كل ما فى المسيح عيسى، عليه السلام، رائع ونقى وصاف كالماء الزلال.. لا أدرى كيف وبماذا أبدأ مع هذا النبى العظيم.. كلما قررت أن أبدأ بشىء شدنى فيه شىء آخر.
قررت منذ أيام أن أبدأ كالمعتاد بلحظات ميلاد المسيح عيسى، عليه السلام.. فتأملت هذه اللحظات فوجدتها رائعة.
تأملت قصته جنيناً فى بطن أمه.. فإذا به لا يسبب آلاماً لأمه فى حمله أو ولادته.. إنه كعادته دائماً لا يضايق ولا يؤذى أحداً.. فكيف بأمه؟.
لقد تحدث القرآن العظيم عن الأم والجنين قائلاً «حمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً» وذلك من شدة التعب والألم فى الحمل وقسوة طلق الولادة وآلامها.. ولكن عيسى عليه السلام أبى إلا أن يسعد الآخرين منذ أن كان جنيناً فى بطن أمه مروراً بكل حياته.
وحينما ولدته أمه رأى الخوف والهلع فى عينيها.. فماذا تقول لقومها وأهلها وهى العابدة الذاكرة التقية الورعة صاحبة الكرامات.. وكيف تتحدث عن ابنها وليس لها زوج.. فإذا بالطفل الصغير عيسى، عليه السلام، يجدد رسالته مرة أخرى ليبث الطمأنينة والأمن إلى قلب أمه ويعيد السعادة إلى وجهها الحزين الذى تمنى الموت منذ لحظات الولادة الأولى حينما قالت: «يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً».. فإذا بابنها الصغير الرحيم يهدئ من روعها «فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً» أى جدولاً تشربين منه، وذلك حسب قول بعض المفسرين.. ما هذا؟.. طفل يطمئن أمه!!.. مع أن كل الأمهات يقمن بهذه المسؤولية مع أولادهن.. لقد تحمل عيسى، عليه السلام، المسؤولية نحو الآخرين منذ أول يوم قدم فيه إلى الحياة.
وبعد أن قررت أن أبدأ كتابتى بهذه البداية بهرتنى قصته فى ختام حياته واستوقفتنى كثيراً.. إنها تحمل نفس معانى البداية.. فقد اجتمع الغوغاء من اليهود وكهنة المعابد، الذين يشرون الدنيا بالآخرة، على الفتك بعيسى عليه السلام.
وحينما هاجموا بستان الزيتون الذى كان يعيش فيه مع حوارييه وتلاميذه.. تقدم المسيح عليه السلام من الحراس وسألهم: من تطلبون؟.. فأجابوه «الناصرى». فقال لهم: أنا هو. ولست أسألكم إلا شيئاً واحداً وهو أن تتركوا تلاميذى هؤلاء يذهبون إلى بيوتهم حتى أستطيع أن أقول لربى حين ألقاه «إن الذين أعطيتنى لم أهلك منهم أحداً».. وافق الحرس على هذا الاختيار فقد كانوا يريدونه وحده.
هزتنى هذه النهاية.. رجل لا يذكر نفسه ولا يهتم بحياته ولا نجاته بقدر اهتمامه بأن يسلم تلاميذه وشعبه وأمته من الأذى، حيث اعتبرهم منحة من ربه لا ينبغى تضييعها.. إنه يهتم فى المقام الأول بأبنائه وشعبه وأمته وبحياتهم وحقن دمائهم قبل أن يهتم بنفسه.
والعلة فى ذلك كله الخوف من الله حينما يسأله عن رعيته فيقول لربه ومولاه «إن الذين أعطيتنى لم أهلك منهم أحداً».
إنها نفس الفكرة التى جاء بها موسى لكى ينقذ رعيته وأبناءه من عذاب وطغيان فرعون «فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ».
ونفس الفكرة التى رضى من أجلها محمد، صلى الله عليه وسلم، بالشروط المجحفة فى صلح الحديبية رغم مبايعة ١٤٠٠ من أصحابه له بيعة الموت التى سميت «بيعة الرضوان» فأبى أن يضحى بدمائهم ودماء أهل مكة من المشركين؛ حيث أدرك ببصيرته وحكمته أنهم سيؤمنون بعد ذلك.
إنه الإيثار والحب الذى جمع هؤلاء جميعاً.. بدلاً من الأنانية والكراهية والتضحية بالآخرين من أجل مناصب زائلة أو دنيا فانية.
إن أمثال المسيح وموسى ومحمد عليهم السلام هم المثل العليا لمن يقدم همَّ الآخرين على همه.. ويخاف عليهم قبل أن يخاف على نفسه.. ويؤمِّن الآخرين قبل أن يؤمِّن نفسه.
ويشترط النجاة والأمان للآخرين قبل أن يشترطهما لنفسه.. وهؤلاء جميعا نجاهم الله.. فقد حمى الله عيسى من مكرهم فلم يمكنهم منه «بل رفعه الله إليه».. فمن حمى الآخرين حماه الله.. ومن حقن دماءهم حقن الله دمه.
نقلا عن المصري اليوم