات شيئاً فشيئاً، يخيم الصمت ويبدأ عم "سليمان" فى الحديث عن حياته مع الجبل، "أنا طلعت الجبل من 27 سنة، ومن يومها ما نزلتش، اللى يعيش على الجبل ويدوق طعم الهدوء ما هينزلش أبداً" لهجة بدوية محببة تدفعك لاستكمال الحديث الذى لا يبخل به "عم سليمان" مثل أكوابه الساخنة من الشاى والقهوة، وضحكاته عند التندر بحكايات السهر فى ليالى ثلجية: "أحنا الجبالية، يعنى قبيلة الجبل، حياتنا فى الجبل، عايشين على السياحة اللى ما بقتش موجودة زى زمان، فى البداية كانت أفواج السياح ما بتتقطعش عن الجبل، كانوا يجوا فى رحلات من نص الليل عشان يشوفوا شروق الشمس هنا، وساعات كتير كانوا بيقضوا الليلة".
حال لم يعد كالسابق هو ما يتحدث عنه "عم سليمان" الذى اعتمدت حياته على السياحة مثل غيره من أهالى سانت كاترين التى طالتها الأزمة أكثر من غيرها، ويقول "بعد ما بيقولوا عملوا الثورة، السياح طفشوا، كلهم خايفين، أحنا بنسمع الراديو، نفسنا بس يستقر الحال، ونقول للعالم إن فى هنا آمان، أحنا بعيد عن مصر واللى بيحصل فيها".
ابتسامة لا تخلو من خجل يجيب بها عن مصر البعيدة قائلاً: "المصريون غيرنا، عواديهم غير عوايدنا" فى إشارة لأهل القاهرة والمدن، نظرة لامعة تفهم منها ما يخفى "عم سليمان" من حكايات عن زوار الليل، وأصحاب الأصوات الهامسة فى ظلام الجبل الحالك، عن الرعب الممزوج ببرد القمة القارص يحكى نوادره قائلاً: "معروف أن الجبل مسكن الجن، هنا لو قلبك مش جامد ممكن تتجنن، ساعات بسمع أصوات وضحك، وساعات بشوف قدامى خيالات، وساعات ناس تكلمنى فى الأحلام، بس ما بأذيش حد وما حدش بيأذينى، وساعات بتونس بالكهف اللى فيه ناجى موسى ربه".
يهبط الزائر الأخير، ينتهى صخب يومه، يعود للصمت متمتماً بأدعية تكسر رعشة جسده بفعل البرد أحياناً، وحركات الظلام أحياناً أخرى، أيام تمر كغيرها، ليعود زوار الجبل لتفقد حال "عم سليمان" ساكن القمة وحارس الكهف، وصاحب أسرار الظلام والصمت فوق أعلى قمة فى مصر.